في مقالنا السابق (الماركسية والترف الفكري) أشرنا بشكل سريع ومقتضب الى أنَّ الماركسية هي الراية النظرية للتيار الشيوعي، وهو أحد التيارات الأصيلة داخل الطبقة العاملة، فذلك التيار لم يقفز بالمظلة من السماء، مثلما قفزت التيارات القومية والإسلامية، التي أقحمت نفسها وفرضت تصوراتها على الطبقة العاملة، بفعل سيطرتها على السلطة السياسية.، فكما يقول ماركس ان الثقافة السائدة في المجتمع هي ثقافة الطبقة السائدة او المسيطرة على السلطة.
ولا شك أنَّ الجميع يعلم أنَّ الدين والطائفية والقومية والليبرالية على سبيل المثال غريبة عن الطبقة العاملة، إلا أنَّ غياب الشيوعية كواحدة من البدائل أو الخيارات السياسية في المجتمع، فسحت المجال كي تطأ أقدام تلك التيارات صفوف الطبقة العاملة، بحيث عملت وللأسف على قولبة كل شيِ في المجتمع بما فيها الاحتجاجات العمالية، بقالبها السياسي والاجتماعي.
ولكي نوضح أكثر، وعلى سبيل المثال فقط، نرى أنَّ العامل في شركة النفط في البصرة أو الموانئ، أو العاطلين عن العمل الذين يقدر عددهم بأكثر من ١٢-١٣ مليون شخص حسب إحصائيات وزارة التخطيط، يمضون سيراً على الأقدام لمدة ٥ أيام أو اكثر، في مناسبة عاشوراء للوصول الى كربلاء، بالمقابل تستثمر تيارات الإسلام السياسي الشيعي (الأحزاب الشيعية) في مشاهد المشي أو المشاركة في عاشوراء، وتستثمر في تسويق فكرة مفادها أنَّ الشيعة أكثرية ولهم الحق بإدارة السلطة السياسية مثلما طبل وزمر كل المأجورين في التحالف الشيعي الذي يحرك من قم-طهران لتشكيل حكومة السوداني، وتنفق تلك التيارات المليارات من الدنانير المسروقة من جيوبنا ومن عرق أولئك العمال والكادحين السائرين الى كربلاء، لتمرير الفكرة الخادعة والمضللة بأنَّ الخلاص يأتي عبر استلام (الشيعة) السلطة السياسية، في حين برهنت سنوات حكمهم فيما يقارب من العقدين من الزمن، هي أكثر الأوضاع مأساوية من حيث القتل والخطف والفقر والعوز وانهيار الخدمات وتفشي الأمية والبطالة والأمراض والفوضى السياسية والأمنية، هي تلك التي شهدتها الجماهير المصنفة بالشيعة قبل غيرها.
من جانب آخر، فإنَّ كل تصورات التي يروجون لها ما يسمون أنفسهم (بالديمقراطيين والليبراليين)، والتي تقول بأنَّ الأمية والتخلف والفقر هو نقطة قوة للتيارات الإسلامية التي تستثمر فيها اعتماداً على تغييب الوعي عند تلك الجماهير المليونية، وهذا في جانب منها صحيح وكتحصيل حاصل، ولكن ليس هو كل اللوحة ، إذ تمضي تلك التصورات أكثر من ذلك، لدرجة أنَّها تردد وبجوقة واحدة بـأنَّه لا أمل في هذه الجماهير، ولا أمل بالتغيير، ويبصمون بالعشرة مؤيدين ما ذهب إليه بعض الكتاب أمثال علي الوردي وغيره، بأنَّ الشعب العراقي ذو وجهين ولديه ازدواجية بالشخصية، والأدهى من ذلك يشاركهم قسم من المثقفين الذين يجدون في الماركسية ترف فكري، متجنبين إنفاق بعض السعرات الحرارية في محاولة استخدام عقولهم للتفكير، إن أمثال هؤلاء يمكن الرد عليهم بشكل بسيط وبسؤال اعتراضي، ــ من دون فذلكات فكرية أو لغوية: ــ أنَّه لو كان أولئك العاطلين عن العمل لديهم فرصة عمل، ولو كان لديهم ما يسد رمقهم ورمق أطفالهم وأسرهم، ولو كان لديهم سكن لائق، ولو كانت هناك مناهج تربوية وتدريسية تعطي الأولوية للإنسان وقيمته الحقيقية، ولو توفرت لهم خدمات صحية تنقذهم من تفشي أمراض السرطان وغيرها من الأوبئة، هل استطاعت الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية التي تسخر سلطتها للنهب والسرقة والتحميق الاستثمار في المناسبات الدينية؟! والجواب على هذا السؤال يقود أي أمرئ بسيط لإماطة اللثام عن سر استماتة سلطة الأحزاب الإسلامية في إبقاء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للجماهير كما هي عليها الان.
إنَّ تلك التصورات والأفكار آنفة الذكر، لا تصب إلا في خدمة الطبقة السياسية الحاكمة التي تديرها الأحزاب والميلشيات التابعة لها، ومن ثمّ تقوم بتمهيد الأرضية لحزمة من التبريرات الواهية، كي ترتفع أصوات وتنظيرات هي أقرب الى الترهات منها الى السفسطة، لتؤكد بأنَّ المجتمع العراقي غير ناضج وإنَّ الأغلبية فيه متخلفة، وإنَّ عليهم التنازل أمام الجماهير والقبول بكل طقوسها، بل وأكثر من ذلك المشاركة فيها ورفع الشعارات الدينية والطائفية، بحجة احترامها وعدم القفز عليها، ويسمون كل ذلك ب”البرغماتية” في عالم السياسة، ولا يقف أصحاب تلك التصورات عند تلك الحدود، بل يذهبون الى عقد الصفقات والتحالفات السياسية مع القوى الإسلامية، ويخرجون لنا بأطروحات نظرية واهية، كي يبرروا تلك “البرغماتية” وبمسميات تثير السخرية مثل مقولة “الكتلة التاريخية”* التي سوَّقها الذين يحسبون أنفسهم على اليسار والماركسيين، وكانت قبل ذلك لهم أيضا صفقات مع القوميين العرب، وصف من الذين يعرّفون انفسهم ضمن البيت السني الطائفي وجماعات رجعية أخرى مثل العشائر، لخوص انتخابات ٢٠١٠، ولم يتجاوز برنامجهم الاقتصادي والسياسي حدود برنامج حكومة الكاظمي التي زادت من مساحة الفقر والعوز والبطالة والمعاداة السافرة للمرأة والتي نشهد سحق انسانيتها اليوم، وكذلك في ظل حكومة السوداني.
ومؤكد أنَّه لا يعنينا نحن الشيوعيون لا من قريب ولا من بعيد، تلك التحالفات والصفقات السياسية وتأسيس الجبهات بين الأحزاب والقوى البرجوازية ــ بما فيهم حاملي اسم (الشيوعية) ــ فهذا شأن خاص بهم، وإنَّ الوقوف بوجهها أو فضحها سياسيا، وتعريتها أمام الجماهير العمالية والكادحة، يأتي فقط، في حالة سعي تلك التحالفات تسويق نفسها بأنَّها وجدت لصالح الطبقة العاملة والكادحين، ومحاولتها تمرير أجندتها السياسية وجر الجماهير تحت مظلتها لانتزاع بصمتها وإضفاء الشرعية على كل سياستها المعادية للجماهير.
والمسالة الأخرى التي يجب الإشارة إليها، هي أنَّه عندما تعقد الصفقات والتحالف بين القوى البرجوازية باسم الماركسية والشيوعية وتحت عناوين البرغماتية، أو كما يدعون بأنَّ “السياسة فن الممكنات”، وهي مقولة لينين، التي قلبتها وحرفت معناها الأحزاب الشيوعية التقليدية وفرغتها من محتواها، لتبرير تحالفاتها وتعاونها مع القوى الرجعية، عندئذ، علينا فضح تلك السياسات، وتوضيح كنهها بصبر وثبات وتأني، لأنَّ تلك الصفقات والتحالفات تصطدم وتتعارض مع مصالح الجماهير العمالية والكادحة.
وبالعودة قليلا الى التأريخ نجد أنَّه في عام ١٩٥٩ وبمناسبة الأول من أيار، نُظّمتْ احتفالية في مقر الاتحاد العام لنقابات عمال العراق، والقى حينها، عبد الكريم قاسم الذي قاد الانقلاب العسكري ضد النظام الملكي، خطاباً طلب فيه من العمال التعاون مع البرجوازية صيانة للجمهورية، حينها رد رئيس الاتحاد صادق الفلاحي على كلمة قاسم، بأن البرجوازية لم تتعاون يوما مع العامل، ولم تزيد من أجرته، فلماذا اليوم تطلبون منه التعاون مع البرجوازية، ورداً على الفلاحي، وبعد أن اشتاط قاسم غضبا وخرج من القاعة، اغلق في اليوم الثاني مقر الاتحاد العام واعتقل عشرات القادة وفعالي العمال.
ما ذهب اليه رئيس الاتحاد بشكل صائب بالرد على قاسم ممثل الطبقة البرجوازية حينها، هو تعبير قاطع بالدفاع عن المصالح المستقلة للطبقة العاملة في الميدان الاقتصادي، وهذا يجر أيضا على ميدان السياسة، والذي حاول قاسم بخداع العمال عبر السياسة عندما اراد اقناع ممثليه، بأن العدو الحالي هو الاستعمار ويجب رص الصفوف، أي زيادة تراكم راس المال الطبقة البرجوازية الحاكمة المتمثلة بالعسكر الذي يقودها عبد الكريم قاسم، على حساب العمال.
بمعنى آخر نقول، يجب علينا عدم المساومة تحت عنوان “البرغماتية” مع الطبقة البرجوازية، وعلى الشيوعيين الذي يحملون راية ماركس، أن يكونوا أكثر الأطراف حزما بعدم المساومة مع البرجوازية في الميدان النظري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
إنَّ ترويض مقولة “السياسة فن الممكنات” في وجهها الآخر ــ وبحسب مؤيدي البرغماتية ــ، هي فن الانتهازية والانتهازيين المحسوبين على الشيوعيين والماركسيين، وانهم يبغون من تلك السياسة جر العمال والكادحين وعموم المجتمع تحت رايتهم.
إنَّ السياسة الشيوعية التي تعتبر الماركسية رايتها كما أشرنا، لا تنبع من ضعف الحركة العمالية أو قوتها، ولا من قوة تيارها الشيوعي المتحزب أو من ضعفه، ولا من توازنات القوى السياسية، بل تنبع من الدفاع المبدئي عن استقلالية الطبقة العاملة في الميدان الأيديولوجي والسياسي، حالها حال الطبقة البرجوازية التي تحاول الحفاظ على استقلاليتها، عن طريق ماجوريها من المفكرين والاكاديميين، لأقناع المجتمع ببدائلها السياسية من الفاشية والطائفية والدينية وحروبها وبرامجها الاقتصادية، وعندما تفشل، فإنها ستستخدم أموالنا المسروقة من عرق جبيننا والمنهوبة من جيوبنا، لتشييد السجون والمحاكم وتمويل المليشيات والأجهزة الأمنية، وتستورد أجهزة التعذيب الغربية لنا لترويضنا نحن العمال والقبول بأبدية سلطتها والتنازل أمام نظامها وعالمها المقلوب.
وفي نفس الوقت إذا وجد الشيوعيين هناك من يوقع معهم من التيارات البرجوازية على وثيقة، تقر على سبيل المثال؛ فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم أو المساواة التامة بين المرأة والرجل، أو سن دستور علماني أو أن تكون هوية الدولة علمانية، أو سن قانون ضمان بطالة للإناث والذكور، أو حق التمتع بسكن لائق لكل مواطن، أو تحقيق الحرية السياسية بدون قيد أو شرط، أو حل المليشيات او زيادة الأجور والمعاشات.. الخ، عندئذ سينظر المجتمع إلى الشيوعيين بإيجابية كون هذه الوثيقة من صالح الطبقة العاملة وعموم المجتمع، وإنَّ مثل هذا النوع من العمل المشترك سيحقق الحرية والرفاه للمجتمع، عندها وعندها فقط، تدرك الطبقة العاملة بأنَّه لا يمكن التلاعب بمصيرها ولا التلاعب بمصير المجتمع برمته.
وأخيرا عندما يسألوننا لماذا أنتم الشيوعيين لا تجلسوا مع الأحزاب القومية أو ما تسمى بـ (الوطنية)؟ أليست “السياسة فن الممكنات”، أولا تؤمنوا بالبرغماتية؟ ليتم بعد هذه الأسئلة وصفنا بأننا جماعات منعزلة، إلا أنَّ ردنا عليهم، هو أنَّ الجلوس مع قادة الأحزاب البرجوازية من أجل التقاط الصور ونشرها في الإعلام، أو من اجل تحسين حظوظنا للحصول على سهم في السلطة أو امتيازات معينة، وبعد ذلك نصدر تقريراً صحفياً، ــ مثلما تفعل الأحزاب التي تصنف نفسها تارة بالليبرالية وأخرى الديمقراطية التي تشكلت بعد انتفاضة أكتوبر أو بالشيوعية التي ترغم نفسها بالتمسك بالاسم فقط ، لتضخيم مكانتها في حين لا ترى في طبقتها حول أو قوة ــ فهذا السلوك ليس من تقليدنا، ولا شأن لطبقتنا العاملة بهذه الخدع والترهات.
إنَّ ماركسية ماركس المبدئية عملت على نفي صاحبها عدة مرت، وحرمته من العمل الاكاديمي، لأنَّه فقط دافع عن النقاء الفكري والسياسي والاستقلال الطبقي للعمال بوجه الطبقة البرجوازية والأرستقراطية الإقطاعية، أي بمعنى آخر أنَّ ماركسية ماركس تعلمنا بأنَّ البرغماتية والانتهازية، هي عناوين يعمل تحتها المثقف البرجوازي والبرجوازي الصغير للوي عنق الماركسية بما يخدم أجندته الجهنمية لتحقيق الامتيازات المعنوية والمادية التي لا تمت بأية صلة لمصالح الغالبية العظمى من المجتمع وهم العمال والنساء والكادحين.
*كتابات فارس كمال نظمي لتبرير التحالف بين الكتلة الصدرية والحزب الشيوعي العراقي.