19 ديسمبر، 2024 7:06 ص

محمد الجزائري في قطار البصرة ساعة 11

محمد الجزائري في قطار البصرة ساعة 11

منتصف تسعينات القرن الماضي أقام الاتحاد العام للأدباء والكتاب في البصرة وكان يرأسه حينها الاديب عبد الجبار الحلفي ندوة عن النقد الأدبي الحديث دعي اليها حوالي 15 عشر ناقدا من العراق واتذكر منهم النقاد الدكتور حاتم الصكر ، الدكتور عبد الله ابراهيم ، محسن الخفاجي ، سعيد الغانمي ، الدكتور علي جواد الطاهر ، عبد الستار ناصر ، باقر جاسم محمد ، محمد الجزائري ، نعيم عبد مهلهل ، عبد الجبار داود البصري  ، الدكتور عبد الرضا علي .

جمعت هذه الندوة وقتها عتاة الذين يشتغلون بالنقد بشتى مذاهبه وكانت يوميات الندوة التي اقيمت اغلب جلساتها في المركز الثقافي النفطي من انجح حوارات الثقافة التي كان عليها أن تتحاشى الخطاب المسيس وتنتمي الى الحداثة في بلد كان محاصرا بصورة قاسية ، ويومها كان الكرم البصري عجيبا في كل شيء ، ومنها ذلك التفقد الرائع الذي اليومي وجلسات الليل الحميمية التي حرص القاص الكبير محمد خضير والمرحوم الروائي محمود عبد الوهاب والمرحوم الشاعر حسين عبد اللطيف والاديب احسان وفيق السامرائي ان يتواجد فيها معنا وخاصة انا ( ومحسن الخفاجي ) وقد مُورسَ علينا من قبل وزارة الثقافة تمييزا في الضيافة عندما حجزوا لكل ضيوف بغداد في فندق الشيراتون ونحن القادمان من الناصرية حجزوا لنا في فندق متواضع في العشار .

نصف المدعون والذين ذكرتهم غادروا الحياة الى سماوات الذكرى والابداع ، وقد منحوا أيامنا البصرية مذاق أن نرسُم أحلامنا من خلال ظلال الشهد الذي تركوه على موائد الحنين اليهم ، واغلب الاحياء الآن في مدن المهجر عدا ( باقر جاسم محمد / محمد خضير / عبد الجبار الحلفي / أحسان وفيق السامرائي ) الله يطول في اعمارهم ويديم في ارواحهم الشابة عطاء المفردة في مذاهب ما يشتغلون ويبدعون .

اليوم يرحل أحد هذه الوجوه التي بصمت على تلك الندوة ( الفاخرة ) لذة من بهجة الابتسامة والطروحات العميقة ، وكانت ورقته القصيرة تشتغل على بنيوية النص العراقي عبر ذهنية المتلقي القارئ على مستوى الشعر والقصة ،

محمد الجزائري ، الناقد والانيق والشفاف والرائي الطيب الذي قضينا طريق العودة الى بغداد بقطار بصرة ساعة 11 .منطلقا من المعقل ومعه كان حواراتنا تنصب على اسئلة وجد اجابتها عندي وطورها لاحقا في مقالات نشرها  في جريدة الشرق الاوسط عن الديانة المندائية وعن عالم الاهوار الذي قال انه عرف الكثير عنه في رؤى كتابه ( الكتابة على اديم الفرات ) ، فيما استفدت انا في نقاش سكة القطار من رؤيا كتابه النقدي المهم ( ويكون التجاوز ) وكنت اعتقد ان هذا العنوان اول عنوان حداثوي وغريب في اغلفة كتب النقد العراقي .

منذ صفير قطار البصرة العائد الى بغداد والى اليوم ، التقيت مرتين مع الناقد المرحوم محمد الجزائري .

مرة في دبي وفيها استذكرنا تلك الندوة التي قلما يجتمع بها هكذا رهط رصين من فحول النقد العراقي ، والمرة الثانية في العاصمة البلجيكية بروكسل قبل عام وقد تنبهت الى آثار الزمن تحفر تحت اجفان الجزائري في معاول الحزن والغربة والشتات.

وبالرغم من هذا ابقى على ابتسامته ووسامته واناقته وذاكرته الحادة وهو يستعيد معي تفاصيل رحلة قطار الساعة 11.

واليوم على عطر رشف فنجان القهوة في المقهى التونسية في الساحة الملكية في بروكسل اجمع دموع فراق الرجل الرائع ( محمد الجزائري ) وأنا اتلقى خبر موته بعد اعوام تجاوز بها السبعين من عمره وهو لم يزل في هندامه في تلك الظهيرة البلجيكية ذلك الرجل العاشق للحياة والذي يخبئ الماً ومراجعات طبية داخل جسده المنتج والمبدع والملائكي.

الآن مات محمد الجزائري ، ورقة اخرى تسقط من شجرة ندوة النقد القديمة في البصرة ، لكن قطار الساعة 11 لم يزل يسير على ذات السكة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات