23 ديسمبر، 2024 12:30 م

محمد مهدي الجواهري .. الصحفي الملتزم المعبر عن ضمير شعبه !!

محمد مهدي الجواهري .. الصحفي الملتزم المعبر عن ضمير شعبه !!

من أسرة عريقة في العلم والأدب والشعر. وفي مجلسها العامر بالأدب والأدباء، والذي يرتاده كبار الشخصيات الأدبية والعلمية والاجتماعية، ترعرع محمد مهدي ألجواهري، الذي اكتسب شهرته من باني مجد أسرته الفقيه محمد حسن، صاحب كتاب (جواهر الكلام) ومنذ صباه كان ما يصدره جواهر الكلام (شعراً وأدباً ومقالة) تعبر عن ضمير الشعب، كان يفتش عن نفسه بين نجوم السماء، حيث يقول (كلما حدثت عن نجم بدا… حدثتني النفس آنذاك أنا)، شاعرنا الأكبر كان كاتبا وصحفيا من الطراز الأول.
محطات رئيسية في حياته:
ولد محمد مهدي عبد الحسين علي ألجواهري في مدينة النجف الاشرف، واختلف المؤرخون في تحديد تاريخ ميلاده، فيقال العام 1899 والأكثرية تقول العام 1900، وهو يكثر من قوله انه ولد العام 1903.. درس ألجواهري على عدد من الشيوخ (النحو والصرف والبلاغة والفقه) وما إلى ذلك من منهاج الدراسة لكنه لم يلتزم بالتدرج العلمي الذي جرى عليه طلبة العلم في النجف.. اشتهر ألجواهري بالشعر، فلقب بشاعر العراق والعرب الأكبر.. وفي هذه الدراسة المكثفة لا نتناول ألجواهري الشاعر، وإنما نتناول ألجواهري (الكاتب والصحفي) المعبر عن ضمير الشعب. *نظم الشعر في سن مبكرة، تأثراً ببيئته، واستجابة لموهبته الكامنة فيه. *لم يبق من شعره الأول شيء يذكر، وأول قصيدة كانت قد نشرت له في كانون الثاني العام 1921، واخذ يوالي النشر بعدها في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية. *تبوأ مكانا مرموقا بين شيوخ القريض في بلدته. *نشر أول مجموعة له باسم (حلبة الأدب) عارض فيها عددا من الشعراء المعاصرين والقدامى.
سافر الى إيران مرتين، الأولى العام 1924، والثانية العام 1926، وكان قد اخذ بطبيعتها، فنظم في ذلك مقطوعات عدة. ترك مدينة النجف العام 1927 ليعين مدرسا في المدارس الثانوية، لكنه فوجئ بتعيينه معلما على الملاك الابتدائي في الكاظمية.
وفي العام نفسه اصدر ساطع ألحصري، مدير المعارف العام آنذاك أمراً بإنهاء خدماته بسبب نشره قصيدة (بريد الغربة) التي استوحاها من طبيعة إيران، في أثناء سفرته الثانية إليها، وقد اتخذ من بيت ورد فيها ذريعة للإيقاع به.
احدث هذا الأمر ضجة فتدخل وزير المعارف آنذاك (السيد عبد المهدي) وألغى قرار الفصل لكن ألجواهري استقال من وظيفته بعد اقل من شهر..
ولما اتسعت الضجة رأى البلاط الملكي إن يضع حدا لها، فعينه بدائرة التشريفات فيه.
وفي عام 1924 اعد للنشر مجموعة من شعره تحت عنوان (خواطر الشعر في الحب والوطن والربيع)، ثم أضاف إليها ما استجد له من شعر، وبدأ طبعها عام 1927 تحت عنوان (ديوان محمد مهدي ألجواهري).. وعندما أنجز الطبع عام 1928 صدر تحت عنوان (ديوان بين الشعور والعاطفة) لصاحبه محمد مهدي ألجواهري.

التاريخ الصحفي للجواهري:
أواخر العام 1936 اصدر جريدته (الانقلاب) اثر قيام الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي.. وعندما تغيرت حكومة الانقلاب أخذت جريدة الانقلاب معارضة سياسة الحكم.. فأخذت الحكومة تتحين الفرص وتم لها ذلك.. وحكم عليه بالحبس لمدة ثلاثة أشهر وإيقاف الجريدة عن الصدور شهرا.
بعد اغتيال بكر صدقي وسقوط انقلابه.. غير ألجواهري اسم جريدته إلى (الرأي العام) ولم يتح له مواصلة الصدور.. فعطلت أكثر من مرة بسبب ما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة وكان يصدر في أثناء تعطيل (الرأي العام).. جرائد أخرى بأسماء أخرى.. باسمه أو بأسماء آخرين (كالثبات) و (الجهاد) و (الأوقات البغدادية) و (الدستور) و(وصدى الدستور) و (الجديد) و (العصور).
لما قامت حركة مايس العام 1941 في العراق أيدها وبعد فشلها غادر العراق مع من غادر الى إيران.. عاد الى العراق في العام نفسه.. واستأنف إصدار جريدته (الرأي العام).
عندما بعثت الحياة الحزبية في العراق في 2 نيسان العام 1946 انظم ألجواهري الى حزب الاتحاد الوطني المجاز.. ووضع جريدته الرأي العام تحت تصرف هذا الحزب على إن حزب الاتحاد الوطني ما لبث بعد فترة قصيرة أن حصل على امتياز بإصدار صحيفة ناطقة بلسانه باسم (السياسة).
فعادت (الرأي العام) مستقلة.. وفي العام 1947 دخل المجلس النيابي نائبا عن كربلاء واستقال من هذا المجلس مع من استقال من نواب المعارضة احتجاجا على السياسة التعسفية التي أرادت فرض المعاهدة العراقية ـ البريطانية الجديدة (معاهدة بورتسموث) فكانت وثبة كانون الثاني العام 1948 التي استشهد فيها أخوه (جعفر) فزاد حقدا على الاستعمار والحكومات الرجعية. وعندما طلب منه العودة الى المجلس النيابي من جملة من عاد إليه من المستقيلين امتنع عن ذلك.
ـ العام 1950 اصدر جريدة (الأوقات البغدادية) لصاحبها زكي احمد..
ـ العام 1952 اصدر صحيفة (الجهاد)..و على اثر انتفاضة العام 1952 أغلقت جريدته (الجهاد).. واعتقل ألجواهري في معتقل أبو غريب.
ـ العام 1953 اصدر جريدة (الغد) لصاحبها محمد شوكت.

ألجواهري وثورة 14 تموز 1958:
عند قيام ثورة 14 تموز 1958 أعلن ألجواهري تأييده بقوة للثورة وحياها بقصيدته: (سدد خطاي لكي أقول فأحسنا فقد أتيت بما يجل عن الثنا).
في 18 تشرين الأول 1958 اصدر ألجواهري جريدته (الرأي العام).. وتعتبر من أجرأ الصحف في تلك الفترة.
منذ العام 1960 كتب مقالات عديدة تؤشر السلبيات والأوضاع المتدهورة في بعض مناطق العراق.. خاصة في منطقة الميمونة في العمارة ـ تحت عنوان (ماذا في الميمونة؟).. على اثر ذلك تعرضت الجريدة الى التعطيل.
ـ في السابع من أيلول العام 1959 عقد المؤتمر التأسيسي لنقابة الصحفيين.. وانتخب ألجواهري نقيبا لها.. وحصل على 163 صوتاً.. وقد افتتح هذا المؤتمر الزعيم عبد الكريم قاسم.. الذي دعا فيه الصحفيين الى التسامي والتخلق بالأخلاق الفاضلة.. وعدم اللجوء الى المهاترات والقذف والطحن.. ووصف الزعيم قاسم الصحفيين بأنهم رسل المحبة وعليهم العمل على تقارب أبناء الشعب ومحو شقة التباعد.
ويبدو أن بعض الصحف استمرت في القذف والشتم والمهاترات فتصدت جريدة بغداد لصاحبها خضر العباسي وهي ذات توجه رجعي.. وشنت هجوماً على ألجواهري.. فردت الرأي العام عليها متسائلة عن أسباب هذا الهجوم والكلمات البذيئة والشتائم !
من جانبه فان الزعيم عبد الكريم قاسم استدعى ألجواهري الى مكتبه في وزارة الدفاع واستقبله وعاتبه على نقده للأوضاع.. فكان موقف ألجواهري واضحاً.. بان نقده وتأشير السلبيات يخدم الثورة لمعالجة السلبيات!!
إلا الأوضاع أخذت في التردي مما حمل الحاكم العسكري العام الى غلق جريدة بغداد وصحف أخرى.. وازاء تلك الأوضاع لم يجد ألجواهري سبيلا سوى بتقديم استقالته من نقابة الصحفيين.. لكن الاجتماع الاستثنائي للنقابة رفض الاستقالة.. وأعلن تأييده المطلق للجواهري ودوافعه النبيلة بتقديم الاستقالة.. ودعت الى تنقية الجو الصحفي من العناصر الفاسدة.. ومن المهاترات.. ومن جرح الكرامات.. ومن الدس على الجمهورية.. وتحريم تلك العناصر من الاشتغال في الصحافة.
انتهز ألجواهري دعوة حضور تكريم الأخطل الصغير في بيروت العام 1961.. لمغادرة العراق.. ومن بيروت استقر في براغ ضيفا على اتحاد الأدباء الجيكوسلوفاك.. حيث أقام فيها سبع سنوات اصدر فيها ديوان جديد اسماه “بريد الغربة”.

أسلوب الجواهر الصحفي:
ـ امتاز ألجواهري بأسلوبه الواقعي والتحليلي للموضوعات التي يتناولها، وكان جل اهتمامه بالموضوعات العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال أطروحاته التي تعبر بحق عن مطالب الشعب وطموحاتهم.
أفضل من يتحدث على إسلوب ألجواهري الصحفي..الصحفي طه التكريتي:
ـ إن كتابات ألجواهري الصحفية تحدد بما لا يدع مجالا للشك والريبة.. مواقف ألجواهري الحقيقية من الأحداث التي كانت تلم بهذا البلد.. ومن القيادات الخفية والعلنية.. التي كانت تتقاذفه والأطماع والمصالح الأجنبية فيه..
ـ تكشف كتابات ألجواهري.. النزعة الوطنية الكامنة في روحه.. تلك النزعة تجسد أمانيه في التخلص من النفوذ الأجنبي.. وبناء عراق مستقل متحرر.. وحياة كريمة لشعبه.
ـ للجواهري طريقته الخاصة في الكتابة الصحفية.. فهو يجود ويطول في مقالاته أحياناً.. ثم يوجز ويقصر منها في معظم الأحيان.. وتتسم مقالاته كلها.. ومعظمها من المقالات السياسية بالمسحة الأدبية الظاهرة عليها.
ـ تتجسد انفعالاته في استخدام اشد العبارات عنفا في مهاجمة الجهة التي ينقدها.. وفي الدفاع عن الجهة التي يظاهرها كشأنه في قصائده الوطنية.

عودة الراحة .. ولكن:
في أواخر العام 1968 عاد ألجواهري الى الوطن بدعوة من الحكومة العراقية.. وقد استقبل استقبالا حافلاً.. وأقامت وزارة الإعلام حفلا لتكريمه.. ألقيت في ذلك الحفل القصائد والكلمات، وألقى هو فيه قصيدته: (أرح ركابك من أين ومن عثر …. كفاك جيلان محمولا على سفر).. كان ألجواهري يتمنى أن يروح نفسه من الغربة التي أتعبته.. لكن الرياح كانت تجري بما لا تشتهي السفن..

نهاية المطاف:
اشتدت حملة السلطة على القوى الديمقراطية والتقدمية والعناصر اليسارية.. فما كان من ألجواهري سوى مغادرة العراق.. ظل في الغربة.. وفي السابع والعشرين من تموز العام 1997 توقف قلب شاعر العراق والعرب الأكبر شيخ الصحفيين والكتاب العراقيين محمد مهدي ألجواهري عن عمر ناهز الثامنة والتسعين في دمشق.