كما اشرنا، في الجزء الاول والثاني من هذا البحث فان محكمة الجنايات العراقية العليا (المختصة)، هي من افرازات العملية السياسية التي اعتمدت اسس المحاصصة الطائفية والاثنية، بالاضافة الى فقدانها المقومات والمعايير الضرورية للشرعية وتحقيق العدالة. وهذا ما جعلها اداة فاعلة في تأجيج الصراعات الطائفية والعنصرية، ومعول لهدم اي مشروع للمصالحة الوطنية.
لابد من التاكيد هنا بان المصالحة الوطنية هي من اهم اركان مشروع العدالة الانتقالية لان لها دور اساسي في التخفيف من حدة الصراع في البلدان التي تتعرض الى تغيير في اوضاعها السياسية، من حالة الفوضى والارباك التي تخلفها الانظمة الاستبدادية، نتيجة الارث الهائل لانتهاكات حقوق الانسان، الى حالة جديدة خالية من التميز لتجنب اراقة الدماء بين ابناء الوطن الواحد كما حصل في العديد من الدول كراوندة والبوسنة.
ومن متطلبات المصالحة الوطنية، عدم وجود احتلال اجنبي للبلاد، كما هو الحال في العراق، لان قوى الشعب التي ستنشغل بمقاومة الاحتلال وتطالب بخروجه حسب القوانين الدولية والسماوية، ستدخل بدل المصالحة في صراع مع القوى التي جاء بها الاحتلال وسلمها مقاليد السلطة، لتطالب بخروجه بجميع الوسائل القانونية المتاحة.
بالاضافة الى ذلك فأن متطلبات المصالحة لا يمكن ان تتحقق في ظل التوجه الطائفي و العرقي للنظام الحالي في العراق، ومثل هذه الانظمة تسعى دائما الى اقامة انظمة سياسية ثيوقراطية مستبدة، تعمل على تصفية خصومها من الطوائف والاعراق الاخرى باسم الله، وتعيد عجلة التاريخ الى القرون القديمة والوسطى وهي من اكثر الانظمة الدكتاتورية بطشا وبشاعة.
أن المصالحة الوطنية هي الطريق الامثل لبناء مؤسسات المجتمع المدني التي من شأنها ارساء قواعد الديمقراطية الليبرالية على اسس سليمة، والاخيرة ليست بناء فوقي يبدأ من القمة بين القوى السياسية المتصارعة على السلطة، التي تعمل ضد مصالح الشعب العراقي لتحقيق مصالحها الفئوية
الضيقة بل هي بناء تحتي، يشترك في بلورته جميع ابناء الشعب العراقي وخاصة ضحايا الانظمة الاستبدادية المتعاقبة، وبالتالي فان المصالحة لا يمكن اطلاقها من القوي للضعيف ومن موقع السلطة الحاكمة للمحكومين، لاننا سنكون امام شكل من اشكال عقود الاذعان الذي سرعان ما ينفرط في اقرب فرصة سانحة.
لذلك لا بد من تهيئة جميع الظروف الملائمة للمصالحة بين الضحايا ومخلفات الانظمة المستبدة، (كالمحاكمات العادلة) لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية، وتشكيل لجان الحقيقة والمصالحة، وتعويض جميع المتضريين عن جميع الافعال المخالفة للقانون، وتوفير متطلبات الحياة الضرورية كالماء والكهرباء والمحروقات وغيرها، والقضاء على جميع مظاهر الفساد السياسي والاداري والاجتماعي، واصلاح القوانين ومؤسسات الدولة على اسس سليمة، وتشكيل منظمات المجتمع المدني بشكل واسع لضمان الرقابة الشعبية على اعمال وسلوك المسؤولين في الدولة.
ان النهوض بهذه المسؤولية لايمكن ان يتم الا بوجود حكومة رشيده تمتلك الشرعية الدولية، وان ما نراه الآن من ممارسة في العراق هو بعكس ما تتطلبه المصالحة الوطنية، بل هي اسوأ من اي نظام استبدادي سابق منذ نشوء الدولة العراقية ولحد الان وهو نكوص بالوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الى ما كان سائدا في القرون الغابرة.
اذا كان الغرض من محاكمة صدام حسين واركان النظام السابق هو تحقيق العدالة وردع الحكام الجدد من ارتكاب جرائم مماثلة، واذا كان الهدف منها انهاء حقبة تأريخية مظلمة وجعلها درسا للاجيال القادمة، فان سلوك الحكام الجدد بعد الاحتلال واسلوب تشكيل هذه المحكمة، يتنافى مع ابسط المستلزمات المطلوبة لتحقيق هذه الاهداف.
السؤال الجوهري الجدير بالمناقشة هو: اذا كانت فترة حكم صدام حسين تتميز بالدكتاتورية المطلقة والأنتهاكات الجسيمة لحقوق الأنسان..فهل تعتبر محاكمته من قبل محكمة تفتقر لابسط المعايير الدولية وقرار الحكم باعدامه ذو نزعة انتقامية وغير عادلة، مما ادي الى زيادة العنف والانقسام الطائفي والاثني في العراق..؟
قبل الخوض في بعض التفاصيل، لا بد من الأشارة بان الحكم باعدام صدام حسين يتنافي مع القيم الديمقراطية ومبادئ التسامح والمصالحة التي طالما تحدثت بها قوات الأحتلال وحكوماتها المتعاقبة في العراق.
وكما اشرنا فان هذه العقوبة محرمة دوليا بحكم كونها عقوبة همجية وانتقامية بغض النظر عن جسامة الجريمة وطبيعة مرتكبها. وبهذا لاقت الأستنكار والأستهجان الواسع في جميع انحاء العالم عدا حكومات مثل “امريكا وايران واسرائيل”، وذلك بحد ذاته يكفي لاحراج الحكومة الحالية في العراق ، التي يفترض ان تحمل الصفة الدينية وتسترشد بهدى وتوجيهات “المراجع العظام”. ويؤكد دستورها على ان مبادئ الشريعة الأسلامية من المصادر الرئيسية في التشريع. فلماذا لا تطوي صفحة العنف والأنتقام باعتماد روح التسامح والمحبة والوئام التي ركزت عليها الشريعة الاسلامية باعتماد مبدأ “الدية”، بدلا من قيادة فرق الموت والمليشيات المسلحة حسب الوثائق الكثيرة المنشورة، مما جعل الانتهاكات المروعة لحقوق الأنسان تفوق عشرات المرات انتهاكات النظام السابق.
هناك تجارب اخرى يمكن الأقتداء بها، كتجربة الزعيم الوطني نيلسون مانديلا. لقد قضي مانديلا في سجون حكومة التمييز العنصري في جنوب افريقيا 27 سنة، وعانى خلالها من التعذيب والتجويع والحرمان مالا يتحمله اي انسان، ومع ذلك قاد المصالحة الوطتية مع ألد أعداءه، حال اطلاق سراحه من السجن، ودون ان تبدر منه اية اساءه لأي خصم من خصومه. وهذه هي الروح التي تدل على الشجاعة والنزعة لبناء مجتمع جديد ينبذ العنف والأنتقام ويسعى لبناء مجتمع ديمقراطي ليبرالي.
يظهر بان الحكومات المتعاقبة ارتضت ان تكون مجبرة على اتباع هذه السياسة من قبل قوات الاحتلال باعتبارها صاحبة الفضل بوجودهم في السلطة، وهذا لا يعفيهم من المسؤولية بحكم مشاركتهم بهذه السياسة وسواءا كانوا على دراية او عدم دراية بالأهداف الحقيقية الكامنة وراء الأحتلال.
هذا يعني ان تكريس المحاصصة الطائفية والأثنية من قبل هذه الحكومات المتعاقبة لم تأت عن خطأ او بطريق الصدفة، وانما جاءت عبر اجندة سياسية مدروسة منذ مؤتمرات فينا وصلاح الدين ولندن، بهدف الوصول الى تفتيت اواصر النسيج الأجتماعي وتهيئة الظروف الموضوعية لحرب اهلية تمهد لصراع اقليمي
طويل الأمد يبعد شبح ما يسمى بالأرهاب عن امريكا وحلفائها ويحقق بالنهاية ما يدعى بمشروع الشرق الأوسط الجديد في تقسيم الدول المشاركة في الصراع الى دويلات او امارات او مشايخ طائفية واثنية صغيرة يسهل ادارتها والسيطرة عليها سياسيا واقتصاديا.
الصراع الأقليمي لا يمكن ان يتحقق الا بتعرض الأمن القومي ومصالح الدول الأقليمية الى الخطر والتهديد الحقيقي. لذا فان اشعال فتيل الحرب الطائفية والأثنية في العراق هو الكفيل بتحقيق هذا الهدف، خصوصا وان العراق يشكل العمق الأمني والأقتصادي والسياسي ألاستراتيجي لجميع الدول الأقليمية .
وان استقراء الواقع الحالي في العراق يشير الى ان سلوك الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الغزو وحتى الان هو السعى لتحقيق تلك الأهداف.
ونرى ان العملية السياسية منذ تشكيل مجلس الحكم واعتماد قانون ادارة الدولة واجراء الانتخابات الطائفية وتشكيل الحكومات المتعاقبة تصب في تكريس المحاصصات الطائفية والأثنية التي تتناقض مع اسس الديمقراطية الليبرالية في فصل الدين عن السياسة.
كما ان التغاضي والتشجيع على تشكيل المليشيات الطائفية المسلحة وفرق الموت من قبل القوى السياسية الطائفية والاثنية المشاركة في العملية السياسية ودمجها بوزارتي الداخلية والدفاع وعدم الاكتراث لما ترتكبه من جرائم يومية بشعة بحق الابرياء، هو دليل، لا يقبل الشك، بتأجيج الصراع الطائفي والأتني للوصول الى الغايات المرسومة.
لقد جاء تشكيل المحكمة الجنائية الخاصة لمحاكمة صدام حسين واركان نظامه (حصرا) على نفس اسس المحاصصه وبنظام قضائي خاص لا يمت للنظام القضائي العراقي باية صلة، ويفتقر القضاة والمدعون العامون لأبسط المؤهلات المطلوبة للنظر في مثل هذه القضايا وفق التنظيم القضائي العراقي، وان تشكيل المحاكم الخاصة او الأستثنائية محرمة دوليا وفق اتفاقيات جنيف لعام 1949. وهي مخالفة صراحة لاحكام الماده 58 من الدستور المعمول به حاليا. لذلك فان محاكمة صدام حسين واركان نظامه بهذه
الطريقة لم تأت بمعزل عن الدفع باتجاة تكريس الصراع الطائفي والأثني البغيض.
ومن خلال سير المرافعات لهذه المحكمة تأكد افتقارها لآبسط المعايير الدولية في تحقيق العدالة. كما اكدت ذلك هيئة حقوق الأنسان في الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الأنسان في واشنطن.
ومن المآخذ الرئيسية على هذه المحكمة:
1-التجاوز الصارخ على حق الدفاع المقدس بأرهاب المتهمين وشهود الدفاع وطرد محامي الدفاع من قاعة المحكمة.
2- تلاوة قرار الحكم بالعقوبة بدون قرار الأدانة الذي يقتضي تلاوته قبل النطق بقرار الحكم استنادا للمادة 223 من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971، ولاسيما ان قرار الأدانه له اهميته البالغة لما يتضمنه من حيثيات القضية ومبررات الأدانة واسباب العقوبة.
3- جاء قرار التصديق على قرارات محكمة الموضوع (المحكمة الجنائية الخاصة) من قبل “هيئة التمييز الخاصة” بشكل مقتضب غير مألوف في المحاكم وبسرعة قياسية مذهلة، اذا ما علمنا ان الخبرة والتجربة تقودنا الى ان دراسة مثل هذه القضية بما فيها من ملابسات وطعون ونقاط مثيرة للجدل من قبل كافة اطراف القضية وما يستوجب على هذه المحكمة من تفنيد ومناقشة جميع النقاط المذكوره بقرار التصديق، تحتاج ستة اشهر على الأقل. ومن الصعب اذا لم يك بحكم المستحيل ان يتفق تسعة اعضاء في هيئة التمييز الخاصة على رأي مشترك في مثل هذه القضية الشائكة، الا اذا كان اختيارهم قد وقع تحت شروط معينه لتمرير مثل هذه القرارات.
وان ما يؤكد ما ذهبنا اليه في كون قرارات الحكم سياسية بحته ومعدة سلفا، وانها جزء لا يتجزأ من المراحل الضرورية لتجذير الطائفية ولأشعال الحرب الأهلية في العراق هي الحقائق التالية:
اولا: اعلان رئيس الوزراء العراقي (الانتقالي) قبل صدور قرار التصديق من هيئة التمييز الخاصة، بان تنفيذ حكم الأعدام بصدام حسين سيكون قبل نهاية عام 2006، وهو ما حصل فعلا.
ثانيا: هناك طريقتان للطعن بالأحكام الصادرة بموجب الفصل التاسع من “قانون المحكمة الجنائية الخاصة” وهما:
التمييز: يحق لاطراف القضية التقدم بطلب التمييز خلال مدة ثلاثين يوما وفق المادة 25 من القانون المذكور، وهذا ما حصل حيث تمت المصادقة على الأحكام الصادرة من محكمة الموضوع بسرعة قياسية (خلال مدة عشرة ايام..؟!)
اعادة المحاكمة: يحق للشخص المدان وللادعاء العام التقدم الى هيئة التمييز بطلب اعادة المحاكمة بموجب المادة 26 من القانون المذكور. فالحكم لم يكتسب الدرجة القطعية الا بمرور ثلاثين يوما على قرار المصادقة علية من “هيئة التمييز الخاصة” بشرط عدم وقوع اي اعتراض بطلب اعادة المحاكمة. وبما ان القرار قد نفذ قبل مرور هذه المدة، فان تنفيذ الحكم يعد خرقا فاضحا لقانون المحكمة الجنائية الخاصة الذي شرع اصلا من سلطات الأحتلال (الحاكم المدني بريمر).
ثالثا: ان عدم النص على الاجراءات الشكلية لتنفيذ الأحكام في قانون المحكمة الخاصة بشكل واضح وصريح، يلزم اللجوء الى الأحكام العامة المنصوص عليها في قانون اصول المحاكمات الجزائية، مما يقتضي احالة القضية بعد اكتسابها الدرجة القطعية الى وزير العدل ليتولى ارسالها الى رئاسة الجمهورية لاستحصال المرسوم الجمهوري بالتنفيذ وفق المادة 287 من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وان عدم الالتزام بهذا النص وحرمان المحكوم عليه من حق للطعن الذي كفله قانون المحكمة الخاصة يعد خرقا جسيما وانتهاكا لحقوق الأنسان.
رابعا: اللجوء الى تنفيذ الحكم بالاعدام بهذه السرعة الفائقة في اليوم الأول من ايام عيد ألاضحى المبارك يعد خرقا سافرا لأحكام المادة 290 من قانون اصول المحاكمات الجزائية التي تنص ” لا يجوز تنفيذ عقوبة الأعدام في ايام العطلات الرسمية والأعياد الخاصة بديانة المحكوم عليه”. اذا كان هناك جهل بهذا النص فان “الجهل بالقانون لا يعتد به” واستبعد ذلك كليا. واذا اعتبروا صدام حسين كافرا وان العيد المعلن في النجف الأشرف هو يوم الأحد وليس السبت (وهو الراجح)، فان
اعدامه يوم السبت هو يوم عطلة رسمية مقره من قبل الحكومة وبالتالي فانهم أزهقوا روح انسان خلافا للقانون. وقد ادى هذا السلوك الى ردود فعل واستنكار واسعين على الصعد العربية والأسلامية والعالمية، وقد وصف رئيس الوزراء الماليزي كلا من بوش وبلير “بمجرمي حرب”.
جميع هذه المعطيات والحقائق تؤكد بان هذه المحاكمات والأحكام الصادرة هي انتقامية وسياسية بحته، وان كل الظروف والملابسات والانتهاكات للشرعية الدولية والقوانين العراقية بل حتى خرقهم لدستور الدولة الحالي كما اوضحنا، تجعل من الأقدام على تنفيذ حكم الأعدام بحق صدام حسين بمثابة قتل عمد مع سبق الأصرار خارج القضاء، سيتحملون مسؤوليته بالأضافة الى مسؤوليتهم عن جميع الجرائم والأنتهاكات الأخرى لحقوق الأنسان في المسقبل.
لا يختلف الأغلبية بان صدام حسين كان دكتاتورا مستبدا، وارتكبت في ظل نظامه انتهاكات خطيرة لحقوق الأنسان، الا ان ذلك لا يبرر مطلقا اللجوء الى عمليات انتقامية بقرارات سياسية سواء كانت بمحاكمات صورية او عن طريق المليشيات الطائفية وفرق الموت بدعم وتواطؤ من قوات الاحتلال والحكومة الدمية.
لو كان التغيير للنظام العراقي السابق قد جرى تحت غطاء الشرعية الدولية وبقرارات من الأمم المتحدة، لتشكلت محكمة جنايات دولية على غرار محاكم روانده ويوغسلافيا او احالة القضية الى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة صدام حسين واركان نظامه، مما تمنحهم الحرية الكاملة للدفاع عن انفسهم واختيار موكليهم من المحامين واستدعاء شهود الدفاع ومناقشة الأدلة والقرائن في ظل ظروف امنية مستقرة، لغرض التوصل الى تحقيق العدالة وكشف جميع الحقائق والملابسات التي رافقت تلك الحقبة من الحكم. ولا يهم ما تستغرقه هذه المحاكمات من زمن طالما انها توفر القناعة بعدالة المحاكمات.
فالجرائم التي ارتكبت بعد الاحتلال وفي ظل الحكومات المتعاقبة قد فاقت في بشاعتها وجسامتها تلك التي ارتكبت في ظل النظام السابق. وان ما ارتكب من جرائم خلال السنوات
المنصرمة، تفوق بعشرات المرات تلك التي ارتكبت في ظل نظام حكم البعث لمدة 35 سنة. وقد وصفت هذه الجرائم من قبل المنظمات الانسانية الدولية بانها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
لقد استقر القضاء الدولي على ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية كما حصل في محاكمات يوغسلاغيا السابقة وروانده. وليس من المصلحة تأريخيا محاكمة رموز النظام السابق من قبل محاكم شكلت بارادة سلطات الاحتلال والحكومات التي شكلها الاحتلال وبالطريقة التي اوضحناها، لان التأريخ والعالم سيخلد هؤلاء المحكومين (كأبطال شهداء) ومها كانت جسامة جرائمهم السابقة.
وقد استقر القانون الجنائي الدولي على تحميل المسؤولية الجنائية للحكام والقادة عن الجرائم الدولية بغض النظر عن اصدارهم الاوامر بارتكابها من قبل المرؤوسيين الخاضعين لسلطتهم، فالمسؤولية الجنائية تبقى قائمة ولو لم يثبت اصدار هؤولاء الحكام الاوامر بارتكابها. ان استلام المسؤولية كحكام او قادة يحتم عليهم العلم بما يقوم به المرؤوسيين من افعال. لذا فان مسؤولية الحكام تظل قائمة وفقا للقانون الجنائي الدولي، حتى في حالة توفر جميع الادلة التي تؤكد عدم علم الحاكم او القائد بما ارتكبه مرؤوسيه من جرائم، لان واجبات وظيفته تملي عليه العلم التام بما يرتكبه مرؤوسيه. وخير مثال على ذلك هو: ادانة المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة كل من قائد جيش صرب البوسنة وقائد الجيش الكرواتي للبوسنة عن جرائم حرب، والحكم عليهم بالسجن لمدد تقترب من 40 سنة، بالرغم من عدم توفر اي دليل ضدهم على اصدارهم الاوامر بارتكاب تلك الجرائم، بل عدم وجود اي منهما على مسرح الجريمة عند وقوعها. وهذا المبدأ ماخوذ من محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية وما قضت به محكمة طوكيو ضد قائد الجيش الياباني “”Yamashita عن جرائم الحرب والحكم عليه بالاعدام عن الجرائم التي ارتكبها جنوده في الفلبين، وبالرغم من ثبوت عدم اعطاءه الاوامر بذلك. فالمسؤولية الجنائية تتحقق بمجرد امتلاك الحاكم او القائد سلطة اصدار مثل هذه الاوامر، ولطالما ان هذه الجرائم قد ارتكبت بمنهجية وليس بشكل فردي من قبل احد الجنود او المنتسبين. كما ان هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن.
السؤال الذي يطرح نفسه الان: ما هي البدائل لغرض تحقيق مصالحة وطنية ونظام حكم مقبول في العراق: اذا كانت هناك نوايا صادقة لانتشال العراق من محنته واعادته للحضيرة العربية والدولية والتمسك بوحدته لما لذلك من اهمية في تحقيق التوازن الامني في المنطقة والعالم اجمع، فان العملية السياسية القائمة بالوقت الحاضر مبنية على اسس خاطئة ولا تمت باية صلة بوحدة العراق وهويته العربية مطلقا، وانما تهدف الى تدمير وتمزيق العراق وخلق الفوضى بالمنطقة التي من شأنها ان تلحق الاذى بالعالم اجمع.
وارى بان الحل يكمن بالغاء ما يسمى بالعملية السياسية الحالية برمتها، بقرار من الامم المتحدة (مجلس الامن)، والعودة بها الى المربع رقم (1) ما قبل 9/4/2003، ووضع العراق تحت وصاية الامم المتحدة، لان القوى السياسية الطائفية والعنصرية العابثة حاليا في العراق، قد اهلكت البلاد والعباد وهي غير قادر على ادارة الدولة كما تؤكد التجربة العملية على مدى السنوات الماضية.
ولغرض احتواء المشاكل الداخلية والخارجية لابد من تشكيل حكومة انقاذ وطني بقرار دولي (مجلس الامن) يكون ملزم وتحت الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. وتكون عناصر حكومة الانقاذ الوطني من المستقلين التكنوقراط المعروفين بكفائتهم المهنية وولائهم للوطن فقط، لغرض ان يطمئن لهم الشعب بجميع مكوناته. على ان تمنح هذه الحكومة جميع السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) لفترة انتقالية يحددها قرار مجلس الامن وعلى ان لا تقل عن خمس سنوات قابلة للتجديد.
وتحدد وظائف هذه الحكومة باعادة هيكلة مؤسسات الدولة على اسس وطنية وعلى وجه الخصوص (القوات المسلحة وقوى الامن الداخلي والقضاء والتعليم والاعلام) وتعمل على اشاعة الامن والطمأنينة وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني للعمل بكل فاعلية وجدية من اجل اشاعة المفاهيم الليبرالية، وتحريم نشاط اي حزب او منظمة طائفية او عنصرية لا تهدف الى توحيد مكونات الشعب العراقي، والمباشرة الفورية والجدية باعمار العراق واعادة بناء جميع الخدمات الضرورية للحياة كالماء والكهرباء والمحروقات وغيرها. ويكون هدف هذه الحكومة
العمل على تأهيل الشعب العراقي على كيفية ممارسة الديمقراطية الليبرالية وبالتالي لا يجوز لاعضاء الحكومة الترشيح لاية انتخابات مقبلة.
ولابد من الاخذ بنظر الاعتبار إعداد مشروع جديد للعدالة الانتقالية في العراق بالتعاون مع خبراء دوليين لوضع أسس ومبادئ سليمة للمصالحة الوطنية وما يتطلبه الوضع الراهن في العراق بعد إنهاء الأوضاع الطائفية المأساوية التي زرعها الاحتلال.
ولا بد من التأكيد على تشكيل محكمة جنايات دولية لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية في العراق من اركان الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال، وبذلك ستمنح حكومة الانقاذ الوطني المصداقية اللازمة في تحقيق العدالة امام الشعب العراقي الذي عانى كثيرا من الظلم ويستحق اعادة حقوقه المسلوبة بالفعل وليس بالكلام المعسول !.
قاض عراقي سابقا/ ورئيس جمعية الحقوقيين العراقيين في بريطانيا