22 نوفمبر، 2024 8:54 م
Search
Close this search box.

محطة الشمال ( تلك باريس)

محطة الشمال ( تلك باريس)

أغلب المدن الأوروبية ، تتوفر على محطات قطار تبهر إلى حد بعيد بجماليتها واتساعها وخدماتها وحركتيها الدؤوبة ؛ لكن ل(محطة الشمال / Gare du Nord ) التي تم بناؤها سنة 1864 نكهة خاصة ؛ نكهة تاريخية تهدف لإبهار كل من يرتادها من أول نظرة، أما في حقيقة الأمر ، تبهر كلما مررت منها ؛ تفرض عليك التأمل في واجهتها التي تبدو كلوحة تشكيلية ، هذا إن كنت ذواقا أو فنانا مبدعا أو عاشقا للمعمار وزخرفه ، بالإضافة إلى تاريخها العريق الذي تنطق به جدرانه وتماثيله التسعة ( 09) المنتصبة بشموخ في أعلى واجهة محطة، تبدو للمرء أنها زينة وتزيين ؛ لكن تلك التماثيل لم توضع ولم تطرح عبثا، بل ترمز إلى( 08) مدن أوروبية رئيسية ، والتي يربطها القطار، من هذه المحطة. وأما التمثال ( التاسع) المتمركز وسطا؛ يرمز إلى مدينة باريس ، لكن بكثرة الازدحام والحركية الدؤوبة ؛ لا تكتشف الوجه الخفي للمحطة ؛ لكن تلمس في ساحة بوابتها الكبيرة ؛ سماسرة يتربصون بك من أجل تقديم خدمات متنوعة ؛ كاقتناء سيارة الأجرة ؛ أو عملية الصرف وتبادل العملة ؛ أواقتناء شقة في فندق؛ إذ لا تفرق بين هذا فرنسي أم إفريقي أم روماني أوإيطاليا ؛ بألبسة مختلفة بين الأناقة والأسمال؛ لكن أغلبهم يتسكعون ويتسولون بين مدرجات المحطة وخارجها، رغم المراقبة الشديدة للشرطة الإقليمية والبلدية ،ومظاهر الحياة المتفردة التي تضم العباد بعضهم ينتظر قطاره ؛ وبعضهم يترقب وصول أبنائه أو أحد أقاربة والبعض الآخر يرتكن للراحة واستغلال ”الويفي” المسترسل مجانا، لكن حقيقة المحطة التي تكشف عن الوجه الآخر لباريس ؛ وعن واقعها البئيس ؛ جولات متكررة ليلا ؛ لترى وتعيش ما لم تعيشه نهارا ! آلاف السكارى المدمنين والمهووسين بالكحول والخمرة ومشتقاتها الفتاكة للأمعاء والشرايين؛ يتحركون بين جنبات المحطة شرقا وغربا، سكارى ومتشردين ينامون بين زوايا أبواب المحطة وغيرها ويفترشون الإسمنت أوعلى البلاستيك أوالورق المقوى ! ومخبولين نساء ورجالا منتشرين بشكل مريب ومخيف في محيط المحطة ؛ في كل الفصول ! وبعضهم يحمل أمتعته كأنه مسافر، وليس بذلك .
تلك باريس، فمحطة الشمال/ Gare du Nord: تعج بالمئات من نماذج بشرية غـريبة الأطوار ; والسلوكات ، ترميهم منطقة )باربيس/ Barbés) أومنطقة )لاشابيل/ Lachapelle ) أو منطقة (كوت دور/ Goutte d’Or) تعيش مكرهة بين جنبات المقاهي والحانات والمطاعم المجاورة أو المواجهة للمحطة ؛ وما بداخلها لأسباب مختلفة ، تحاكي واقعها اليومي المرير ، في عزلة عما يحدث من حولها . ولكن يقتاتون من “حسنات” و” إكراميات المارة والمسافرين؛ والعجيب في الأمر، أن هنالك قاعتين للمسرح (مسرح لابوصول / Théâtre la Boussole ) قريبة جدا من المحطة ؛ والأخرى من خلفها بأمتار( Théâtre des Bouffes du Nord ) محترمين ولا وجود لمتسولين أو متشردين يحيطان بأبوابهما، هل هنالك صرامة في إبعادهم ؛ أم طبيعة الحياة الباريسية تفرض احترام قاعة الفن والإبداع ؟ فالسؤال المطروح ؛ يأتي في سياق ؛ ليس هنالك احترام لبوابة الكنائس المنوجدة بين الأزقة والشوارع ؟ ورغم هذا الواقع المقلق، في فضاء باريس، هنالك جمعيات مدنية واجتماعية؛ تحضر قبل طلوع الفجر بسيارة تحمل كل أنواع الفطور؛ لتقدمه كمساعدة للمعوزين والفقراء والمشردين ، الذين يتجولون
وينامون و يتخذون من المحطة وكرا(أو ) أوكارا ؛ لحياتهم .
فعالم المتشردين ومختلي العقل والمتسولين والمدمنين على الخمور بباريس ، ظاهرة خطيرة وفي ازدياد مضطرد، نتيجة التطور الحضاري والاتساع العمراني والتحولات الاقتصادية وضغوطها. وبالتالي فالسلطة الباريسية لا تخفي هاته الحقائق ولا تخيفها هاته الظاهرة ، أو تحاول نفيها ، بل كثيرا ما تستغلها علنا. عبر صور فوتوغرافية أو تشكيلية، طبعا من خلال الجمعيات والتي تقوم بعرضها في قاعة البلدية أو في الساحات العمومية وغيرها . والأروع : فالعَـوائد المالية لتلك المعارض تعود للمتشردين والمتسولين ، بطرق من الصعب أن أفهمها؛ لأنها شأن خاص لمدينتهم أو محيطهم …….

 

أحدث المقالات