محمد الزهيري… فكرٌ يقاوم، وصوتٌ لا يهادن

محمد الزهيري… فكرٌ يقاوم، وصوتٌ لا يهادن

من تخوم الجنوب العراقي، ومن مدينة الناصرية العابقة بتاريخها النضالي وثقافتها العريقة، بزغ فجر محمد الزهيري في الثاني من كانون الثاني عام 1949، ليشقّ طريقه في دروب المعرفة والوعي، ويصبح أحد أبرز الوجوه الوطنية والفكرية في عراق ما بعد الخراب.

نشأ الزهيري في كنف أسرة تحترم العلم وتجلّ الثقافة، فنهل من معين التعليم في بغداد منذ نعومة أظفاره، متدرجًا في مراحل الدراسة حتى أكمل الإعدادية في مسقط رأسه، قبل أن تقوده مسارات الحياة إلى مدينة الحلة، حيث استقرّ منتصف السبعينات بحكم عمله الوظيفي. حصل على شهادة البكالوريوس في علوم التربة والمياه من كلية الزراعة – جامعة بغداد، وعمل في مشاريع استصلاح الأراضي بالتعاون مع شركات أجنبية، ثم في دوائر الري، مهندسًا يرعى النهر ويقرأ في جريانه تاريخًا ونبوءة.

ولأنه لم يكن رجل وظيفة فحسب، بل رجل فكرة وقضية، فقد واصل دراسته حتى نال شهادة البكالوريوس في القانون من الجامعة الإسلامية، وامتهن المحاماة، ليجمع بين العلم والعمل، بين الحرف والموقف. لكنه لم يُطِل المكوث في عالم المرافعات، إذ سرعان ما ترك المحاماة ليتفرغ كليًا للعمل الثقافي، متخذًا من الفكر سلاحًا، ومن المعرفة ساحة نزال.

كانت رؤاه متجذّرة في اليسار، لكنه لم يكن أسيرًا للإيديولوجيا، بل قارئًا واعيًا للتحولات، ناقدًا للثابت حين يعوق الحياة. عُرف بإعداده دراسات معمّقة طالت قضايا الاقتصاد السياسي، النظم الانتخابية، العولمة، الدولة، والدين، وقدّم محاضراته في منابر لا تحصى، من أبرزها:

    محاضرته في اتحاد أدباء وكتاب بابل عن “الدولة المدنية: عناصرها وتطورها التاريخي”، حيث فصل القول في نشأة الدولة ومرور مفهومها من العقد الاجتماعي إلى النظام المؤسساتي.

    ندوته في منتدى “العشرة كراسي” بعنوان “الخصخصة والعراق”، حيث طرح سؤالًا جريئًا: “هل نُباع نحن مع المصانع؟” في إشارة إلى تفكك الدولة وانفلات سيادتها.

    حديثه في مقر الحزب الشيوعي العراقي عن “النظام الانتخابي الجديد حسب قانون 9 لسنة 2020”، حيث انتقد تفصيل القوانين على مقاسات القوى المتنفذة، قائلًا: “الديمقراطية لا تُختزل في صناديق الاقتراع، بل تُبنى على وعي الناخب وكرامته.”

    وفي ساحة احتجاجات تشرين، وقف يخطب بين الشباب الغاضب قائلاً: “هذه الساحة ليست ساحة غضب فقط، إنها ساحة تفكير، ساحة مراجعة كبرى لما جرى لنا، فلنكن صوتًا للمستقبل لا صدى للماضي.”

 

ومن القضايا التي خاض غمارها بجرأة وعمق:العولمة وأثرها على المجتمعات النامية، صندوق النقد الدولي، الماسونية العالمية، الخصخصة وهيمنة رأس المال، العلمانية وبنية الدولة الحديثة، المجتمع المدني والدولة الديمقراطية، الأنظمة الانتخابية في العالم، الأزمة المالية في العراق، بداية انحدار الإمبراطورية الأمريكية، نقد مشروع قانون الأحوال الشخصية (الجعفري).

وكان من أبرز مناصري الدولة المدنية، لا بشعاراتها فحسب، بل بإيمان راسخ بها كخيار وحيد لنجاة العراق. دعا إلى بناء دولة تُدار بالمواطنة لا بالمحاصصة، واستبسل في الدفاع عن الديمقراطية بوصفها مشروع تحرر لا غطاءً للتسلط.

أما في ميدان حركة السلم العراقية، فكان من المؤسسين البارزين لـ مجلس السلم والتضامن بعد 2003، وأسهم في أنشطته ولقاءاته، مستذكرًا دائمًا أن “العدل والسلام متلازمان، لا يمكن أن يُزرع السلام على أرض منزوعة الكرامة.”

ومن أبرز شهادات المثقفين عنه: قال عنه أحد زملائه في اتحاد الأدباء: “كان الزهيري عندما يصعد إلى المنبر، لا يُلقي محاضرة بل يُشعل جذوة وعي، تُجبرك أن تفكر، أن تتساءل، أن تراجع.”

    وكتب أحد شباب تشرين منشورًا بعد مشاركته في ندوة ميدانية له: “عرفت لأول مرة الفرق بين الدولة والحكومة… شكرًا للزهيري الذي فتح لنا نافذة نطل منها على الوطن كفكرة، لا كأنقاض.”

كذلك، لم تغب عنه وسائل التواصل الاجتماعي، فكان حاضرًا بمنشوراته القانونية والسياسية والاقتصادية، مبسطًا المفاهيم بلغة جماهيرية، لا نخبويّة، حتى غدا مرجعًا شعبيًا في قضايا ملتبسة كالدستور، العقود، والعدالة الانتقالية.

لقد مثّل محمد الزهيري نموذجًا نادرًا للمثقف العضوي الذي لا ينعزل في برجٍ من عاج، بل يهبط إلى الناس، ويقف بينهم، ويصوغ فكره من معاناتهم وآمالهم، واضعًا على رأس رسالته مسؤولية الدفاع عن الإنسان، عن حريته، وعن حقه في وطن حرّ كريم.

إنه فكر يقاوم، وصوت لا يهادن، وقامة وطنية ستبقى ماثلة في ذاكرة الحراك الثقافي والاجتماعي العراقي، ما بقيت الكلمة الحرة نبراسًا، وما دام هناك من يرفض أن يُدار الوطن كغنيمة لا كمشروع حياة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات