جرت العادة أن يجري احتفال رسمي في يوم مولد الإمام أبا عبد الله الحسين سلام الله عليه في الثالث من شعبان من كل عام , يحضره ممثل عن رئيس الجمهورية ، يقابله احتفال شعبي خاص بالأهالي تتزين فيه المدينة بأجمل صورها وتعرض فيه العتبتين المقدستين نفائسها الثمينة.
بعد استلام المحافظ صابر عبد العزيز الدوري إدارة المدينة أخذ الاحتفال مجرى تنظيمي آخر , ففي ساحة بين الحرمين ، تعلق الزينة الضوئية على نخيلها وترفع اللافتات بأقوال الحسين الشهيد وإشعار تتغنى بحبه ومولده
الاحتفال الرسمي أيضا تغير برنامجه حيث يحضر اغلب مسؤولي الدولة والحزب في ذلك اليوم إلى المدينة ، لكن ليس لمبنى المحافظة ,وإنما ينتظرهم المحافظ صابر الدوري في مضيف الإمام الحسين داخل الصحن الحسيني وقبل وصول ممثل رئيس الدولة يخرج المسؤولون لاستقباله بباب القبلة ، يقفون بخط مستقيم وعند توقف سيارة المسؤول الأول يتقدم المحافظ لاستقباله ومن ثم يسير معه للسلام على باقي الضيوف من مسؤولين وشيوخ ووجهاء. يؤدون الزيارة ويتوجهون مشيا لأداء زيارة حضرة سيدي أبا الفضل العباس سلام الله عليه.
تجرى أيضا بعض الفعاليات الأخرى كمعارض الصور وغيرها ,ومن ثم التوجه إلى قاعة الاحتفالات التابعة لمديرية صحة كربلاء،حيث يلقي ممثل رئيس الدولة كلمة نيابة عن الرئيس، يليه المحافظ مرحبا بكلمته ويستذكر دور الإمام الشهيد وتلقى الأشعار والكلمات من رجال الدين والوجهاء.
في يوم22-11- 1998 خرجت المدارس للاحتفال على الطرقات وتجمهر المواطنين بالقرب من باب قبلة الحسين رغم إن اغلب مسؤولي الدولة وحماياتهم هناك إلا أن الحالة أصبحت طبيعية في زمن المحافظ الدوري .
وصلت سيارة عزت الدوري الذي كان يقودها بنفسه لباب قبلة الحسين, وتقدم المحافظ لاستقباله وما أن توجهوا سوية للسلام على بقية الضيوف حتى رمى احد الأشخاص المتواجد بين المواطنين المتجمهرين قنبلة يدوية باتجاه عزت الدوري والمحافظ وهو يصرخ ( الله اكبر ) ، تدحرجت تحت إحدى السيارات وانفجرت ، كان المشهد مرعبا ، هرب الناس بأعدادهم الكبيرة لجميع الاتجاهات وحاول المنفذ أن يرمي واحده أخرى ، إلا إن احد ضباط الشرطة الكربلائيين أطلق عليه النار فأصابت كتفه وأكمل عليه حماية عزت الدوري ففارق الحياة ، وسط هذه الأجواء بدء رمي حمايات عزت الدوري في الجو لتفريق الناس ،فدفع المحافظ الضيوف باتجاه باب الدخول وأغلق الباب عليهم وبقي هو خارج الصحن وصرخ بصوت عال موجها أمره إلى حماية النائب ( لحد يرمي هذا أمر عسكري ) توقف الرمي وتقدمنا معه إلى جثة المنفذ كان شاب بعمري تقريبا اسمر البشرة ذو لحية خفيفة يرتدي ستره وقميص وحذاء سوداء , طلب المحافظ أن يكشف عن قدميه ،ونظر إليها فقال:
(الحمد لله الشاب مو من كربلاء).
عاد المحافظ لضيوفه بهدوء وسط أجواء مشحونة ومتوتره، حيث أصيب نجل عزت الدوري بجروح هو وبعض أفراد حمايته كما أصيب الرائد كنعان مرافق المحافظ بشظية وجرح عدد من المواطنين، وتم نقلهم إلى المستشفى الحسيني
طلب المحافظ إكمال فقرات الاحتفال بمولد الحسين سلام الله عليه وأتموا زيارة العتبتين المقدستين وتوجهنا إلى قاعة الاحتفال ، وبعد انتهاء فقراته عاد الجميع إلى محافظاتهم وذهب المحافظ إلى اجتماع عاجل في فرع الحزب برئاسة مسؤول التنظيم.
وأنا في طريق عودتي لمنزلي لاحظت أن المحال التجارية أقفلت أبوابها وعرفت ان بعض الأهالي هرب خارج المدينة، كانت الأجواء متوترة للغاية.
بحدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل،أرسل المحافظ بطلبي ،وصلت لمبنى المحافظة وجدت بعض الوجهاء يخرج منها ! بقيت مستغربا ماذا يفعل حتى الساعة هنا بعد هذا الْيَوْمَ الشاق !، طرقت باب المكتب ودخلت ، وجدته يقف كعادته بجانب شباك مكتبه المطل على شارع العباس ينظر من خلاله, قلت أمرك سيادة المحافظ . ابتسم بوجهي وقد بان عليه الإرهاق وقال ( أتعبتك في وقت راحتك ).
أجبته حاضر في اَي وقت سيادة المحافظ.
قال اجلس أريد ان نتحدث قليلا .
جلست وطلب المراسل الخاص وقال له ضيفنا من فضلك.
بادرني بالسؤال, أنا أثق بك وأنت قريب من الناس ، ما هي أخبار المدينة الآن ؟
أجبته : بصراحة سيدي إن الأهالي قلقين مما قد يجري للمدينة بسبب حادثة الصباح, فبعض معارفي سافر خارج المدينة وعند عودتي لمنزلي عصرا وجدت ان اغلب المحال التجارية أغلقت أبوابها والحركة معدومة في المدينة خوفا من العقاب.
قال, ومن يستطيع معاقبة الأهالي من غير ذنب وأنا بينكم ! إني متأكد أن الفاعل ليس من أهالي المدينة فلن يقدم كربلائي أبدا على إيذاء مدينته وإيذائي أني اعرف على الأقل مكانتي الكبيرة عندهم .
قلت : سيدي مكانك في القلوب والعيون ولكن كيف عرفت ان الفاعل ليس من أبناء المدينة؟ .
قال: ((عندما طلبت الكشف عن قدمي المنفذ عرفت انه ليس من كربلاء فقد كانت قدماه خشنة وآثار الشقوق فيها يدل على انه من الأهوار أو مناطق زراعيه وليس من سكان المدن بسبب طبيعة الأرض والحياة واغلب سكان كربلاء وشبابها متمدنين.))
بانت على وجهي علامات الانبهار والحيرة فأردف قائلا :
(بناءا على تحليلي هذا طلبت من السيد النائب ورجوته أن لا تتخذ الجهات المسؤولة أي إجراء جماعي بحق المدينة وان لا يترك زمام المبادرة لمسؤولين آخرين يتطرفون ويبالغون في ردة الفعل واني أتعهد بأن التحقيقات ان جرت بصورة هادئة وغير موتوره فستثبت ان لا علاقة لأهالي كربلاء ولا حتى ساكنيها بالحادث فمن خلال معرفتي بهم وعلاقتي معهم لا يمكن ان يقدموا على هكذا عمل. أجابني السيد النائب اعرف ان أهل كربلاء يحبوك ويحترموك ووعدني بأنه سينقل كلامي للسيد الرئيس وللجهات الأمنية المسؤوله وان لا يتخذ أي إجراء بحق مواطن كربلائي إلا بعد انتهاء التحقيق.))
قلت له سيادة المحافظ ان اظهر التحقيق بأن المنفذ من أهالي المدينة أو سكانها الا يؤثر ذلك عليك ويعرض حياتك للخطر ؟
أجابني (( ولدي علي الأعمار والأقدار بيد الله وواجبي يحتم علي الحفاظ على المدينة وحمايتها , ثقتي بالمدينة واهلها يزيد من ثقتي بما افعل ، والله يجنبنا أصحاب النفوس الدنيئة
قلت: بوجودك نشعر بالأمان لكننا نخشى ممن ينتمون للمدينة بالاسم ويسعون لأذيتك وأذيتنا بمزايداتهم خصوصا أولئك الذين ضربت مصالحهم بوجودك .
ابتسم وأردف ((اعرف قصدك وذكائك لكن دعني أطمئنك, قبل قليل خرج بعض أعضاء قيادة الفرع من مكتبي جاءوا ليشكروني لأني خلصتهم من موقف محرج حسب قولهم ، حيث جرى اجتماع بعد انتهاء الاحتفال وأراد احد المسؤولين ا أن يزايد على حساب الناس وطلب مني أصدار أمر بتهديم البيوت العشوائية و معامل الطابوق على طريق طويريج وتهجير أهلها كونه يشك بأن المنفذ من هذه المنطقة تحديدا ! رفضت اجراء هذا العمل وقلت له انتظر حتى انتهاء التحقيق الاصولي الذي وعدني به السيد النائب ، لن أتحمل مسؤولية هدم بيوت على ساكنيها حتى ان كان المنفذ منهم، هو وشركائه فقط من يتحمل المسؤولية ولن يؤخذ احد بجريرة غيره وانا موجود وتركت الاجتماع فورا وعدت لمكتبي .))
قلت له : سيدي لن تخذلك كربلاء، الله والحسين معك دائما .
قال هذا ما أتمناه ، قد وصلني ما أخبرتني به عن أجواء المدينة ووجهت بعض الإخوة بإبلاغ الأهالي بأن يمارسوا حياتهم الطبيعية وطلبت من مدير الشرطة طمأنة الأهالي عبرسيارات النجدة ودعوتهم لفتح محالهم والعودة لحياتهم الطبيعية ولن يصيبنا ويصيبكم مكروه ان شاء الله.
في الْيَوْمَ التالي جاء من مسؤولي الأمن من بغداد والتقوا بالسيد المحافظ ولَم اعرف ما جرى بينهم إلا ان الأمور أخذت جانب كبير من التهدئة ولَم يحصل ما يعكر صفو المدينة ولم يعتقل احد فيها بفضل حكمة المحافظ وثقته بمدينة أحبته
بعد أربعة أيام ظهرت نتيجة التحقيق وثبت ان المنفذ من ناحية الفهود التابع لمدينة الناصرية وكان طالبا في معهد المعلمين هناك ان لم تخونني الذاكرة .
طار الخبر في المدينة وكان الناس فرحين ببراءة مدينتهم أقيمت بعض الاحتفالات من الأهالي ورفعت اللافتات التي تظهر براءة المدينة من حادثة الاغتيال التي كادت أن تقتل المحافظ الذي بناها ! وحمى أهلها .
وصدق حدس المحافظ بحب الكربلائيين لمدينتهم وزادت الثقة بينه وبين المدينة التي احبها وأحبته وحفر اسم صابر الكربلائي بأحرف النور بتأريخ مدينة سيد الثائرين والشهداء .