كثيرا ما نفخر نحن معشر الصحفيين بانجازاتنا الشخصية وبلمساتنا التي نتركها على المؤسسات الاعلامية التي تحتضننا وتبذل لنا ، وتفتح لنا مساحة التفكير بمستقبلنا والتخطيط له بخطوات ثابتة نحو سلم النجاح ومحاولة الوصول للقمة ، وربما التوهم والنزول الى الانحدار والفشل .
لكن مع كل هذا الطموح الكبير والعريض والمستقبل الشخصي ، الا اننا فيما يبدو عديمي الوفاء ولا نستحق ان نكون بهذه المكانة ، حتى ان كانت اتت هذه المكانة بانجازات شخصية للصحفي ، لاننا لا نذكر الرجال الذين تتلمذنا على ايديهم وعلمونا كيف نكون صحفيين حقيقيين ومنحونا الخبرة ، ودلونا على مناطق الخلل وتحويله الى صواب وغرسه في نفوسنا كالمَلَكة التي تلازم النفس ولا يمكن ان تنفك عنها .
ولو اردت انا شخصيا / باعتباري عديم الوفاء لاساتذتي / ، ان اذكر الرجل الذي وقف خلفي في مسيرتي الصحفية ، فلا يمكن ان اذكر غير الاستاذ الكبير محسن حسين (ابو علاء) ، اطال الله في عمره ومنحه الصحة والعافية .
ان محسن حسين ظاهرة لا يمكن ان تتكرر في عالم الصحافة ، لما يحمله من ذهنية صحفية خارقة وقدرة على صنع الخبر والحدث بشكل لا يستطيع غيره فعل هذا ، رغم اقترابه من عامه الـ80 اطال الله في عمره .
كان لي الشرف ان يسجل اسمي ضمن لائحة الصحفيين الصغار الذين عملوا تحت امرة محسن حسين ، حيث عملت مع هذا الرجل لـ4 او 5 سنوات ، وكانت هذه السنوات القليلة هي الاهم في حياتي الصحفية ، بنفس الوقت كانت الاصعب ، كونه رجلا من الصعب ارضاءه حتى لو بذلت له الوسع ، فلا اذكر انه اكال المديح لصحفي يعمل عنده امام الاخرين ، بل كان يكتفي بمكافئته ماليا ، وكنت احزن واشعر بالاحباط لانه لم يقل لي (عفية) عند انجازي واجبا مهما ، لكن علمت فيما بعد انه كان يتقصد بالابتعاد عن المديح لكي لا يكون سببا بشعور هذا الصحفي بالغرور والقضاء على مستقبله الصحفي ، وعلمت حينها ان تصرفه ينم عن خبرة وحكمة .
ورغم تعامله القاسي الصارم معي طوال عملي معه ، الا انني كنت اشعر انه يراعني رعاية خاصة ويعدني اعدادا لاصبح مشروعا لصحفي ناجح ، وهذا دينا لا انساه طوال حياتي ، اذ اني لم استفد من شخص بقدر استفادتي منه / مع احترامي لكل اساتذتي الاخرين / .
فلا يختلف اثنان على تاريخ محسن حسين الذي قضى اكثر من 55 عاما في الصحافة ، كانت اوضح انجازاته تأسيسه لوكالة الانباء العراقية / واع / التي كانت في وقتها من افضل الوكالات في المنطقة رغم انها الوكالة الرسمية للبلاد . فقد شاهدت بام عيني كيف كيف يتشرف رؤوساء الوكالات العربية والاسيوية ان يجلس محسن حسين في الاماكن التي يجلسون فيها خلال مؤتمر وكالات اسيا والباسفيك في اسطنبول ، وكيف يكنون له الاحترام والتقدير ويعدونه الموسوعة الصحفية الباقية .
لكن هل من المعقول ان يملك العراق رجلا كبيرا وعملاقا مثل محسن حسين تتمنى اي دولة في العالم ان تملك مثله ، ولا تلتفت اليه الدولة العراقية ولا تذكره حتى معنويا ، ولا تكلف نفسها بالسؤال عنه .
ان الدولة العراقية بكافة رئاساتها مطالبة اليوم برعاية طاقاتها ورموزها ، ومحسن حسين واحدا من هذه الرموز التي يفخر بها العراق ، فهذا الرجل الذي بدأ يفقد بصره الذي وهبه قربانا للصحافة العراقية ، ويسكن في بيت بسيط شمالي العراق ، ارتأى ان ينأى بنفسه وينكفأ على كتابة مذكراته وتاريخه ليكون عطاءا مكملا للعطاء الذي وهبه للصحافة العراقية . ولا اعرف لما اغمضت الدولة عنه عين رعايتها ، وهو صاحب السجل النظيف مهنيا واخلاقيا ، لكن يبدو ان امتنا امة لا تعرف قيمة رجالاتها الا حين تفقدهم .
لذا ادعو رئاسات الجمهورية والوزراء والنواب الى الالتفات الى هذا الرجل ، كونه اخر عمالقة الصحافة العراقية .