22 نوفمبر، 2024 11:00 م
Search
Close this search box.

محكمة رفيق الحريري في لاهاي..

محكمة رفيق الحريري في لاهاي..

يقال ،دائما، في بلادنا ، وفي أغلب بلدان العالم، أن القضاء فاسد بطبيعته، وأن القضاة يجدون انفسهم موضوعين داخل أقفاص حديدية يقيمها الحاكم المتسلط، أو الدكتاتور، أو مجموعة المسيطرين على الدولة، الذين يسعون لحماية مصالحهم الخاصة، ومناصبهم، وثرواتهم، والدفاع عن  اخلاقيتهم الهستيرية، أو عن سياستهم التدميرية ، بتقييد القضاة تقييداً شديداً، أولاً واخيراً.

في مدينة لاهاي الهولندية بدأ بتاريخ 1 – 3 – 2014  عمل المحكمة اللبنانية المحكمة الخاصة بلبنان وهي محكمة ذات طابع دولي. يقع مقرها الرئيسي في إحدى ضواحي لاهاي بهولندا. لها ، أيضاً ، مكتب في بيروت، لبنان. حددت مهمتها الرئيسية  بمحاكمة الأشخاص (المتهمين الخمسة) بتنفيذ اعتداء 14 شباط/فبراير 2005، الذي أدّى إلى مقتل 22 شخصاً، بمن فيهم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، و جرح اشخاص كثيرين آخرين. لذلك   احيانا يسمونها (محكمة الحريري). لكنني وجدتها خلال جلساتها كلها ، ذات عملية قضائية من نوع خاص،  من نوع حميمي عادل، تحت شعار (زمن العدالة) لمعايشة جميع الظروف الشخصية، والعامة ،والمجازية، وغيرها من عمليات تقمص واغتيال شخصية سياسية لبنانية متمثلة برئيس الوزراء رفيق الحريري  وبطريقة غاية في السرية في التخطيط والتنفيذ مما يجعلها جريمة من ادق جرائم العصر الراهن.

منذ اليوم الاول لانعقاد أولى جلسات هذه المحكمة حتى الجلسة، التي انعقدت صباح اليوم ، وأنا اتابعها ،بصورة مركزة ،عن طريق الشاشة التلفزيونية ،حيث الجلسات تكشف نفسها ولا تغطي اي شيء منها حتى ولا بملاءة.

كشفتْ المحكمة – مطالعات الادعاء العام خصوصاً – عن خبرة قضائية لا مثيل لها ، لا في مشاهداتي الافلام السينمائية عن جرائم القتل والاغتيال والارهاب ، ولا في قراءاتي الكثيرة للروايات البوليسية. ذهب التحقيق القضائي في هذه المحكمة إلى جميع الأمور التفصيلية الخاصة بالجريمة،  إلى كل مخزن من مخازن الامور المحيطة بها ، بسياق حركة مكالماتها التلفونية ،وحركة السيارات الناقلة للمجرمين ومفجري إحداها، وبذكاء منفذيها ، كذلك بسياق جميع محاولات تضليلية استخدمها المنفذون.

كان التضليل هو الأخطر على القضاة للتوصل الى العدالة لأن تجربة عملية الاغتيال مبنية بأساليب شديدة العمق في السرية ،و تغليفها بكثير من اللبس، مما استدعى المحكمة إلى استخدام اعلى وسائل واشكال البراعة في التحقيق، النزيه ، الذكي،  الصارم، المبني على الوثيقة المؤكدة والصورة الفوتوغراف، وصور الفيديو ، ومسجلات الصوت بالاستناد على اعلى اشكال التكنولوجيا التحقيقية بوسيلة الاقمار الصناعية  ،وتحليلها بواسطة دهاقنة المهندسين العالميين العاملين في تكنولوجيا شركات الموبايل الدولية اضافة الى استخدام خرائط الكَوكَل .

كان ذلك نتيجة جهد كبير خلال ست سنوات إذ افتُتحت المحكمة الخاصة بلبنان في 1 آذار/مارس 2009، وهي تتألف من أربعة أجهزة: (1) الغرف، و(2) الادعاءالعام، و(3) مكتب الدفاع، و(4)(قلم المحكمة.

المحكمة هيئة قضائية مستقلة تضم قضاة لبنانيين ودوليين.  ليست محكمة تابعة (للأمم المتحدة) ولا جزءاً من (النظام القضائي اللبناني). لكنها تحاكم متهمين  بموجب قانون العقوبات اللبناني. وهي أيضاً المحكمة الأولى من نوعها في  محاكمة ممارسي (الإرهاب) بوصفه جريمة قائمة بذاتها.

القاضي في هذه المحكمة، والادعاء العام ،والشهود، ومحامو الدفاع،  يواجهون الاسئلة بنوع بالغ الهدوء . لا يقول القاضي إلا القليل من الكلام المتعلق بجزء مطروح بلحظة من لحظات القضية. المدعي العام يسأل بلا انفعال وبكل روية. محامي الدفاع يسأل أو يجيب بكل حرية  وبلا خوف لكن بقليل من كلام مركز، دقيق، ونابه.

الكل يعلم تمام العلم أن المحكمة ليست غاضبة على أحد، لا تريد الانتقام من أحد، بل تريد أن تتوصل الى (الحقيقة الكلية) من خلال (وقائع  جزئية) تتعلق بتفاصيل خيوط  الجريمة،  أو بتفاصيل كبيرة لكنها قليلة المعلومات.

لم أجد أي شكل من اشكال الدراماتيكية في هذه المحكمة، بل تخصصت كل جلسة من جلساتها لكشف خفايا هذه العملية السرية جداً، من خلال شهادات الشهود من مختلف الانواع بما فيهم شخصيات حليفة لسوريا أو مرتبطة بأجهزة مخابراتها بمن فيهم وزراء أو مدراء أو رجال احزاب كان في مقدمتهم عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السورية.

كم اتمنى أن يأتي يوم يصبح فيه القاضي العراقي معتصما بالدفاع عن (العدالة) وأن يبحث عن مقوماتها ،وأن يبتعد عن الضجر وقلة الصبر أمام حقوق الانسان المتهم، وأن لا يرضى بسلخ جلده بالتعذيب، و لا يكون أداة بيد (الاقوى) في الدعوى المنظورة (أمامه) وأن لا يكون فاقدا القيم القانونية والعدلية .

القاضي في كل محاكمة تتعدد خياراته ربما بعضها يؤدي إلى انهيار العدالة وربما بعضها يؤدي إلى الالتزام الصارم بها .. خيارات القاضي العراقي يمكنها ان تتطور بالتعلم من مدرسة العدالة الهولندية عموما ومن العدالة، التي تمارسها (محكمة الحريري) في لاهاي .

أحدث المقالات