في نهاية القرن العشرين واجه العالم عملية إحياء للأصولية الدينية إذ شكل الدافع الديني أهم سمة مميزة للإرهاب في الظروف المعاصرة، بعد أن أصبح الدين مرجعية مهمة وواحداً من المصادر الفكرية الأساسية التي تعتمد عليها الجماعات والحركات والأحزاب المتشددة، وهذا ينطبق على المنظمات الإرهابية التي تستخدم الدين الإسلامي مرجعيةً نظريةً، مثلما تعتمد منظمات أخرى على اليهودية، أو المسيحية، أو غيرها من المنظمات التي تعتمد على أفكار التعصب القومي. ونتيجةً لذلك أصبح العنف منتشراً والإرهاب مستفحلاً إذ إن الإرهاب ذا الطبيعة الدينية يتملك خصوصية لأنه ينطلق من أفكار عقائديّة مؤدلجة، وحركية سياسية فعالة، ومن خلاله يقترف ممارسوه أفظع جرائم القتل والاختطاف والممارسات الإرهابية الأخرى. فيما يخص البلدان العربية شكلت جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المتفرعة عنها، أولى هذه الحركات التي استخدمت العامل الديني لممارسة العنف والعنف المضاد في سياق صراعات مع النظم الحاكمة والدولة والمجتمع.
على ما تقدم لا بد من توضيح بعض الأمور. أولا، من منظور عام أصبحت الفتاوى الدينية أكثر الظواهر جدلا في عالم اليوم، تلك الفتاوى التي لا تقبل المناقشة وإنما تحولت إلى نبوءة ذاتية التحقيق لتيار الإسلام الراديكالي بكافة اتجاهاته وتفرعاته. ثانيا (المقدس) للجماعات الإسلاموية وصعوبة مجادلته وانتقاده بل مجرد مناقشته على ما يبدو في الأمور الفقهية، حيث استطاع (المقدس) أن يدجن أفكاره ويسخرها ويشحنها في مشاريع إيديولوجية. ثالثا، من هنا تشكلت أحزاب دينيّة طائفية في مجتمعات متعايشة ومنسجمة تاريخيا لا يتجاوز انتمائها الديني حدود التشريع المدني وطقوس المناسك والعبادات. رابعا، تم استثمار تلك الأحزاب (الدينية والطائفية) وحشرها في تيارات جارفة ومدمرة للمجتمعات والعقول. خامسا، فظهرت لنا أجيال ثم أجيال سارت على نفس المنهج المتشدد لم ولن يتغير، والفعل الإرهابي هو نفسه، وهذا ليس بغريب عليهم لأن تاريخهم الملوث بالدم خير دليل، فهم يُقدسون الماضي المليء بالجرائم والملطخ بالدماء. سادسا، ونتيجةً لهذا فقد ﺃﺼﺒﺢ ﺍﻹﺭﻫﺎﺏ ﻤﻥ ﺍﻟﻅﻭﺍﻫﺭ ﺍﻟﺨﻁﻴﺭﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺩﺕ ﺇﻟﻰ ﺯﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﺨﻁﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻤﻥ ﺍﻹﻨﺴﺎﻨﻲ ﺇﺫ ﺘﻌﺩﻯ ﻤﺭﺤﻠﺔ ﺍﻟﻤﺤﻠﻴﺔ، ﻭﺍﻨﺘﻘل ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺒﺤﻴﺙ ﺃﺼﺒﺢ ﺇﺭﻫﺎﺒًﺎ معولماً، بمعنى أن يد الإرهاب طالت أغلب دول العالم، فضربت في واشنطن ولندن وبرلين، ﻭﻜﺫﻟﻙ ﻓﻲ ﺸﺭﻡ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻭﺍﻟﺠﺯﺍﺌﺭ وتونس والمغرب والعراق ﻭﺤﺘﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﻭﺩﻴﺔ، بالتالي فإن الإرهاب أصبح ﻴﻤﺜل ﻤﺼﺩﺭًﺍ ﻤﺼﺎﺩﺭ ﺍﻟﺨﻁﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲً ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭ.
من هذا المنطلق ومع مرور الزمن تبقى الجماعات الإرهابية متمسكة بالعباءة الدينية المظلمة (الحلال والحرام) لكي تتسرب من تحتها عناصر إرهابية تمارس الفعل. لاسيما أن العقائد الدينية عندما يتم حشرها في أيديولوجية حزبية ستحمل معها قدسيتها الراسخة في عقول المؤمنين، تلك القدسية لا تسمح بالنقاش أو النقد ولا تقبل أي إضافة أو اجتهاد على حساب ثوابت الدين، باختصار هي منغلقة على نفسها ولا تنسجم مع فكر الآخر إلا من باب النفاق والتقيّة. الأخطر في إقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة هو أنه سينزع قدسية التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية بفرض قدسيتها الدينية التي لا تقبل الشراكة.
السجال يتعلق بحادثة طعن (سلمان رشدي) بلا أدنى شك لا تخلو هذه الحداثة من دلالات أيديولوجية، ويجب مناقشتها من خلال البعد الفكري (الأيديولوجي). ويُعد العنف الفكري (الأيديولوجي) من أبرز أنواع العنف التي يمارسها الإرهابيون، إضافة إلى العنف الديني والعنف السياسي والعنف التكفيري. وتحديدا العنف الفكري تلعب الأيديولوجيا دوراً كبيراً في شرعنة العنف وممارسة الإرهاب والحثّ على إتيانه. إذن فإن تحليل حادثة طعن (سلمان رشدي) وتفسيرها تحت غطاء ديني تُعد من أهم البواعث والدوافع التي دفعت بالإرهابي منفذ العملية المدعو (هادي مطر) ليرتكب جريمته الإرهابية، سيما أن الموما إليه من خلال هذا الفعل أستغل الدين، بيد أن مصطلح الدين المقترن بالإرهاب لا يعني البتة أن تعاليم الدين الإسلامي وقيمه تدعو إليه، وإنما جاء هذا الاقتران نسبةً إلى التفسيرات المشوهة التي أطلقها البعض على بعض الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، لتوفير شرعية تبرر رفضهم للآخر المغاير، وتكفيره وممارسة العنف ضد الأفراد والمجتمع. بالتالي فنحن أمام جريمة مؤدلجة تستند إلى قاعدة فكرية ومبادئ ومفاهيم معينة، وهو العنف الأخطر الذي يهدد المجتمعات الحديثة، والذي ينطبق عليه وصف الإرهاب بشكل دقيق، لأنه في هذه الحالة لم يعد جريمة عادية أو فعلاً غير مقصود، وإنما تحول إلى أيديولوجية قائمة على مبدأ الإرهاب واستخدام العنف من أجل الحصول على مكاسب سياسية اجتماعية أو دينية وحتى فكرية وثقافية. إذن فالبعد الأيديولوجي للإرهاب، هو عقيدة يعتنقها الكثيرون تشرع القتل، وتحتكم دائماً إلى مبدأ العنف في الوصول إلى غاياتها. ولا يخفى أن أغلب أيديولوجيات الإرهاب تستند إلى مبدأ أصوليّ متطرف يعتمد على الدين.
بالمقابل هناك اتجاه يفرق ما بين التطرف في الفعل والتطرف في الرأي:
يتفق قدري حنفي -أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس مع هذا الرأي حيث يقول: “لم تثبت أيٌّ من دراسات علم النفس السياسي وجود أية علاقة حتمية بين اعتناق فكر متطرف -أيًّا كانت درجة تطرفه-وممارسة نشاط إرهابي”.
ويضيف: “الثابت أن التطرف الفكري قد يؤدي إلى تشوهات فكرية وشعورية تجاه الآخر”. ويتابع: “لا بد من التفريق بين الفكر والفعل من جهة والتعصب والإرهاب من جهة أخرى، لكي يتسنى لدوائر مواجهة التطرف والعنف استخدام الأدوات المناسبة للتصدي للمفاهيم أو الأفعال ذات الصلة بالتطرف والإرهاب”.
ويؤكد حنفي: “هناك عدة شروط للفعل الإرهابي، وهي أنه فعل اختياري مخطط له وليس عفويا أو تلقائيًّا، ويتسم بالرمزية بمعنى أن المستهدف في أغلب الحالات ليس أشخاصا بعينهم بل رموز”.
تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الحادثة: ازدواجية المواقف:
من جانبه، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تضامنه مع الكاتب سلمان رشدي. وقال في تغريدة على “تويتر”: “منذ 33 عاماً، يُجسّد سلمان رشدي الحرّية ومحاربة الظلامية… نضاله هو نضالنا، وهو نضال عالميّ. اليوم، نقف إلى جانبه أكثر من أيّ وقت مضى”.
كان للخطاب الإعلامي الفرنسي إستراتيجية معينة تجاه الجماعات الإرهابية والتنظيمات التكفيرية في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين إذ كان ما يسمى (المجاهدون) في أفغانستان موضع ثناء بالنسبة للإعلام الفرنسي، فليس مهما أن جُلّ هؤلاء المقاتلين الذين رفعهم الإعلام الفرنسي إلى مرتبة الأبطال هم مسلمون متشددون، بعد أن أطلقت عليهم الصحف الفرنسية (مقاتلي العقيدة المنخرطين في الجهاد)، ووصفتهم وسائل الإعلام الفرنسية وكأنهم مرسلون من السماء لمواجهة طموحات الاتحاد السوفييتيّ التوسعية، بل وصل الأمر إلى أنه في 19 كانون الأول 1984م ذكرت صحيفة (اللوموند) الفرنسية أن بعض الفرنسيّين يعملون مع المقاومين الأفغان، وأن ثمة مخاوف في تلك الفترة من عودة هؤلاء المقاتلين إلى بلدهم وهم متطرفون بسبب تجرِبتهم في الحرب. وعليه فإن الإعلام الفرنسي في تلك الفترة لم يكن يرى الدين الإسلامي بوصفه عامل تخلف إلا إذا تعارض مع مصالح الغرب الاستراتيجية. لكن بعد الاستقطاب والحشد للقضاء على الاتحاد السوفيتيّ ومرور عشرات السنين يرى الإعلام الفرنسي اليوم أنه كان مخطئاً على تشجيعه للجماعات الإسلامية المتطرفة، وأن ما قدمته فرنسا من دعمٍ يوماً ما للجماعات الإسلامية أنتج إرهابيين فيما بعد. ولهذا فإن الجماعات الإسلامية المسلحة في أفغانستان (طالبان)، وتنظيم القاعدة، كل هؤلاء المقاتلين الذي وصفهم الخطاب الإعلامي الفرنسي بالأبطال إبّان فترة الصراع ضد الشيوعيّة، باتوا اليوم مصدراً للبغض والفزع، وأُطلق عليهم بالمتعصبين والمتطرفين والبرابرة، وبات هدف القضاء على هذه التنظيمات والجماعات التكفيريّة في الوقت الحاضر أهم من سقوط الإمبراطورية السوفيتيّة آنذاك من وجهة نظر الخطاب الإعلاميّ الفرنسي.
ووَفقاً لما تقدم إذن نحن أمام مشكلة مهمة وهي، اعتماد الغرب على الخلط بين الجماعات الأصولية وبين الدين الإسلامي، إذ تم إلصاق اسم الدين بالإرهاب، لكن هذا ينافي جانباً من الواقع، ذلك فإن إلصاق صفة الإرهاب بالإسلام وإعفاء الآخرين منها ستكون مقصودة ومغرضة، كما أن استخدام كلمة الجهاد والجهاديّين على العمليات الإرهابية، هو الآخر أمر مقصود ومفتعل، لأن للجهاد شروطَه، والجهاد من أجل الحق هو غير الإرهاب، بل هو جهاد دفاعيّ هدفه حماية البلاد والعباد من العدوان والإرهاب والظلم. وتجدر الإشارة إلى أن الحروب الدينية قديماً هي أحد أبرز الأمثلة التاريخيّة حضوراً عند الحديث عن العنف الديني.
عليه فإن الخطاب الدينيّ ليس مجرد كلمات تُلقى، وانما هو رسالة ذات مضمون فكريّ وديني واجتماعي له أثر كبير في توجيه الإنسان، وإن إساءة استخدامه من قِبل الجماعات المتشددة التي تحاول نشر أفكارها التي تُهدد الأمن والسلم الدوليّين لما تتضمنه من أفكار العنف والتطرف والإرهاب، توجب على العلماء ورجال الدين مواجهة هذه التحديات الخطيرة من خلال تقديم الرؤية الصحيحة لمبادئ الإسلام، وتصحيح المفاهيم، ومحاربة فكر الإرهاب والعنف والتشدد والتطرف، وذلك عن طريق التفسير الصحيح للنصوص الدينية التي تؤكد مقاصد الشريعة السمحاء، ومن ثم تأسيس خطاب ديني متسامح.