23 ديسمبر، 2024 4:23 ص

محاولات فاشلة لقتل امرأة

محاولات فاشلة لقتل امرأة

كانت (عروب) تغطيني في البرد.. وتنام بقربي كظبي صغير.. وأنفاسها تمنحني الدفء.. أحاول إخفات دقات قلبي خشية إزعاجها.. لأنني أعرفها رقيقة كنسمة الصبح.. ناعمة كفَراشة.. شفافة كصفاء ماء النبع .
حين تستفيق تنظر إليّ بعينين برّاقتين.. تقولان لي أحبني وأحبني.. ومُتْ في حبي.. أصبحتُ أحبُ المطرَ يا حبيبتي لأنك أنت المطر.. أدمنتُ رائحة المطر لأنها تذكرني بك.. عندما تتلثمين بشماغي .. وتغرقين في أحداقي.. أصبحتُ أحب الفراشات لأنها رقيقة كأناملك عندما تمتد برفق لتداعب شعري.. وتنثر فوق صحراءِ عمري ورودك، وعطرك وأتذكر بيروتَ، لأنك أنت بيروت.. بيروت بحر.. بيروت ثلج.. بيروت حبر.. بيروت عطر.. بيروت الجبل والضباب في الصباحات الباكرة عندما يذهب الطلبة إلى مدارسهم.. والندى يغمر تويجات الزهور ويغسلها، فتبدو كأنها عيون تزينها الدموع.. بيروت امرأة مدت قدميها لتغسلهما بماء البحر.. بيروت سيدة فتحت نافذتها لتتنسم هواء”صنين”.. بيروت عشاقها كثر.. نحن عشقنا بيروت لكن لم نخبيء هداياها.. عشقنا بيروت وكنا مثل جميع العابرين.. تتشابه وجوهنا ومعاطفنا وقبعاتنا.. بيروت كانت تبكي عندما تسمع آهاتنا.. بيروت كانت تربت على أكتافنا بأغصان شجيراتها.. في الشتاء عندما يكسو الثلجُ جبالـَها تتحول إلى جنّة من اللون الأبيض الناصع، تتخلله خضرة أشجار الأرز، وكأنها ” شيلة” تضعها (عروب) على كتفيها .
الجـبل يرتفع شامــخاً ليحتضن بيروت التـــــــــــي تقـع علــــى تلّين، تـــــــــــــــــلّ ( المصيطبة ) وتلّ ( الأشرفية ).. فيذكرني ذلك عندما أطوّق ( عروباً ) بذراعيّ، عندما تقف مستغرقة تتأمل بيروت أثناء غروب الشمس، فترفع بصرَها إلى الأعلى فتلتقي عيونُنا بنتاغم هاديء.. فترفّ عيني فتنزل منها دمعةُ حارة على خـــــــــد ( عروب ).. فتضع يدها فوق يدي، وتقول لي: مارأيك أن ننزل إلى شارع الحمراء نتمشى فوق رصيفه الحجري القديم.. لأنك مجنونُ التراث؟ أو نذهب إلى ( البسطة )، حيث وُلدت فيروز، ألم تقل لي أنت يوما ما: بأنها أجمل صوتٍ عرفه العربُ بلا منازع؟ وصوتها مقسم بالتساوي على جميع الطوائف المتنازعة والمختلفة.. بشكل مغاير لمناقيش، الزعتر التي لم تكن قسمتُها عادلة في أي زمان؟
ثم بعد ذلك نمضي إلى البحر حيثُ صخرةُ الروشة، صخرة العشاق.. التي شهدت ملايين الحكايات.. وملايين كلمات العشق حَفرتْ فيها أخاديد بأسماء من جلسوا لتأملها.. كنتَ دائما تقول لي: تكوينها فريد، تنتصبُ في البحر ضخمة شامخة، تتوسطها الفجوة من باطنها حيث تمرُّ قواربُ العشاقِ وتتناثرُ عليهم قطراتُ الماء، كأنها عقدٌ من اللؤلؤ انتثرت حبّاته على شعور وأكتاف العذارى..
ذهبنا، كنا نسير وتسير معنا عباراتٌ مدونة على الجدران ونواصي الشوارع .. شعبٌ واحدٌ.. وطنٌ واحدٌ.. أين الحقيقة؟..لكن أجملَ شعارِ رأيناه هو علمُ لبنان الذي يرفرف بلونه الأبيض تتوسطه شجرةُ الأرز الشامخة، قائلا للجميع: إنكم تنتمون لوطن واحد.. بالضبط كما كنا نحلم أنا و (عروب ) بوحدة العالم أو على الأقل وحدة العرب كي لا يكونَ اختلافُ الجنسية حائلا بيننا..

كانت تلوّح لي بيدها عندما كنت أقف في أعـــــالي جبال ) بحمدون ( و ) صوفر ) مغادراً.. تودعني وتسألني متى أرجع ؟ مع أنها تعرف الإجابة لكنها لا تمل السؤال.. وأنه مهما حصل ستبقى بيروت ستّ الدنيا.. ويبقى لكِ وجه بيروت.. وثلجُ بيروت.. وجمرُ غروبِها.. وأنني مهما حاولت نسيانها أو التخلص منها فلن أستطيع حتى لو غيرتُ جلدي.. كانت دائماً تسألني وتهمس بأذني بأغنية فيروز: “عندك بدي إبقى و يغيبوا الغياب، إتعذب و إشقى و يا محلا العذاب و إذا إنتا بتتركني يا أغلى الأحباب الدنيا بترجع كذبة وتاج الأرض تراب..”
وفجاة أستيقظ على صوت أمّي لتقولَ: هيا قم يا فلاح لقد تأخرتَ، وحانَ وقتُ الدوام.
*ملاحظة: نُشرت هذه القصة عام 2011، وبالإمكان الاطلاع على ذلك من خلال محرك البحث (قوقل).