المدن ، سعيدة الحظ عندما يحبها أهلها ، أو قل بعضهم او قل كتابها من المبدعين .. انها سطوة السحر . المدن حاضرة الكتاب .
في الصبا علمتنا المدن كيف نذرف دمعة ان فارقناها .. علمتنا ان نعيش وفي قلوبنا بعض من الخذلان وعندما نموت نحمل معنا ذكريات معفرة بأكاذيب الوجدان ومصاديق الأزمان في كل حال . مدننا تعيسة الحظ دائما . انها مبتلاة بالمحن والمصائب والبكاء على الأعزة ، دمها مهدور ومستباح ونهاراتها تشبه لياليها ، كلاهما بطعم واحد لأنهما يتنفسان هواءا مغمسا بالرصاص والدخان والبيانات وبحة حناجر المذيعين الصناديد !! . انها مدن سعادة في احلام راكضة . تتمارض كلما اذيع خطاب او بيان وتئن تحت وطأة الكلام المدوي لانها ستفقد شبانا يموتون جراء طيش الكلام وصبيانية المغامرات ، فيعودون اليها محملين بصناديق أعدت مسبقا . فتمور الشوارع بالأجساد الغاضبة والعيون الباكية .. هي مدننا كما عاشت وسجل لها ان تكون . وكأنها وجدت لتؤدي غرضا واحدا .. الموت من اجل الآخرين دون هوادة . لم نسمع ان مدننا أماتت شبانها دفاعا عن بساتينها او عن تمرها الزكي او عن قيمرها الذي تتمنى الأنفس البعيدة ان تراه يوما !! محنة لا تنتهي .
في مكان ما من هذا الفضاء الواسع ، فضاء المدن المتشابهة نقتطع جزءا .. انها مدينة بلون الغبار الدائم .. اكثر مدينة على خارطة الدنيا تلتهم الغبار مع وجباتها اليومية .. عقوبة ارادها وخطط لها الوالي التركي ان تكون المدينة في منخفض ترابي عبارة عن غير واد مقفر مهدد بالإغراق من الفرات ان تحركوا ضده . فما كان المهندس البلجيكي جولس تللي ان نفذ الامر بكل رحابة وهزة رأس .. أي ابتلاء هذا ؟
هذه المدينة ردت بقوة على تصرف المهندس والحاكم غير الحكيم ، جاء الرد غاضبا هائجا مزلزلا لا مثيل له ، صارت المدينة منجبة لعقول غير مألوفة . مفكرون وأدباء وساسة وطيبون .. هل هذا يكفي يامستر تللي ؟ ايقنع سيدك الباشا التركي ان المدينة التي اراد لها ان تموت في اية لحظة يختارها ، نمت وصارت فارعة تشبه الفينيق الخرافي ؟ .
انها قدرنا ان نعيش بين جناحي طائر عملاق يحترق كل مرة يذاع فيه بيان بلهجة مزلزلة مصحوبا بالمارشات ، ويحيا بعد ان يهدا كل شيء ويفرد جناحيه محلقا في الأرجاء السحيقة .. محسن الخفاجي ، القاص ، المعلم اخذ من الفينيق صفاته ومن المدينة غرابتها .. مدينة غريبة جدا .. يجري فيها نهرا أزليا ، هو واحد من اثنين شكلا شعار سومر .. الرافدان الجاريان دون انقطاع .. الفرات النبيل يمر بنا دون ان نلمس ماءه ابدا .. لاننا نشرب من الآخر ، دجلة . محسن اخذ الغرابة والفرادة معا . انه قاص حذق ، مدون كلمات من طراز فريد . يخيل لمن يقرا له انه يحلق معه في الفراديس وربما يهبط الى جهنم وقد يسقط في قبر محفور له . هذا محسن الذي كتب القصة كبيرا لم يجارى ، قصصه لم تتكرر في القصة العراقية ،طغراء مدينة القمر ، قناع بورشيا ، شارع الزواج في لجش ، ثياب حداد بلون الورد ، الرقم يختنق في الهواء ، الشيطان في صورة ملاك .. هل تتكرر ثانية ؟ .
محسن القاص ليس هو محسن الإنسان .. القاص المحترف والمقتدر في صنعته والعارف باسرار حرفته ، ليس هو البسيط الضحوك الطريف المتواضع .. ثنائية عاشها محسن الراقد الان في غرفته بين جدران طالما وصفها في قصصه ..
( صارت المدينة مثل فخ يطبق علي من كل مكان ، وصارت غرفتي ملاذا يوشك ان ينفجر . كل مافي الغرفة لا ينتمي الي . تمزقت الكتب والاغاني وقطع الاثاث . صارت كلها قمامة غريبة من ورق واقمشة ومعادن تالفة . كل شيء قد تحطم . لم اعد اعرف لماذا آل كل شيء الى الخراب .) من مجموعة إيماءات ضائعة ص 144 . محسن الذي عاصر وجايل الكبار من المفكرين والشعراء .. اليوم نحن نجايله بدموعنا الخفية وخفة لساننا وهمومنا تقف مشلولة لوصف ما يختلج في دواخلنا ..منذ ان أخرجوه من بوكا الصحراوي ، لم يكن محسن هو الذي كان ، فقد بانت سنوات السجن البوكاوي الثلاث على ضحكته وعلى حكاياته التي تبدلت ربما . محسن ، نخلتنا الباقية نريدها ظليلة باسقة وستكتب لنا عن حكاياتك التي لاتمل والتي لم تكتبها بعد .. ولا نريدك ككير كجورد الذي قال ( انا كشجرة الصنوبر المتوحدة ، منحازا الى نفسي ومتجها صوب الطبقات العليا وقائما لا القي ظلا وليس غير الحمام الوحشي يستطيع ان يبني عشه وسط غصوني ) .. نريدك ان تنهض كالفينيق وتكتب لنا لننام سعداء ..
اشارتان
* المقال منشور في 20/05/2009 واعدت نشره بعد رحيل القاص الكبير محسن الخفاجي في مساء الجمعة 26 / 9 / 2014 .
* العنوان استفادة من عبارة ( معدلة ) وردت في قصة الشيطان في صورة ملاك لمحسن الخفاجي