محمد اليونس.. الكاتب العاشق لتراثه الريفي

محمد اليونس.. الكاتب العاشق لتراثه الريفي

ليس كل أبناء الريف يعشقون الحياة الريفية التي عشناها في الماضي. كثيرون تمردوا عليها، بل ابتعدوا كليًا عن تلك المصطلحات الريفية التي لم يعرف منها أبناؤهم اليوم شيئًا. نعم، كنا نسمّيها “مصطلحات عامية”، لكنها في الحقيقة تسميات تراثية، ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ونادوا بها حاجاتهم اليومية.
‏من إحدى قرى جنوب شرق الموصل، من قرية العباس تحديدًا، وُلد كاتب مبدع في أدبه، مخلص لتراثه، محافظ على ذاكرة قريته. إنه الأستاذ محمد اليونس الزبيدي، الكاتب الذي لم يتخلَ عن لغته الريفية الأصيلة، بل ما زال قلمه يخطّ كلماتها كما عرفناها نحن أبناء ذلك الجيل الجميل.
‏لكل زمن رجاله ومفكروه، ولكل زمن كتّابه الذين يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم، ويكتبون للتاريخ ما يعرفونه عن تلك الأيام. الأستاذ محمد اليونس، أحد هؤلاء القلائل الذين وثّقوا بذاكرتهم وقلمهم تراثًا بدأ يتلاشى.
‏في إحدى مقالاته، يأخذنا إلى أجواء الماضي فيقول:
‏(( فرز چثيرة وجل مالي الگياعين”
‏”برصم ضال .. وباچر ورانا شتا واگران”
‏ويكتب باللهجة الريفية المحببة:
‏”والگيظ زيج المرضع، فاتحنا خيرو”
‏وأصابعنا تعلّق في بنانها أشواك “الصفير والزميته”
‏ويستحضر أهازيج الحصاد:
‏”هدب عين الترف قدْره إلهيه… مثل زل تراكم فوك نبعيه”
‏وفي مقالة أخرى يخاطبنا بعباراته الجميلة:
‏”دمرن عالجليب وملن اگربچن”
‏”عسى درب البعيد اليوم يجربچن”
‏ويستمر في سرده الشجي، حيث البئر وحلال القرية:
‏ “الگرگرة” صريخها ما زال يدوي،
‏صوت “سعيدة الصگر”،
‏ارتطام الدلو بالماء،
‏ضجيج “جاسم الأگطابه” العريف عند نزح البئر،
‏قرقعة براميل التوتيا…
‏وما زال ذلك الختيار “ياسين الباتير” بقامته القصيرة، ولحيته الطويلة المجدولة، يقف أمامي، يتمتم لقطيع ماعزه بصوته الأجش، فيدقّ صوته بعيدًا في ذاكرتي.
‏غروب مزدحم بقطعان الأغنام العائدة من كل الدروب…
‏”روحي يدادا عالحليب، اروحي…”
‏”والشمس غابت، والغنم مرواحي…”
‏”وأني بتبه، والعشير ابتبه…”
‏”حرز ليه عالصدر لواحي..))
‏هكذا يخاطبنا محمد اليونس بكلماتٍ تحمل معاني ومدلولات لا يعرفها إلا من عاش في ريف القرى، وتربّى على حكاياتها. فكل كلمة عنده تحمل قصة، وكل قصة لها مكان وزمان، لها في القلب محبة، وفي القرية اجتماع، وفي الروح حنين.
‏ يشهينا أحيانًا عندما يعرض لنا الشچوة واللبن البارد والزبدة بألوانها الأبيض والأصفر. يشهينا أحيانًا ونحن نشاهد رگي السلامية الممدودة فوق دچة الوحل.وفي وسطها الجمار الأحمر فيسيل لعابنا إلى تلك المأكولات اللذيذة…
‏يكتب قصص نبتت في بساتين “السلامية”، وعبقها يملأ الأجواء برائحة “الحليان”، كأنها رائحة العنبر، يشمّها القاصي والداني. نبات “الحمگة” على حواف السواقي، ونحن نقطع تلك الدروب الرملية لنصل إلى إحدى القرى هناك…
‏نعم، أستاذنا الفاضل محمد، لقد كفيت ووفيت بإحيائك لذلك التراث الجميل، وما زلت تكتب عن قريتك بإخلاص. وأظن أنك لو جمعت مقالاتك ومؤلفاتك، لأصبحت اليوم مجلدات كاملة توثق حقبة لا تُنسى.
‏تحياتي لك، يا ابن الريف العاشق لقرية العباس، ولبساتينها، والمحِبّ لأهلها وناسها، والسمح الودود مع كل أصدقائك ومحبّيك.