ان من اهم الاشياء التي تصلح ان تكون من اهم العبر هي محاولة التفكير الموضوعي في التجربة التربوية الاجتماعية للسيد محمد الصدر (قدس) هذه التجربة العظيمة التي كتب الله لها النجاح والفلاح بعد ان سبقتها تجارب عديدة فاشلة زرعت اليأس في نفوس الكثير حتى اصبح كل فرد يريد ان يتصدى لهداية الناس بمنزلة المجنون في نظر الكثير لانهم يعتقدون بعدم فائدة هذه المحاولة وهذا هو اليأس والقنوط الذي نهى الله عنه!!!!
وفي ظل ذلك الجو المملوء يأسا وقنوطا وانحرافا وتخلفا وفقرا وجوعا وخوفا ورعبا وبلاءا ووباءا بدأت تجربة السيد محمد الصدر (قدس) وكان ما كان بفضل الرب المنان وهنا اريد قراءة ذلك المشهد وتلك التجربة الرائعة النادرة من حيث نجاحها وتأثيرها!!!! ان هذه القراءة تركّز على المنهج الذي اتبعه السيد محمد الصدر (قدس) في تربية المجتمع لكي يكون خير برنامج لنا من اجل الاستمرار في الهداية والتربية…
وقبل الخوض في هذه القراءة ينبغي لي الاعتذار عن الاحاطة التامة لان الانسان لا يتعدى فهمه, وكيف لعقلي القاصر ان يحيط بعقل اعلم العلماء وافقه الفقهاء واعرف العرفاء؟
ان السيد الشهيد الصدر (قدس) يدرك ومنذ نعومة اظفاره بأن المشكلة الاجتماعية تكمن في الشعور بأهمية العدل, والشعور هو امر نفسي وجداني وليس خارجي.. ان هذا الشعور وهذا الوعي للعدل ينبغي ان يوجد في نفوس الناس..
ان السيد محمد الصدر (قدس) يرى ان عدم وجود هذا الشعور هوأصل المشكلة الاجتماعية وحل هذه المشكلة يكمن في محاولة إيجاد هذا الشعور (الوعي) لاهمية العدل عند عامة الناس.
فالعدل هووضع الشيء في موضعه المناسب له..
وللعدل مصاديق عديدة اهمها أحكام الشريعة المقدسة فكل مسألة من مسائلها وكل حكم من احكامها يمثل العدل الالهي..
بل ان الانسان يعجز في اغلب الاحيان ان يضع الاشياء في موضعها المناسب!!!! ولكن الله سبحانه وتعالى هو القادر العالم العادل فهو خالق كل شيء بل ان الكون بجميع مكوناته ومخلوقاته يشير بالحس والوجدان وبالعقل والبرهان على عدالة الخالق المطلقة….. فالشريعة تمثل درجة من درجات العدل الالهي اللامتناهية..
فلا بد ان يوجد الشعور بأهمية الشريعة في وجدان عامة الناس لان الشريعة هي العدل الكامل ومنطلق السير نحو الكمال….
ان السيد محمد الصدر (قدس) يرى ان التصرفات والافعال الظالمة المنحرفة التي تنم عن سوء الاختيار من قبل الافراد والجماعات لها منشأ وسبب مركوز في النفس حيث يقول ما نصه:-
((واذا اخذنا الجانب الاخلاقي الخالص, لم نجد هذه الظواهر الذهنية ونحوها, التي اهتم بها الفقه, الا مجرد ظواهر لاسباب اعمق منها, مرتكزة في القلب او النفس, وهي التي تكون منشأ لعدد لا يحصى من الافكار والتصرفات في الفرد, بل قد تكون المسيّرة له والحاكمة عليه طول عمره.
ومن هنا, جاء مفهوم سلامة القلب ومفهوم مرضه الذين نطق بهما القرآن الكريم.
قال الله سبحانه ( اذ جاء ربه بقلب سليم) ولئن كانت هذه الاية الكريمة الخاصة بالنبي ابراهيم الخليل(ع), فان هناك آية عامة وهي قوله تعالى (الا من اتى الله بقلب سليم) وكذلك طهارة القلب وهدايته قال سبحانه (ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن) وقال( ومن يؤمن بالله يهد قلبه).
وفي مقابل ذلك مرض القلب قال سبحانه( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) وقال(فترى الذين في قلوبهم مرض) وكذلك الزيغ قال سبحانه(فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) والنفاق قال سبحانه( فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه), والريب قال تعالى(وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) الى غير ذلك من امراض القلب واسوائه)) انتهى.
المصدر” ما وراء الفقه الجزء الاول القسم الاول فصل في النية للسيد محمد الصدر”
ان عدم الشعور باهمية العدل سببه الامراض القلبية ولما كانت هذه الامراض مركوزة في القلب فهذا يعني صدور ما لا يحصى من الافعال الظالمة والتصرفات السيئة الامر الذي يؤدي تفشي الانحراف والفساد والرذيلة الى مفاصل المجتمع ومفاصل الدولة بحيث يشكل بيئة غير صحية ذات تأثير سلبي ضد كل عمل صالح او ضد كل فرصة لبزوغ نور الهداية..
ان التربية لها روافد عديدة اخطرها البيئة الاجتماعية..
ان السيد محمد الصدر (قدس) يعتقد بان اجراء اصلاحات خارجية لا تجدي نفعا ما دام المجتمع لا يشعر باهمية العدل والعدالة..
ان محاولة ايجاد هذا الشعور في نفوس الناس يمثل مسؤولية الهية تقع على عاتق الانبياء والرسل والاوصياء ومن ينوب عنهم..
ان السيد محمد الصدر (قدس) يرى ان هذه المسؤولية تكليف على عاتقه وعلى عاتق امثاله وهذا هو الذي جعله يتصدى لتربية الناس وبالتالي ايجاد هذا الوعي باهمية العدل..
والحق ان السيد محمد الصدر (قدس) تصدى وكانت نسبة الوعي لدى المجتمع ضئيلة جدا تكاد تقترب من الصفر ومع ذلك نجح بفضل الله في ايجاد هذا الشعور الذي لا زال بالرغم من رحيله عن دار الدنيا شهيدا مظلوما..
ان هذه المسؤولية الثقيلة التي تصدى لها السيد محمد الصدر (قدس) هي التي اريد قراءة المنهجية التي اتبعها ونجح في الوصول الى هدفه المقدس..
ان الرعاية الالهية لشخصية السيد محمد الصدر (قدس) التي شملت الجوانب العلمية والنفسية والروحية اهّلت هذا العالم العابد العارف الملهم لقيادة زمام التربية الصالحة للمجتمع..
ان السيد محمد الصدر (قدس) لم يغفل التجارب السابقة بالرغم من كونه معاصرا لاهمها واخطرها ولكنه منذ ذلك الوقت كان يعتقد ويرى ويشعر بان ما ينفع الناس هو انتهاج ما كان رسول الله والائمة (عليه السلام) يسلكونه خلال دورهم القيادي والتربوي فالمنهج منبثق من القادة المعصومين من خلال الشريعة المقدسة وقوانينها التي تنظم حياة الفرد والمجتمع..
كان يعتقد (قدس) انه لا فائدة من تأسيس دولة اسلامية من دون مجتمع مسلم بل لا بد ان تنبثق هذه الدولة من المجتمع المسلم الذي يشعر باهمية العدل..
ان هذا الكلام ليس شيئا جديدا ولم يغب عن وعي الواعين ولكن الشيء الجديد الذي قام به السيد محمد الصدر (قدس) تطبيق قوانين الشريعة وهذا لم يحصل سابقا.. فمثلا حينما تسمع عن الرسول هذا الحديث((انما امرت ان اخذكم بالبينات والايمان)).
فالرسول(ص) مأمور ومكلف بتطبيق هذا القانون بالرغم من كونه خاتم الانبياء وصاحب العلم اللدني واعلى المخلوقات واعظمها..
ومن باب اولى ان نلتزم بهذا القانون الالهي وتوجد في الشريعة الكثير من الاحكام التي تنظم الحياة على جميع المستويات
ان السيد محمد الصدر(قدس) حينما يريد ان ينصب اماما للجمعة لم يلجأ للعرفان او الفلسفة او الخبرة الاجتماعية بل كان مأمورا ومكلفا من قبل الشريعة في ان يختار ما قامت الحجة على عدالته والحجة تقوم في امور كثيرة منها البينة وهي شهادة عادلين.. وكان الناس يعترضون بسبب جهلهم على كثير من الأمور ولو انيط للناس امور الدين لم يفلح السيد محمد الصدر(قدس) في اقامة جمعة ولا جماعة لان الناس تحركهم النفس الامارة بالسوء والجهل والقلب المريض المملوء حقدا وبغضا وغلا..
ان منهجية الشريعة التي سار عليها هي التي ساهمت في نمو هذا الشعور………… ان السيد محمد الصدر(قدس) بالرغم من كونه دائرة معارف متكاملة بحيث بلغ الاجتهاد في الفلسفة وعلوم العربية والكلام والمنطق وغيرها كثير ولكن الشيء الذي يطغى عليه الناحية المتشرعية حتى توهم البعض انه مهتم بالتشريع فقط وليس له حظ من العلوم الاخرى وهذا الوهم باطل وسبب هذا التوهم هو أن السيد محمد الصدر(قدس) كان مهتما في تربية وإصلاح المجتمع فأهتم بالناحية المتشرعية لاجل هداية الناس ولم يكن يهمه ان يعرف الناس انه مجتهد ومحقق في الفلسفة التي كان يدرّسها في الستينيات والسبعينيات وهذا نكران للذات وفناء في حب الله..
ان من اهم الامور التي ركّز عليها السيد محمد الصدر(قدس) في منهجه لتربية المجتمع هي:
أولا: وظيفة التبليغ(أي تبليغ أحكام الشريعة الى عامة الناس). ثانيا:وظيفة الهداية (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ثالثا: إحياء ما عطّل من الشعائر والسنن والعبادات التي ساهمت مساهمة
عظيمة في التربية ونشر الوعي وعلى سبيل المثال احياء صلاة الجمعة التي لازالت الحصن الحصين بل هي تمثل شخصية ووجود المجتمع المسلم.
ان السيد محمد الصدر(قدس) احيا كل الصلاحيات المناطة اليه من قبل الشريعة, فالمجتهد له مناصب شرعية تجعله على قمة المسؤولية والقيادية والمناصب هي:
أولا: منصب الفتوى: فالمجتهد له الاهلية في استنباط الحكم الشرعي ومنصب الفتوى يجعل له ولاية بمعنى ان الفرد والمجتمع يرجعون اليه وهذا ما يسمى (التقليد).
والفتوى هي بيان الاحكام الكلية المستنبطة من ادلتها التفصيلية..
فالفتوى هي حكم شرعي قامت عليه الحجة وهي تمثل مصداق من مصاديق العدل الالهي ومن خلال اهتمام الناس بفتوى المرجع نستطيع ان نشخص مدى شعور الناس باهمية العدل الالهي والشيء الملفت للانتباه ان عدد المقلدين بلغ ارقام قياسية في ايام مرجعية السيد محمد الصدر (قدس) بل ان المجتمع بدأ يدرك اهمية التدقيق في الشرائط واكتسبت المرجعية قوة كبيرة ولا زالت بسبب عدد المنتمين اليها وهم بفضل الله بالملايين.
ثانيا: منصب القضاء: فالمجتهد له اهلية القضاء وعلى هذا الاساس قام السيد محمد الصدر (قدس) بتشكيل محاكم شرعية تهتم بالمشاكل التي تحصل بين افراد المجتمع بل وقدم رسالة عملية رائعة تهتم بالمشاكل العشائرية فالسيد محمد الصدر (قدس) لم يطلب الغاء العشائر بل اراد ان يتبعوا قانون الله العادل المتمثل في الشريعة المقدسة فألّف كتاب فقه العشائر.
ثالثا: منصب الولاية: وتسمى بولاية الفقيه او الولاية العامة وهذا المنصب الخطير يعطي للمجتهد صلاحية التصرف في الناس والمجتمع كصلاحية الحاكم العرفي (كرئيس الدولة).
وقد قام السيد محمد الصدر(قدس) بدور الولاية على ضوء الشريعة لان الولاية العامة مقيدة بالدليل ووجود المصلحة العامة..
ان السيد محمد الصدر (قدس) سخّر ولايته من اجل هداية الناس فكانت تصدر اوامره ونواهيه على هذا الاساس..
ونلاحظ ان هذه المناصب هي مناصب شرعية يعني ان الذي جعلها هو الشرع يعني العدل الالهي وهناك امر في غاية الاهمية لعب دورا مهما وخطيرا في الحفاظ على التربية بل وترتيب مراحلها وتدرجها وتصاعدها وهذا الامر هو التقية!!! لان التقية تمثل تشريع من التشريعات فالتقية قد تجب وقد تحرم وقد تكون جائزة وخير من طبّق التقية تطبيقا موافقا للشريعة هو السيد محمد الصدر(قدس).
بل ان التقية من منظور السيد محمد الصدر(قدس) تحتاج الى بحث مستقل ودراسة مستفيضة..
ان السيد محمد الصدر(قدس) رفع الغموض والتشويش والضبابية عن التقية..
ومن الطريف ان هناك الكثير من مؤيدي السيد محمد الصدر(قدس) وغيرهم ممن يستغرب عندما يسمع ان السيد محمد الصدر(قدس) قد عمل بالتقية لان هذا الاستغراب ناشئ من الجهل بمعنى التقية لان التقية في ظل عدم وجود الوعي لم يكن لها معنى واضح بل كان البعض يعتبرها سببا للذلة والتقاعس والسكوت عن الحق والركون للظالم.. وهذا ليس مفهوم التقية الصحيح!!! كيف يكون كذلك؟وقد روي عن الإمام الصادق(ع)انه قال((التقية ديني ودين آبائي))..
ان العملية التربوية التي قادها السيد محمد الصدر(قدس) بإعمال ولايته العامة كانت ملتزمة بالتقية بل ان السيد محمد الصدر(قدس) ساهم في تغيير وتوعية الناس الى مفهومها الصحيح التي جعلها الله قانونا لا زال ساري المفعول ولطالما كان السيد محمد الصدر(قدس) يستعمل لفظ الشجاعة في مقابل التقية بل انه وضع معياراً في صرف الشجاعة وهذا المعيار يكون في الامور ذات الاهمية القصوى وخير دليل على ذلك الاهزوجات التي هتف بها المصلون في مسجد الكوفة كانت تمثل تحديا للنظام وعلامة واضحة للشجاعة التي حصلت في المجتمع بعد سنين طويلة من الخوف والرعب وقد قال السيد(قدس) معلقا على هذه الأهزوجات ما نصه في الجمعة السابعة والعشرين:-
(( ومن بوادر الشجاعة ما حصل هنا في مسجد الكوفة وغيره من الهتافات والأهازيج وكنت أنا أعتبرها بصراحة نصرا للدين وعزة المذهب كما هي كذلك جزى الله قائليها خيرا إلا إننا حينما ظهر لنا أن مضاعفاتها المحتملة التي قد تعود بالمفسدة على الحوزة والدين كثيرة مع الأسف وما يسمى بالإصطياد بالماء العكر كنا مضطرين للإعتذار عنها على أية حال وإنما الأعمال بالنيات والله تعالى يعلم ما في قلوب المخلصين وإستعدادهم للتضحية على مختلف المستويات وهذا كاف جدا جزاكم الله خيرا وإذا كانت هناك شجاعة إن شاء الله تعالى فإصرفوها بحذر وبشكل مدروس وبالأساس مع الإستئذان من الحوزة العلمية الشريفة وليس بإتخاذ عمل أو قرار بالإستقلال عنها ومن دون الإستئذان منها والعياذ بالله )) انتهى
ومن الواضح من خلال هذا الكلام ان معيار العمل بالشجاعة او التقية هو الشريعة نفسها بمعنى متى تعلقت الحرمة كانت الشجاعة أوالتقية ممنوعة وهكذا فان العدل الالهي هو المعيار وليس غيره وقد اتضح من كل ذلك ان منهجية الشريعة هي البرنامج المتكامل الذي سار عليه السيد محمد الصدر(قدس) في حركته التربوية