إلتقيته مرتين ؛ كلاهما في النجف الأشرف في الأولى تأكدت مما نقله لي بعض المخلصين من تواضعه ودماثة أخلاقه وحسن عشرته وطيبته الطافحة على محياه ، فطاب لي الحديث معه وانفتحت أساريري فضحك وضحكنا أنا ومن معي لضحكاته ، وفي الثانية كان البكاء والنحيب من نصيبي وبقي هو ضاحكاً متبسماً فرحاً بما آتاه الله .
فأما لقاءنا الأول فقد كان قبل أكثر من سنة وقد كنا تصادفنا أثناء زيارتنا لمكتب المرجع اليعقوبي وبعد خروجنا تصادف أن دعانا أحد الفضلاء كلانا مع بعض إخوة الآخرين لتناول الغداء في داره ، ودار الحديث هناك عن المرحلة الحرجة والدقيقة التي تولى فيها زمام إدارة محافظة البصرة والشائعات المسمومة التي كان يبثها أصحاب المصالح والطامعين الذي وقف بوجههم سداً منعياً ، فخاطبته دون تكلف ((أبو عباس ليش ماتكتب مذكراتك ؟ هاي الحقائق اللي حافظهه بصدرك والوثائق المحتفظ بيهه ميصر تبقه حبيسة صدرك ودرج مكتبك ومو هين التسقيط اللي تعرضتله أنت والجهة اللي تنتميلهه ؟ )) فأجابني ((إن شاء الله أكتبهه وكلشي محفوظ عندي)) وتحوّل الحديث نحو مسار آخر وتوادعنا بعدها وذهب كل نحو وجهته .
أما اللقاء الثاني فقد كان عصر يوم الجمعة المصادف 28 / 10 التقيته وهو محمولاً على الأكتاف عند باب أمير المؤمنين (ع) وسرت خلف نعشه وأنا مطرقاً إلى الأرض متذكراً ما تعرض له من تهم وسب وشتم وحرب ولم أعلم كيف بلغ بي عند المقام قبر سيده وسيدي الصدر المقدس فنزلنا من السيارات وترجلنا لزيارته – لعله أوصى بأن يطاف به حول قبر حبيبه الصدر- وحمل على أكتاف الفضلاء وعند وصولنا إلى قبر السيد خاطبه أحد الفضلاء من حملة النعش ((سيدنا هذا أبو عباس جبنالكياه)) إنهمرت الدموع تترا وعلت أصوات النحيب .
وبعد خروجنا من ضريح الصدر توجهنا إلى المقبرة عائلة الشهيد لدفنه ، وأثناء مراسم الدفن ذهبت بعيداً بخواطري فتذكرت طلبي له بكتابة مذكراته لإثبات براءته فتيقنت بأنني كم كنت ساذجاً عندما كنت أتصور أن كتابة كلمات أو مجموعة وثائق كفيلةً بمسح تاريخ مزوّر وكلمات مضللة حفرت في أذهان المغفلين والمستغفلين السذج والبسطاء من الناس ؟!
وعلمت أن صك البراءة الذي صدّقه الشهيد بدمه الطاهر لهو أفضل السبل لإظهار مصداقيته وبراءته وما هو إلا أمر الله وقضائه وسنته في خلقه ليجلي للناس أبصارهم .
فذا أمير المؤمنين (ع) قد ضاق ذرعاً بغدر ومكر معاوية وأبن العاص وهو القادر على رد كيدهم فهو القائل ((والله ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر)) وكذلك قال ((قد يرى الحوّل القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من تقوى الله فيتركها رأي العين ويغتنمها من لا حريجة له في الدين)) ففضلاً عن الشاميين الذين صوّر لهم معاوية وأبن العاص علياً (ع) رجلاً خارجاً عن الدين يرتكب الموبقات ولا يصلي حتى ، إستطاع هؤلاء بمكرهم أن يخدعوا من كانوا يقاتلون مع علي (ع) برفعهم المصاحف وغيرها .
وكذا ما حدث مع الشهيد الصدر (أعلى الله مقامه) فالأكاذيب التي حاكوها حوله من عمالته للنظام إلى عدم نيله للإجتهاد وووو …الخ والتي عشناها وخبرناها ولا داعي للإطالة في ذكرها .
وما حيك حول الصالحين والأولياء من أكاذيب وتلفيقات استدعت بأمر الله وسنته في خلقه أن يخر علي (ع) شهيداً مضمخاً بدمه الشريف كي يصدق الناس قضيته وعندما يصل خبره إلى الشاميين ويسمعون بشهادته في محراب الصلاة يقولون أو كان علي يصلي ؟؟!!
واستدعت أن يخر الصدر شهيداً مضمخاً بدمه الشريف برصاصات غادرة من أحد أدوات النظام كي يصدق الناس أن السيد ما كان على علاقة بالنظام كما يصوره المغرضون ومن في قلوبهم مرض .
واستدعت أن يخر محمد الوائلي شهيداً مضمخاً بدمه الشريف برصاصات الغدر وحيداً فريداً على أرض البصرة التي لم يغادرها إلى عماراته التي إدعوها في دبي ولم يحتجب خلف أسوار المنطقة خضراء كما يفعل الساسة والساسة المتقاعدون وإنما خرج بصدرٍ عار وحيداً يتجول في شوارع البصرة كعادته دون خوف من أحد فهو لم يظلم أو يسرق أو يستولي ليخشى القصاص .
نعم أنه لدرس بليغ للجميع لعل البعض أن يعتبر منه ولا يكرر نفس الخطأ مع برئٍ آخر ، ولعل مكر أبن العاص المتكرر في العصور أن لا ينطلي ليجعل الناس تنهش لحم إخوتها الصادقين وتقطع قلوبهم من الألم _ فظلم ذوي القربى أشد مضاضةً _ ويتكرر نفس الفصل في كل حكاية مخلص وغيور على دينه ووطنه ولكن ما أكثر العبر وأقل الإعتبار .