18 ديسمبر، 2024 4:06 م

محمد صابر عبيد بقلمه

محمد صابر عبيد بقلمه

أعرف طبعاً أن العرب لا يحبذون حديث النفس، لأنه يدخل عندهم أخلاقياً في باب الغرور والنرجسية وحبّ الذات، لكنني حين قرأت ((رولان بارت بقلم رولان بارت)) وهو كتاب إيروسي في المقام الأوّل على أية حال، اكتشفت كم أن بوسع المرء أن يتحدث عن نفسه بأهمية وجدانية وروحية وثقافية وفلسفية لا تضاهى، ربما يتاح للمرء أحياناً أن يلتقي بأناس حميمين ومخلصين وقريبين جداً من النفس والروح والرؤيا والمثال، يتدربّون بحكم زمنِ التعامل والتفاعل والمحبة والثقة والصدق المناسب على معرفته وفهمه وإدراك قيمه الداخلية العميقة وفضاءاته الواسعة، غير أن ثمة طبقات عصيّة وغائرة وغائبة ومسكوتاً عنها ليس بوسع أحدٍ ـ مهما كان ـ  اكتناهها وتقصّيها والوقوف عليها وتلمّس محتوياتها بدقة ومعرفة ويقين وحسم .
لذا أنا مسرور وممتنّ لكل الأحبة الذين قدّموا في هذا الكتاب شهادات رائعة أعتزّ بها وأفخر، وربما من حقّهم عليّ قبل غيرهم أن أقدّم لهم نفسي بقلمي، حيث بوسعي أن أتجوّل حراً في الزوايا المظلمة، والنتوءات الغامضة، والكهوف التي لا يسمح الدخول إليها، والمغاور التي تختزن الأسرار والمسرّات والخطايا الجميلات، كلما كان ذلك ممكناً ومتاحاً وضرورياً وقابلاً للحديث في الوقت الراهن على الأقل .
عرفت مبكراً أنني سأكون كاتباً ورحت أتغذى على هذا الحلم، وأرعاه بما تيسّر لي من الأماني الممكنات، وأرسم ملامحه، وأصوّر شكله، وأستعين بما تطاله يديّ من الأدوات المتاحة كي أسرّع بتحقيقه، فقرأت الكثير من الكتب التي سرعان ما اكتشفت أنها لا تسهم عميقاً في اكتشاف منطقة الحلم كما يجب، وكانت البيئة التي أعيش فيها غير معنية البتة بأحلامي، ولم يكن في محيطي من يعلمني كيف يمكن أن أعيش الحلم وأتوغل فيه وأتمكّن منه، الكلّ معنيون بنشيد العيش المرّ، يتلمّسون شمس الواقع بكلّ ما فيها من حرارة وبلادة وقهر، ولا وقت لديهم للحلم .
ربما كنت غريباً وضعيفاً ومشتتاً وهشّاً وسريع العطب، أنفقت وقتاً كثيراً ألعب بأغلب التوافه التي كانت تتوافر في ما حولي، وربما كانت رغبتي العنيفة بالمقامرة بشتى أنواعها ليست سوى تعبير عن الضيق بمحدودية ما أرى وألمس وأعي وأتخيّل، فانغمست بشتّى أنواع المقامرات من أبسطها حتى أعقدها، فكنت بسبب ذلك من روّاد المقاهي المدمنين، وتعرّضت لمطاردات من والدي الذي كان يرى في ذلك عملاً مشيناً، لكنني لشدّة ولعي فيه ظللت أمارسه بشغف ومتعة، ربما حتى وقت متأخر من حياتي حيث شعرت بنوع من الإشباع فتركته تماماً .
كنت أشعر بقوة أن لديّ ما يحتاج إلى رعاية وسقاية وعناية واهتمام وكشف، لكنّ أحداً لم يساعدني في ذلك في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إلى من يدرك معاناتي ويشعر برغبتي الجامحة في معرفة نفسي، كنت ضائعاً لا أعرف ماذا أفعل، ثمة شيء في أعماقي يثور ويتفجر ويبحث عن مفاتيح للانطلاق يكاد يخنقني، حتى كنت لا أهتمّ بدروسي كثيراً بالرغم من أنني أنجح دائماً، أعترف هنا أن طفولتي كانت معذّبة ومرتبكة وقلقة وليست على ما يرام، كنت مهموماً بأشياء لا أعرفها على وجه التحديد، اتسمت طفولتي على العموم بالانغلاق وقلّة الفرح وكبح جماح الرغبات .
وحين عرفتْ قريتي ((زمار)) الكهرباء وصل أول تلفزيون إلى مقهى ((محمد الكامل)) الذي كان يتقاضى ((عشرة فلوس)) ثمن الجلوس وعشرة أخرى ثمناً للشاي، وحيث سحرني هذا التلفزيون العجيب بدأتْ مشكلة أخرى مع أبي الذي كان يحرص على أن لا أتأخر ليلاً حتى يغلق التلفزيون شاشته والمقهى أبوابها، وأنا آخر من يغادر المقهى لأجد باب بيتنا مقفولاً وأضطر إلى إيقاظ الجيران كي أصعد على سطوح بيوتهم ومنها إلى بيتنا، وعلى الرغم من ذلك لا يعفيني أبي من عقوبات كانت قاسية جداً وقتها، ولم أتعب من الاستجابة لرغباتي بالرغم من قسوة العقوبات وعنفها .
ثمة مرحلة طفولة أجدها نائية جداً تتلبث في أقاصي الذاكرة مشحونة بالكثير من الضباب والظلام والغبار تسبق هذه المرحلة غير قابلة للتمييز والتعيين والاستعادة، كان فيها أبي يتعالج من مرض التدرّن الرئوي في بيروت، مع مجموعة من عمال شركة نفط الشمال في حقول نفط عين زالة، إذ ابتعثتهم الشركة إلى مصحّات هناك للعلاج استغرقت بعثتهم ربما ثلاث سنوات أو أكثر، وكان أخوالي هم من يشرفون على رعايتنا مع اهتمام يبدو لي الآن بسيطاً لا أتذكره ملياً من عمي الذي هو ابن عم والدي، لأن أبي ليس له أخوة ولديه أخت وحيدة من زوجة أبيه الثانية كانت بالنسبة لي أكثر من أمّ، وليس بوسعي الحديث عن هذه المساحة من طفولتي أكثر لأنني حين التفت إليها في الحقيقة لا أجد ما يمكن الحديث عنه على وجه الدقّة والوضوح والضرورة والأهمية .
تفتّح وعيي مبكراُ، نعم، ولكن بلا فائدة كبيرة، إذ كان هذا الوعي المتفتّح مبكراً بحاجة إلى تثقيف وتمرين وتمتين وتخصيب وإثراء، لكن شيئاً من هذا لم يحصل حتى وقت متأخر جداً، فأين هذا الذي يمكنه أن يساعدني في مجتمع لا يهمه سوى التفكير المحدود في لقمة العيش، وكان مضرب شركة حقول نفط عين زالة قبلةً لكل أبناء القرية التي ما أن يحصل أحدهم فيها على أيّ عمل ـ مهما كان متواضعاً أو وضيعاً ـ حتى يعتقد بأنه نجا وأن أبواب القدر الغامض انفتحت له، وغير ذلك كان الفلاحون ينتظرون مواسم حصاد الحنطة والشعير ليرتبوا أمورهم المعيشية على أساسها، وكم تعذّب الناس في سنوات القحط التي يقلّ فيها كرم الطبيعة ويكون شتاؤها الغادر بلا أمطار .
    وهكذا ظللت ضائعاً أبحث عن شيء مفقود لا أعرف ما هو، حتى بلغت مرحلة الدراسة المتوسطة حيث عاد قبلها أبي بسنوات من رحلته العلاجية، وكنّا في وضع معيشي معقول نسبياً إذ كان أبي لا يألو جهداً في أن يرتّب وضعنا على نحو مقبول، ولم يكن هذا مما يدخل في دائرة اهتماماتي كثيراً حيث كنت مشغولاً بشيء آخر، وكنت في هذه المرحلة مهووساً بالمجلات التي بوسعي الحصول عليها من أيّ مصدر كان، أقرأها بنهم ولذّة من الغلاف إلى الغلاف وكلما التقطت عنواناً لشركة أو مؤسسة أو مجلة أو نادي ثقافي أدبّج فوراً رسالة وأبعثها بالبريد .
    على هذا النحو تشكّلت علاقتي بدائرة البريد وموزّع البريد، إذ كان المكان والإنسان فيهما مصدراً أساساً من مصادر سعادتي المتواضعة حينها، وربما كانت رغبتي في الكتابة هي التي تقودني إلى تمثيلها عن طريق كتابة الرسائل بشكل مستمر، إذ كنت أكتب رسالة في كل يوم على الأقل، وانعكس هذا التدريب الفطري غير الواعي على أسلوبي في الكتابة فكنت من أفضل طلبة المدرسة في كتابة الإنشاء، وهو الدرس الذي يختبر فيه مدرّس اللغة العربية قابلية الطلبة على التعبير، وفعلاً فوجئ الكثير من المدرسين بطريقتي في الكتابة وكانوا يطلبون مني قراءة موضوعي أمام الطلبة كي يكتشفوا إذا ما كنت قد نقلته من مرجع أو كتبه لي أحد ممن يجيد الكتابة .
    كتبت أول قصيدة وأنا في الصف الثالث المتوسط، أي بعمر 15 سنة تقريباً، ثم بعدها بقليل اكتشفت مع صديقي أحمد جدوع ـ الذي كان شاعراً أيضاً ـ نزار قباني والبياتي، ورحنا أنا وهو نكتب قصائد يومية في المدرسة، ونتبادل الأفكار التي كنا نقول عنها فلسفية، إذ هو يكتب فكرة وأنا أعلق عليها، ثم يعود هو ليعلّق على ما أكتب، وهكذا، وكنا نلمس من بعض الأساتذة المختلفين شيئاً من التشجيع، لكننا مع كل المضايقات التي كنا نتعرض لها بسبب نزار قباني أو الشعر الحديث مضينا في مشوارنا، غير أن صديقي أحمد للأسف توقّف بالرغم من أنه كان يتفوّق عليّ في موهبة أخرى يمتلكها وهي الرسم، ولا أدري لماذا كنت أحلم دائماً أن أصبح رساماً غير أن الفرشاة اللئيمة كما يبدو لم تخلق لأصابعي، وهكذا ظلّ هذا الحلم رهين رغبة خامدة لم يكتب لها التفتّح أبداً .
   أنهيت دراسة البكالوريا في الفرع الأدبي الأول على دفعتي في ((ثانوية زمار للبنين)) بمعدل قارب الـ 85 % ، وكان هذا المعدّل يؤهلني بطبيعة الحال لدخول أية كلية مخصصة للفرع الأدبي، واخترت كلية التربية في دورتها الأولى حيث كانت كلية الآداب التي عزمت على دخولها أولاً قد توقفت عن قبول الطلبة في ذلك العام، ودخلت قسم اللغة العربية الذي كان يلائم تطلعاتي في الكتابة والقراءة الأدبية، وأقمت مع ثلة من أصدقائي الزماريين في الأقسام الداخلية داخل بناية الجامعة، وكتبت أول مقال عنوانه ((الملامح الصوفية في شعر البياتي)) نشرته لي مجلة الجامعة التي كانت منبراً ثقافياً مهماً في الزاوية الطلابية، وقد تقاضيت عليه مبلغاً قدره خمسة دنانير يمكنه بكل بساطة أن يغطي نفقاتي البسيطة مدة أسبوعين، واستمررت في ذلك، ووجدت فيما بعد مجالاً آخر للنشر مقابل مكافأة جيدة في جريدة ((الحدباء)) الثقافية الموصلية التي نشرت لي عشرات المقالات والقصائد، وهكذا وجدت شيئاً من ضالتي .
    كانت ثمة مسابقة ثقافية مهمة لطلبة الجامعة مخصصة لكتابة البحوث الأدبية، اشتركت فيها أول مرة وأنا طالب في السنة الثالثة ببحث عنوانه ((الليل في شعر البياتي))، وفاز بالجائزة الأولى، ونشره بعد ذلك أستاذي الدكتور عمر الطالب ـ الذي كان يرعاني بقدر علاقة الأستاذ بتلميذ جيد ـ في متن مجلة الجامعة بوصفه مديراً للتحرير، وتسلّمت عليه شيكاً بمبلغ خمسين ديناراً، وكان هذا المبلغ بالطبع ثروة، ثم في السنة الرابعة اشتركت ببحث عنوانه ((اللون في شعر نزار قباني)) فاز أيضاً بالجائزة الأولى ونشر في مجلة الجامعة على حلقتين، وظلّ هذا الموضوع الخاص بشعرية نزار قباني اللونية يلاحقني، وحين عقدت صداقتي مع نزار قباني وعدته أن أحوّل هذا البحث إلى كتاب لكنني لم أفِ بوعدي، وعوّضت ذلك أن أعطيت الموضوع لأحد طلبتي لينجز فيه رسالة ماجستير بالعنوان نفسه، وقد أكون وفيت بوعدي على نحو ما .
    عيّنت مدرساً للغة العربية فور تخرّجي نهاية عام 1979 في الثانوية التي تخرجت فيها، فقد كنت الأول على الكلية وكان بوسعي اختيار أفضل مكان للتعيين، وسعيت في الثانوية إلى أن أنجز جزءاً من مشروعي في الكتابة والتفكير والرؤية والحلم، واستجاب الكثير من طلبتي لمشروعي، كنت أدرّس بطريقة مختلفة لم يألفها الواقع التدريسي هناك، حتى أنني في إحدى المحاضرات ـ وبجرأة غير مسبوقة ـ جلبت إلى الصف الخامس الأدبي السيمفونية الريفية لبيتهوفن، شرحت لهم حركاتها بالتفصيل ثم أسمعتهم إياها كاملة داخل الدرس، وكنت أجلب لهم الكتب الحديثة وأطالبهم بالقراءة والاستمتاع والتحليل، وحين ألتقي الآن بعض طلبتي في تلك المرحلة ممن كان تأثيري فيهم ظاهراً وجوهرياً أفخر كثيراً بأنني أنجزت شيئاً ـ ولو بسيطاَ ـ كنت أحلم به وما زلت. 
    في عام 1982 حيث كنت جندياً في مدرسة ضباط صف المشاة في الموصل بعد ثلاث سنوات تأجيل من الخدمة العسكرية لغرض التعيين، أخبرني أحد الأصدقاء أن اسمي ظهر في قائمة المقبولين لدراسة الماجستير في كلية الآداب في جامعة الموصل، وكان فرحي لا يوصف إذ تخلصت من حياة الجندية القاسية جداً، وفي الوقت نفسه حظيت بفرصة التعبير عن ذاتي في فضاء كنت أحلم به، وكانت الفرصة مواتية أيضاً لأكون عنصراً أساسياً من عناصر الحضور الثقافي في المدينة، وتعرّفت على نحو جيد على معظم أدبائها، وأسهمت سنوات عدّة في قيادة فرع اتحاد الأدباء في المدينة مسؤولاً عن النشاط الثقافي فيه، وبدأت أتمثّل نفسي على نحو أكثر قيمة وحيوية ونشاط ورؤية وحضوراً من ذي قبل، وصار لي اسم أدبي في مجال النقد الأدبي خاصة، ليس في مدينة الموصل فقط بل في بغداد أيضاً، وكنت أحضر برفقة أصدقائي من أدباء الموصل معظم النشاطات الثقافية التي تحصل في العاصمة وعلى رأسها مهرجان المربد .
    بدأت النشر في صحف ومجلات بغداد كافة، وبدا اسمي يلفت الانتباه، وقد أغراني هذا بالانغماس في لذّة النشر وعوائده المادية التي كانت حينها جيدة، وكنت من أكثر زملائي حضوراً في المشهد الثقافي على صعيد النشر، وحين عدّت فيما بعد لتفحّص نتاجي المنشور لم أحتفظ منه إلا بالقليل الذي وجدت أنه يمكن أن يمثّل صوتي ويكون جزءاً من تراثي، وأهملت الكثير الآخر الذي وجدته بعد التأمل ليس سوى نتيجة طبيعية لفورة فرح النشر الأولى، لكنني لم أندم عليها إذ هي على أية حال كرّست اسمي على نحو ما وكانت سبباً في تعرّف الكثير من الأوساط الأدبية عليّ .
    وبالرغم من حيوية هذا الوسط الذي أخذني إليه بقوّة إلا أن شيئاً ما في أعماق ذاتي كان يناديني باتجاه آخر، لم أكن أعي أو ألتفت كثيراً إلى هذا النداء العميق، ربما لأن وضعي لم يكن آنذاك مؤهلاً للاستجابة المطلوبة، غير أن هذا النداء كان يقلقني ويطرح عليّ أسئلته التي كنت أتهرب من مواجهتها على نحو ما، لذا فقد كنت دائم التأجيل للنظر المعمّق في معنى هذا النداء وقيمته وإيقاعه الهادر، وانشغلت حتى عام 1987 ـ سنة ظهور اسمي في مرحلة الدكتوراه في كلية الآداب أيضاً ـ بهذا الفضاء الملتبس وغير المجدي لي كثيراً، واستمررت بالأسلوب نفسه حتى حصلت على الدكتوراه صيف عام 1991، وكنت قبل ذلك بعام قد أوفدتني جامعة الموصل إلى القاهرة لمدة شهر للحصول على المصادر غير المتوافرة لغرض أطروحتي للدكتوراه، وكانت فرصة أخرى مهمة لي ساعدني فيها الصديق الشاعر أمجد محمد سعيد الذي كان مديراً للمركز الثقافي العراقي في القاهرة، ونظّم لي محاضرة عن النقد العراقي الحديث غطتها كل الصحف المصرية وحضرها الكثير من الأدباء المصريين وحفلت بنقاشات طويلة ومعمّقة، ووصفتها القاصة العراقية المقيمة في القاهرة بثينة الناصري في عرض موسّع بأنها أكثر محاضرة حظيت باهتمام جمهور الحضور على نحو مثير فاجأها، كان لهذه الزيارة حقاً أكبر الأثر في تمتين علاقتي بذلك النداء الذي ما ينفك يندلع في مخيلتي ويتردد في أعماقي بلا هوادة لاكتشاف ذاتي . 
    تمّ تعييني في كلية التربية للبنات في جامعة تكريت حتى قبل أن أناقش أطروحتي للدكتوراه، وباشرت في الكلية منتصف شهر تشرين الثاني تقريباً من عام 1991، ودرّست السنة الرابعة مادتي الأدب الحديث والنقد الحديث، وليس بوسعي طبعاً في هذه المناسبة أن أتحدّث عن تجربتي الثرية الخصبة الآسرة والشائكة في هذه الكلية، بكل ما شابها من التباس وتعقيد وتداخل وحسد وغيرة وربح وخسارة وليل ونهار وحلم وواقع وجنون وحيرة وضباب وغبار ونار ونور وحب وكره وصداقة وعداء وصفاء وغيم ومطر وبرق ورعد وتفاهة وحساسية وخبث ونذالة وفقدان وحماقة وكل شيء تقريباً، لأن ذلك بحاجة إلى كتاب كامل قد تتاح لي فرصة وضعه في قابل الأيام، وربما يكون صديقي المبدع فرج ياسين قد أتى على جزء يسير منه في شهادته اللمّاحة عني .
     لكنّ تجربة عشرين سنة في جامعة تكريت حصل فيها ما يحكي تجربة حياة كاملة تقريباً ملغومة بالفتوحات والمسرّات والخيبات ليس من السهل احتواءها في شهادة تتقدّم كتاباً تكريمياً نقدياً عن مسيرة التجربة، إذ من حقّها عليّ أن أقدمها في كتاب كامل أو ربما رواية، عشرون سنة أخذت مني الكثير وأعطتني الكثير، وأحسب بقدرٍ مناسب وضروري ومقصود من الغرور القول إن غباري الملوّن في أرض الجامعة وسماء المدينة معاً متناثر في كل الأرجاء، وليس من السهل التخلص منه، أو محوه، أو التقليل من خطورته وسطوته، مهما ظنّ وتمنّى ودعا من يقلقه هذا الغبار، ويزكم أنفه، ويحجب عن عينيه المريضتين مسار الرؤية بوضوح وواقعية .
     وعلى الرغم من أنني كنت أتمنى أن يأتي تعييني في جامعة الموصل، إلا أنني سرعان ما تقبّلت الأمر وسعيت إلى أن أواصل حلمي في مشروعي الأدبي والثقافي والأكاديمي، ومع ذلك لم تكن الأمور ميسّرة على النحو الذي يسمح لي بالتحرّك الحرّ كيفما أشاء، لذا خفّ حماسي بعد ذلك بقليل وانتبهت إلى نفسي وأصغيت بعمق ومحبة ورحابة وتأمل هذه المرّة للنداء الذي لم تخفّ جذوة حماسه مطلقاً، وكان أن حصلت نهاية عام 1994 على لقب أستاذ مساعد، وفتحت كلية التربية للبنات أبواب دراسة الماجستير، وأعترف هنا على وجه الدقّة أن هذا العام بظروفه المثالية هذه أتاح لي لأول مرّة اكتشاف ذاتي لأعرف بالضبط أين أنا، وماذا أريد .
    يا إلهي كم تأخر هذا الأمر، لكنني لم التفت إلى الخلف ـ كعادتي دائماً ـ ورحت أسابق الزمن لأضع هذا الاكتشاف المدهش موضع التنفيذ والإنجاز، وعملت في هذه الأثناء على أول كتاب لي نشرته على فصول هو ((السيرة الذاتية الشعرية))، واشتركت فيه عام 1998 في مسابقة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الثانية، وفاز بالجائزة الأولى، فعرفت حينها أنني أدركت الطريق ورأيت الضوء في نهاية النفق كما يقولون .
   أعترف أن عام 1999 عام التسعات الثلاث هو عامي، إذ بدأت ألفت الانتباه بقوّة إلى اسمي على صعيد عربي ـ في الأردن وسوريا خاصة ـ، إذ نُشرت لي عشرات المقالات المهمة في صحف ومجلات البلدين وبكثافة ظنّ الكثير من قرائي فيما بعد أنني أقيم فيهما، بالرغم من أنني كنت أبعث مقالاتي بالبريد العادي حتى وصفني أحد الأصدقاء بأنني كاتب شبه يومي في الصحافة الأدبية الأردنية، وانفتحت بعدها على المجلات الأدبية الأخرى في الوطن العربي، وبدأت أراسل بعض الجامعات العربية للإسهام في مؤتمرات علمية تقيمها، وقد أصبت أكثر من مرّة بالإحباط حين لم أتمكّن من السفر بسبب صعوبة الإجراءات وتعقيد الموافقات الأمنية والرسمية، ولم أفلح في السفر لهذا الغرض حتى عام 2002 حيث أسهمت في مؤتمر ((التجربة الشعرية السورية الحديثة)) في جامعة تشرين في اللاذقية، وكنت بلا أدنى تواضع أحد نجوم المؤتمر على الأصعدة كافة، تعرفت في هذا المؤتمر على البحر وعلى حورية البحر، وكانت فرصة ثمينة وغالية لن أنساها ما حييت .
    غادرت بعد نهاية المؤتمر إلى دمشق مع أصدقائي الجزائريين الذين تعرفت عليهم وأحببتهم جداً، إذ قضيت ثلاثة أيام قبل أن أغادر إلى عمّان للإسهام في مؤتمر جامعة جرش، وقد استغرقت سفرتي عشرين يوماً عدت بعدها إلى الموصل من عمان مباشرة، وبعدها توالت السفرات والمؤتمرات بكثرة وكأنني كنت متعطشاً لهذا النشاط الجميل الذي أثراني كثيراً، واتسعت دائرة النشر ـ كتباً ومقالات ـ حتى أصبحت من أنشط أصدقائي في هذا المجال، إذ نشرت حتى الآن أكثر من عشرين كتاباً وأسهمت في أكثر من ستين مؤتمراً وندوة وملتقى في الكثير من البلدان العربية والصديقة .
    بهذا الانفتاح على الفضاء الثقافي ضاق اهتمامي بالجانب الأكاديمي الصرف في حياتي، فقد وجدت نفسي خارج الجامعة لا داخلها، وذلك لأن الجامعة ظلّت تتعثّر بأفقها الضيّق المدرسي المحدود، ولم تكن تنظر إليّ وأنا أحقق هذه النجاحات بالقدر الكافي من الضوء فأهملتها، وسعيت بأساليب كثيرة إلى أن أحدد عملي الأكاديمي بأقل جهد ممكن، حتى وصل في السنوات الأخيرة إلى أن أدرّس مادة واحدة في مرحلة الدكتوراه وأقدّم محاضراتي مرة كل أسبوعين، وهكذا كانت علاقتي بالجامعة ضعيفة إلى أقصى حدّ، وبالمقابل لم أكن أنا وبكل ما أنجزته أعني شيئاً بالنسبة للجامعة، حتى أنني فزت بالجائزة الأولى في مسابقة الشارقة للإبداع العربي في مجال النقد الأدبي، ولم يقل لي أي مسؤول في الجامعة كلمة مبارك أو شكراً، وحين قرأت في الصحف الأردنية أن ملك الأردن استقبل الشاعر الأردني الذي فاز معي بجائزة الشعر وكرّمه عرفت كم أنا غريب، وفزت بعدها بجوائز أخرى عن أعمالي النقدية والشعرية وبقيت جامعتي غير مكترثة بذلك مطلقاً . 
     ومع كل بعدي عن الجامعة وغربتي فيها لم أكن مرغوباً سوى من بعض زملائي القلائل جداً الذين يفهمون نغمتي ويفكرون معي على الموجة نفسها، وثلة من طلبتي الأذكياء الذين كنت أتحمّل قسوة الجامعة وظلمها لأجلهم، ولم أكن أحسب لذلك في جوهري أيّ حساب، فثمة قوانين راسخة في الحياة تؤكد أنني الرابح في النهاية والجامعة هي الخاسرة حتى وإن أدركتْ الجامعة خسارتها بعد حين، وأنا هنا بطبيعة الحال لا ألوم أحداً قطعاً، فالكلّ كان يدافع عن أنموذجه بقوّة وعنف وشراسة وقسوة، لكنني في أعماق هذه العاصفة الصفراء التي ما برح الكثير من الصغار يديمون ما تيسّر لهم من غبارها اللعين كنت الأقوى حضوراً، وظلّت سمائي صافية وقمري مضيئاً ونجومي أكثر بريقاً ولمعاناً وتحدياً، على النحو الذي بقي اسمي الأصيل فيه يستلقي على المتن برحابة وألق وهيمنة وسحر وإثارة، فيما انحشرت أسماؤهم المتآكلة الطارئة في فضلات الهوامش المهملة بلا ملامح .
    اليوم بعد أن نَقلتُ بيسرٍ عجيب ـ بلا وداع ولا ألم ولا دموع ولا دعوات ـ كامل أمتعتي وحوائجي وفضائي وقلبي وطموحاتي ومشاريعي إلى جامعة الموصل، وقد تركت ورائي عشرين سنة حافلة بالغيم والغبار في رحاب جامعة تكريت مرّت كطيف غائمٍ دبقٍ  جمع الأخضر واليابس، الغثّ والسمين، الصيف والشتاء، العلقم والعسل، الزمن والمكان، الطعنات والقبلات، الهزائم والانتصارات، في قارورة شفافة واحدة، بوسعي أن أدير ظهري قليلاً من أعلى القمّة التي أتربّع عليها فوق هرم كتبي الذي يشقّ بهاؤه عنان السماء يوماً بعد آخر، بوسعي أن أتأمل ما تركته من ظلال دافئة مخضلّة بالحنين مرّت عليها أقدامي الحافية الحانية، وأشجار ذكية وعاشقة حجبت روحي عن عيون المتلصصين، وزوايا خفية مضمّخة بالطراوة والعبث والجنون الجميل ستبقى تنطق باسمي أبد الدهر، وضمائر ميّتة ستندم ذات يوم على أنها قطعت ببربرية وحشية جدائل الشمس، وصغار لن يكبروا يوماً ما لأن الله خلق واحدهم قزماً لن تنفعه أية عملية تجميل يمكن أن ترفع رأسه المتدلّي قليلاً إلى أعلى، وسحليات صغيرة غبية وعمياء لم تُخلق إلا كي يدوس عليها الآخرون، لكنني بالمقابل تركت مروجاً خضراء متموّجة تعبق بالموسيقى، لا تكفّ عن العزف والغناء والفرح والرقص والجنون، وينابيع أصيلة لا أحسب أن مياهها النقية الزاهية ستجفّ يوماً ما، وحسبي ذلك .
    لست نادماً مطلقاً على شيء، فكل نجاحاتي مقيّدة باسمي، وكل إخفاقاتي أيضاً، كل فتوحاتي ممهورة بختمي، وكل حماقاتي مدوّنة بأمانة وثقة في سيرتي، لن أتنازل عن شيء مما عرفت وخضت واخترقت وربحت وخسرت، كلها أسهمت في صنعي على النحو الذي أريد وأتطلّع، وكلها أسست لتاريخ ساطع يحق لي أن أفخر به وأتباهى، فدمي الآن أكثر غزارة وحرارة وجبروتاً وإضاءة، وكذلك عرقي، رغبتي في الحياة أوسع وأعمق وأكثر حضوراً وتألقاً، زرت بلداناً كثيرة وعرفت نساء كثيرات، زرعت أشجاراً لا حصر لها في بطون الوديان وعلى سفوح الجبال، احتسيت الكثير من دموع الملكات المعتّقة وأكلت الكثير من التين البرّي الباذخ المذاق، ولم أكن أبداً يوماً ما من صيادي الحضائر، فالبرية دائماً هي ساحة صيدي وملعبي، وعلى هذا فإن دمي لا يحوي قطرة واحدة فاسدة ولا مزوّرة، وجسدي ينتمي بكليته إلى الطبيعة الحرّة التي لا تتغذى إلا على الطازج البكر .