(الحلقة الثانية)
بمناسبة الذكرى (61) لثورة (14) تموز 1958 الذي غيّر مجرى التاريخ السياسي العراقي , و أُعلن عن نظام جمهوري برئاسة عبدالكريم قاسم بعد الاطاحة بالنظام الملكي , هذه الثورة التي كانت ترى فيها الشعب العراقي بصورة عامة و الشعب الكوردستاني خاصة الأمل و الفرصة الذهبية لاصلاح ماكان يعاني منه الشعب من الظلم و الاضطهاد , إلا انها لم تكن كذلك , فقد خاب ظنهم و تبددت احلامهم , فما ان وقف الثوار على اقدامهم إلا و بدؤا بضرب تطلعات شعبنا الكوردستاني , و اعلنوا الثورة عليهم و استهدفوا قائد الحركة التحررية الكوردستانية بمحاولات متكررة للاغتيال و التخلص منه بشتى الوسائل ناسين و متناسين تلك الوعود و العهود التي قطعوها على انفسهم باصلاح ذات البين .
لقد عرف الثوار ان وقوف (مصطفى البارزاني) في قيادة الحركة التحررية باعتباره شخصية نضالية مؤثرة تدافع عن حقوق شعبه بما اوتيّ من قوة و صلابة , يهز عروشهم و يزلزل الارض من تحت اقدام الطامعين , لذا كانت المؤامرات تحاك للتخلص منه باغتياله مهما كانت الثمن إلا ان قدر الله و خبرته الطويلة و معرفته المسبقة بنواياهم كُتب له السلامة و الانقاذ , و هذا ما جعل من البارزاني قائداً أمنياً ذا نظرة ثاقبة يستطيع ان يقرأ ماوراء الامور و يتنبأ و يكشف عن تلك الخيوط .
لقد تعرض البارزاني في فترة نضاله الى محاولات عديدة للاغتيال و في زمن عبدالكريم قاسم (1958 – 1963) تعرض الى ثلاثة محاولات معلنة للاغتيال و ما خفي كان اعظم , لذا سنتطرق اليها بشيئ من الاسهاب و بحلقتين :
المحاولة الثانية :
في أواخر الشهر العاشر من عام 1961 تم تطهير منطقة (كاني ماسي) من قوات الشرطة بالكامل، وبسط جيش الثورة سيطرتها التامة على منطقة بروارى بالا، ولم يعد فيها من يمثل السلطات الحاكمة هناك، وما أن حل شهر كانون الأول 1961 حتى كانت الثورة قد قطعت شوطاً هاماً في مجال تعزيز مواقعها، و حققت سيطرتها التامة عليها، وقد ذاعت أنباء، نجاحاتها في سائر أرجاء البلاد ولا سيما في كوردستان بخلاف ما إدعاه (عبدالكريم قاسم) من القضاء على الثورة في مؤتمره الصحفي، وفي اليوم العاشر من كانون الأول 1961 تم تحرير ناحية سرسنك من القوات الحكومية، وسيطر البيشمركة على وادي زاويته على مشارف دهوك، عندها حشدت السلطة قواتها لهجوم واسع النطاق بهدف فتح طريق سرسنك، و إعادة احتلال سرسنك…، لم تكن معركة بالمعنى العسكري المعروف، بل مذبحة فقد وقعت هذه القوات في كمين محكم، ولم ينج منها إلا عدد قليل، و بهذه المعركة انتقلت الثورة الكوردية إلى مرحلة جديدة، وثبتت روح الإقدام، والعزم، والثقة بالنفس، و رفعت معنويات أعضاء الحزب الديمقراطي الكوردستاني في كل مكان من البلاد، وعادت تنظيماته إلى النشاط دون خوف من ملاحقة السلطات، و تحدياً لها.
صُدم النظام بعد معركة زاويتة، إذ اكتشف الأبعاد السياسية الحقيقية لما كان يدور في كوردستان، بإعتبارها ثورة كوردية كاملة الأبعاد، واضحة المعالم والأهداف، و ليست مجرد انتفاضةٍ عشائرية محدودة في منطقة بعينها، روح عمت الثورة، وسرت في أرجاء كوردستان، كما تسري النار في الهشيم، واصيب (عبدالكريم قاسم) بصدمة لم يكن يتوقعها، أو يحسب لها حساباً، و خشي سوء العاقبة، فأخذ يفكر بمعالجة الأمر قبل استفحاله عن طريق آخر غير المواجهة، فلجأ إلى الحيلة، والدسيسة، بأن تظاهر بإرسال أحد أعوانه للمفاوضة في موضع معلوم بنية مدبرة منه، لقصف الموضع عند اللقاء، بغية القضاء على البارزاني، والرجل المفاوض، كتب عبدالكريم قاسم للشيخ أحمد : بأنه مستعد للصفح عن البارزاني بالعبارة التي كان يرددها دائماً (عفا الله عما سلف) شريطة أن يعود إلى بارزان، ويخلد إلى السكون….
بعث الشيخ أحمد بفحوى رسالة (قاسم) للبارزاني بصحبة الرسولين (ولي هسني و أوسمان آغا بارزاني) وبعد يومين من وصول الرسالة، تلقى طلب قاسم بمقابلة رسوله العميد (حسن عبود) آمر اللواء الخامس، فوافق على اللقاء، و في اليوم السابع عشر من شهر كانون الأول عينت الحكومة للمفاوضين محلاً للإجتماع قريباً من سرسنك، إلا أن البارزاني لم يحضر في المكان المعين، بل بقي في موضع قريب من قرية بامرني، ثم بعث برسله كل من (علي عسكري و علي شعبان هسنكى/ بارزاني للذهاب إلى مكان التفاوض بالقرب من (جسر به ربانك)، لأبلاغ (حسن عبود) عند حضوره بأن البارزاني قد غير مكان اللقاء، و فضل ناحية سرسنك، و في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم (17/12/1961) حضر (حسن عبود) مكان التفاوض، وبعد إبلاغه بما أمر به البارزاني، توجهوا إلى سرسنك، و في (قصر المهندس) تم اللقاء بين البارزاني، وحسن عبود، وبعد مضي حوالي نصف ساعة من اللقاء الثنائي، شاهد (حسن عبود) بنفسه عملية القصف، بعد أن أقبلت أربع طائرات بعد مغادرته الموقع، وقصفته قصفاً عنيفاً مركزاً، وأدرك (حسن عبود) الخجل الشديد، وصعب عليه الموقف إلى حد كبير، ولم يكن في ذهنه أي فكرة عن الجريمة التي دبّرها زعيمه، كان حسن عبود من العسكريين الشرفاء صافي النية، وكان يود من كل قلبه إحلال السلام، وقد أدركنا سلامة نيته هذه من موقفه النبيل في الحيلولة دون إلحاق الأذى بالبارزاني.
عاد حسن عبود إلى الموصل، فطلبه عبدالكريم قاسم، فشخص إلى بغداد وجرت مقابلة عاصفة له مع قاسم طفق خلالها يتهدد، ويتوعد، ومما قال له: (كيف تقول إنك مخلص لي في حين إنك لم تحاول قتل البارزاني أثناء اجتماعك به، فأجابه و كيف يمكن ذلك، قال اسحب مسدسك و اقتله. قال حسن عبود : (إني اجتمعت به من أجل التوصل إلى إتفاق و سلام، و قد سمح لي بالاحتفاظ بسلاحي احتراماً، وكان بوسعه أن يطلب نزعه مني، ولو حاولت أن أفعل ما تقوله، لما نجحت فقد كنا محاطين بحرسه اليقظ). بادر قاسم إلى عزله من قيادة اللواء الخامس، وأحل محله العميد علي العامري. ولقي حسن عبود من سوء المعاملة الكثير، فقد ألحقه قاسم بإمرة إلادارة، وهو العقاب الذي ينزل بالضابط المغضوب عليهم، و الذين يظهر منهم التقصير، وبقي محروماً من الخدمة الفعلية، حتى نهاية حكم قاسم.
وعلى اثر الكارثة التي مني بها الجيش العراقي في موقعة زاويتة. وفشل التأمر على حياة البارزاني اصدر قاسم الاوامر الى اللواء الحادي عشر من الجيش واللواء الاول من الشرطة بالتقدم نحو سرسنك ثم بامرنى…
المحاولة الثالثة :-
كانت محاولات (عبدالكريم قاسم) لأغتيال البارزاني مستمرة، و كان البارزاني يصفه بالكذاب، و في محاولة أخرى للنيل من البارزاني يقول البارزاني : في (23حزيران 1962) أرسل قائد قوة الميدان في كركوك ضابطاً يدعى (علي آغا) لبحث شروط وقف إطلاق النار، و قال إنه مستعد لإلقاء منشورات من الطائرات تعلن إيقاف إطلاق النار، و عين لي موقعاً للقاء، لكني لم أذهب، لأني كنت أعرف أنه فخ، و في الواقع إن الموضع الذي خصص لاجتماعنا قصف من الصباح حتى المساء، و في اثناء ذلك أرسلت جوابي على مقترحاته بالشروط الثلاثة التالية :
سحب كل القوات العسكرية من كوردستان.
إطلاق سراح كل السجناء السياسيين دون استثناء.
تجريد المرتزقة من السلاح.
و عندئذ سأكون مستعداً للمفاوضات.
هكذا يبدو أن (قاسم) كان وراء كل عملية قصف لمحل الاجتماع، ليقتل فيه البارزاني، و لا يهم ان قضي فيه على وفده المفاوض، و إن تقدير البارزاني كان صائباً جداً في اتخاذ الحيطة، و الحذر، و الاعتقاد أن هناك مؤامرات تحاك على حياته، المهم في الأمر إن (قاسم) لم يستجب لنداءات الكورد، بل تجاهلها تماماً، و إن القتال استمر في عهده حتى يوم سقوطه و مقتله في (9شباط 1963) .
هذا مما جعل من البارزاني قائدا أمنيا ذو نظرة ثافبة وبعد نظر واسعة .
المقال مقتبس من مشروع كتابنا (ملامح البُعد الأمنى في سياسة البارزاني)