22 نوفمبر، 2024 8:14 ص
Search
Close this search box.

محاور الإصلاح في النهضة الحسينية

محاور الإصلاح في النهضة الحسينية

لم تكن حركة الإمام الحسين (ع) تصرفا انفعاليا عاطفيا مجردا من الحكمة والتسديد الإلهي ، وليست كذلك عملية استشهادية عبثية أراد من خلالها فقط تصديق الروايات الشريفة التي أشارت لمأساة كربلاء كما يصور الكثير من السطحيين ، وليست مشروعا لطلب السلطة والحكم فقط كما تصوره أدمغة الأمويين ، وإنما هي حركة إصلاحية شاملة وامتداد لحركات الإصلاح الإلهية للأنبياء والأوصياء قصد بها الإمام وجه الله تعالى وغايته إعادة رشد الأمة وتصحيح بوصلة مسارها باتجاه الإسلام المحمدي الأصيل ، بالتصدي للانحراف وإعلان الرفض للحكم الفاسد وتشخيص الإمراض المستشرية بالأمة لاستئصالها والتصدي للانحراف السياسي والديني والأخلاقي والاجتماعي الذي نخر جسد الإسلام وكيان الأمة خصوصا في ظل تولي قيادة الأمة الطلقاء وأبناء الطلقاء من أل أبي سفيان .

أن محاور الإصلاح الحسيني تمتد لتشمل في طياتها جميع المستويات والاتجاهات كالإصلاح العقائدي والإصلاح الثقافي والإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي ومحاور أخرى قد نعجز عن إدراكها وإحصائها ، إلا إننا سوف نتناول أهم تلك المحاور من وجهة نظرنا القاصرة عن استيعاب أبعاد النظرة الحسينية لتلك المحاور من حيث الأهمية والأولوية .

وسنتناول المحاور الثلاث المهمة ( العقائدية – السياسية – الاجتماعية ) بصورة موجزة مع ربط الماضي بالحاضر لأن التاريخ هو سياسة الحاضر والعكس صحيح ومن هذا المنطلق يمكن ومن خلال التحليل والربط بين الماضي والحاضر استخلاص أهم الظروف والملابسات التي أحاطت بحركة الإصلاح الحسيني .

 

المحور السياسي

 

لقد بلغت السلطة الأموية من الاستهتار والتفسخ الأخلاقي والفساد المالي والانحراف الديني مبلغاً عظيماً كادت معه أن تطمس معالم الحكومة الإلهية وتذهب في مهب الريح الجهود التي بذلها النبي الأكرم ووصيه أمير المؤمنين في سبيل ترسيخ مشروع الحكومة الإسلامية والولاية العامة القيادة الدينية على الأمة والتي انطلقت من خلال النص القرآني كقوله تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) ، وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقوله تعالى : (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ) .

ولقد لخص الإمام الحسين (ع) أوضاع القيادة الأموية المتسلطة على مقدرات الأمة الإسلامية والمتمثلة بيزيد بقوله ( وعلى الإسلام السلام إذا ابتلي بحاكم مثل يزيد) أما سيرة يزيد فهي مصداق للفجور والسفالة والاستهتار ويكفي الاطلاع على كتب التاريخ التي نقلت نزراً يسيراً من طبيعة الحاكم الأموي لبيان بشاعة ذلك الحكم ، ويصف كل من صاحب كتاب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني وصاحب كتاب انساب الأشراف البلاذري السلطان الأموي بقولهم ( كان يزيد أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء وآوى المغنيين واظهر التهتك وشرب الخمر واتخذ الغلمان والقيان والكلاب والقرود ندماء وجلساء له في مجلس حكمه ).

إزاء كل ذلك لم يقف الإمام متفرجاً وصدح بمقاله ليفضح ذلك الحكم المتهتك ويبين مساوئه حتى أمام ولاته وأمام جلاوزته في خطاب وجهه لوالي يزيد على المدينة بقوله : ( ويزيد شارب الخمر ، وقاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله) ثم يعبر الإمام للأمة عن تكليفه الشرعي من الحاكم الظالم مستدلا بموقفه وتكليفه بكلام النبي وسيرته الشريفة مستحضرا ذلك بقوله : ( أيها الناس أن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال : من رأى سلطاناً مستحلا لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) وهو إعلان رسمي من قبل الإمام بالانتفاض على ذلك النظام وحث الأمة على الثورة في وجه الحكم المنحرف استنادا واستجابة للتوجيه والموقف النبوي .

ثم يبين الإمام خصائص حكومة بني أمية وولاتها ومرتزقتها المنتشرين في جسد الكيان الإسلامي من خلال النفوذ والسيطرة على مقاليد الدولة ومناصبها المهمة فيصف حالهم بقوله : ( إلا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلو حرام الله وحرموا حلاله )، ونستنتج من خلال هذا البيان الحسيني أن الصورة العامة لتلك الحكومة الأموية وأجهزتها القمعية المتسلطة عبارة عن :

1- حكومة منسلخة عن الدين ومحاربة للإسلام وشريعته .

2- إن الفساد المالي والأخلاقي بلغ ذروته في السلطة الحاكمة .

3- إن تلك الحكومة عطلت أحكام الله ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون.

4- إن العائلة الحاكمة استأثرت بخيرات الأمة وثرواتها .

5- المرحلة الأخطر هي في إن أروقة تلك السلطة أصحبت مسلخا وجزراً بشريا.

ولذلك لم يجد الإمام إزاء هذا الانحراف السلطوي بداً من إعلان الرفض لها والثورة عليها من اجل عملية التغيير والإصلاح لتلك الأوضاع والمخاطر التي تهدد كيان الإسلام بسبب تسلط يزيد وبني أمية على مقاليد الحكم للأمة .

ولعل الكثير من معالم هذه السلطة الفاسدة نجد لها مصاديق في الماضي والحاضر بالنسبة للأوضاع في البلاد الإسلامية عموما والعراق خصوصا فالقتل والفساد والاستئثار بالسلطة والمقدرات هو السمة الغالبة للسلطات الحاكمة والكتل السياسية المتنفذة لكن الخضوع والخنوع هو السمة الغالبة والبارزة في المجتمعات إزاء مثل هذه الانحرافات .

المحور العقائدي

 

لقد كانت البدع والعقائد الفاسدة تنخر في جسد الأمة بموازاة فساد وانحراف السلطة ، ولقد اختصر الإمام الصادق (ع) حركة الإصلاح الحسيني وأهدافها بقوله : ( وقد بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) ومن خلال هذا الحديث الشريف يمكن استنتاج الأوضاع الفكرية والعقائدية الخطيرة التي وصل إليها حال المجتمع الإسلامي بعد أن أصبح رهينا للجهل والضلالة وهما العنصران اللذان كانا برنامج عمل السلطة الأموية لتشويه الحقائق وتجهيل الأمة من خلال نشر ثقافة التخلف والانحطاط بالإضافة تحول معظم الفقهاء إلى وعاظ في ركاب السلطة .

ولذلك كانت الحركة الإصلاحية للإمام الحسين (ع) تركز على دعوة الأمة الإسلامية للاستيقاظ من سبات الجهالة وشراك الضلالة الأموية وهذا ما عبرت عنه الصرخة التي لا زالت تتردد في أرجاء التاريخ والحاضر بمناشدة كل الأحرار لتحمل أعباء المسؤولية الرسالية الإصلاحية والتي تمثلت بنداء الإمام الحسين (ع) للأجيال بقوله: ( فأني أدعوكم إلى إحياء معالم الحق وإماتة البدع ، فأن تجيبوا تهتدوا لسبل الرشاد ).

ولذلك كان الإمام الحسين (ع) الكهف الحصين لمن أراد الاستقامة ومصباح الهدى للتائهين وسفينة للنجاة من بحر الضلالات فمن تمسك به ربح ونجا ومن تخلف عنه غرق وخسر .

ونشهد اليوم وخصوصا بعد سقوط نظام البعث انتشار للعقائد الهدامة والادعاءات الباطلة من قبل العديد من الجهات المنحرفة والتي تمخضت عن العديد من الحركات الضالة ، ولعل سمات التعصب والغلو أصبحت شائعة ومتداولة على صعيد واسع في الأوساط الدينية على وجه الخصوص حتى على صعيد ممارسة الطقوس والشعائر الدينية بالإضافة إلى الدور السلبي لمعظم القيادات الدينية وخصوصا المتصدية من خلال التقصير في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووقوفها موقف المتفرج من الفتن والضلالات التي تعصف بالمجتمع .

بالإضافة إلى ذلك فأن العنف والتكفير والتحريض الذي أصبح اللغة السائدة في الخطاب الديني بالنسبة للحركة الوهابية والتيار السلفي المتشدد والذي تحول إلى منهج عدواني وسلاح موجه ضد الطوائف المخالفة وأصحاب الديانات الأخرى.

 

 

المحور الاجتماعي

 

لقد كانت آثار سياسة الحكم الأموي لمعاوية التي استمرت عشرون عاما شاخصة وحاضرة على صعيد الأمة والمجتمع الإسلامي من خلال الانهزامية التي رزحت في النفوس نتيجة لممارسات السلطة الهدامة للفرد والمجتمع والتي أتسمت بسياسة الإرهاب وشراء الذمم بالنسبة لمعارضي حكمها وإتباع المعايير الجاهلية في بث الفرقة والطبقية في أوساط المجتمع الإسلامي وتنفيذ عدد من المشاريع والقوانين التي تضمن استبداد بني أمية على مقدرات الأمة وتضمن تشرذمها وخضوعها ومن هذه الممارسات الأموية مصادرة أمول المواطنين وشل الحركة الاقتصادية حصر الامتيازات بال أمية وأركان الحزب الأموي وسياسة التفريق بين المسلمين على أساس قومي وممارسة البطش والقتل وإشاعة الخلاعة والمجون وإشاعة الانتهازية والخداع وتوهين أحكام الشريعة الإسلامية وشراء ذمم وعاظ السلاطين لشرعنه انحرافاتهم .

كل هذه الممارسات وغيرها كانت من ابرز عوامل الانهزامية والتيه والجهل التي برزت على خارطة جسد المجتمع الإسلامي إلى أن وصل المطاف بالأمة إلى الاستسلام الكلي للحكم الأموي وممارساته المنحرفة بل والذوبان في كذبه وخداعه وتضليله ، ولذلك لم يجد الإمام الحسين (ع) وسيلة لمحاولة استنهاض ذلك المجتمع من رقاده الطويل سوى إعلان الثورة ضد الحكم الأموي خصوصا بعد أن تهيأت الظروف وألقيت الحجة بكتب أهل الكوفة التي كانت ترد بالآلاف معلنة جهوزيتها لتحمل أعباء النهوض بالثورة الإصلاحية للإمام الحسين (ع) وهكذا كان الحراك الحسيني إيذانا ببدء الصحوة الإسلامية الكبرى للمجتمع الإنساني والإسلامي خصوصا

إلا إن ذلك المجتمع الانهزامي لم يتفاعل مع الثورة الحسينية واقتصرت النصرة على أظهار المشاعر الجياشة والعواطف المصطنعة اتجاه الإمام وحركته قبل أن تتحول تلك المشاعر في يوم الطف إلى ممارسات غاية بالوحشية تجاه الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) في مجزرة وإرهاب لم يشهد لها التاريخ البشري مثيلا بعد أن كُشفت الوجوه ونُزعت الأقنعة لتُظهر مجتمع فقد كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية وتحول إلى مجتمع أموي بكل ما تحمله تلك الكلمة من دلالات ومعاني لأبناء أكلة الأكباد .

 

 

ولذلك كان التوصيفات التي وردت في خطب وكلمات الإمام الحسين (ع) في يوم الطف غاية في التعبير عن كينونة ذلك المجتمع المنقلب على أعقابه والذي انقسم على نفسه ما بين الاستسلام والخضوع التام وبين الانعزال والانقطاع وحتى في ساحة كربلاء ومن بين سبعين ألف إنسان لم يكن من بينهم إلا رجل واحد هو الحر الذي اختار الحرية الأبدية أما أشباه الرجال ولا رجال فقد اختاروا الذل والعبودية في الدنيا والخزي والعار في الآخرة بعد تلبسوا بالجرم المشهود .

ويصف الإمام الحسين (ع) ذلك الجيش الأموي المستذئب بعبارات تلخص واقع الأكثرية في ذلك المجتمع اللااسلامي واللاانساني بقوله في خطابه لهم ( فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرفي الكتاب ومطفئ السنن وقتلة أولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصُراخ أئمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين)

ولم يقصر الإمام الحسين (ع) وهو في ذلك الظرف العصيب ووسط تلك الجموع الإرهابية الكبيرة في أبداء النصح لهم والاستعطاف والاسترحام بهم رغم كل الوحشية التي أبدوها تجاهه وأهل بيته بل أن يعينه تترقرق دمعاً حزنا على هؤلاء القوم العتاة المجرمين وأكثر من تذكيرهم بعاقبة أمرهم وبمغبة أفعالهم إلا إن تلك القلوب ران عليها ما اكتسبت من آثام حتى نزعت منها الهداية والرحمة وأيست من رحمة الله .

إلا إن دماء الإمام الحسين (ع) التي نزفت في صعيد كربلاء كانت المشعل الذي سينير للأحرار والثوار المصلحين طريق الحق والمقاومة للباطل والظلم ولم تلبث الأمة أن استعادت بعض بريقها وثقتها لتحاول أن تكفر عن خذلانها لابن بنت نبيها في معركة الإسلام والهداية ضد الكفر والانحراف فشمر الأحرار عن سواعدهم في ثورات وانتفاضات متلاحقة ابتدأت بسليمان بن صرِد والمختار الثقفي ولم تنتهي إلى ظهور المصلح العالمي الإمام المهدي (عج) ، بل أن الإمام الحسين (ع) أصبح نبراسا للإنسانية جمعاء ولم يقتصر فيض الهامه ليشمل المسلمين فقد بل أمتد إلى كل الثوار العالميين كغاندي وجيفارا واستمدت من عطائه الإصلاحي كل الأطياف الإنسانية بمختلف عقائدها وقومياتها وأيديولوجياتها لتنير للإنسانية درب الحرية والانعتاق من العبودية والظلم والاضطهاد .

اننا نشهد في واقعنا المعاصر في مجتمعاتنا الإسلامية الكثير من الصفات السلبية والظواهر الشاذة للمجتمع الأموي كالعادات والتقاليد المنحرفة والمفاهيم المغلوطة والإتباع الأعمى لكل ما يتعارض مع شريعة الإسلام كالتعصب والأعراف العشائرية الباطلة واستفحال وانتشار التعاملات الربوية والانحلال الأخلاقي والترويج للشذوذ الجنسي علانية نتيجة الجهل بالأحكام الشرعية والعقائد الاسلامية بالإضافة الى التعامل السلبي مع التطور التكنولوجي والتفكك الأسري نتيجة اندثار منظومة القيم العائلية والإعراض عن القيادات الشرعية التي تمثل حركة الإسلام الحسيني الإصلاحي وغيرها من الأوبئة والإمراض الفتاكة والتي تستدعي من كل مصلح حسيني أن يسعى لإزالة هذه الأورام الخبيثة عن جسد المجتمع الإسلامي لأن الفتنة لا تصيب الذين ظلموا فقط وإنما تشمل الجميع في حال استمرار الاستسلام والخضوع للانحراف والظلم .

 

وان بركات ثورة الإصلاح الحسيني مستمرة بعطائها الوهاج الذي يبعث في الأمة دائما سبل النهضة والطاعة والأمل ، بل إن كل الآثار والألطاف التي نعيشها اليوم هي من فيوضات العطاء الحسيني التي منًّ الله تعالى علينا بها ببركات الإمام الحسين (ع) وثمرة صالحة للإصلاح الديني الذي استقام وشيدت أركانه في هجير كربلاء ورمضائها حينما سقى الإمام الحسين (ع) بدمائه وال بيته الأطهار شجرة الرسالة لتنموا وتزدهر بهذا العطاء المبارك المثمر ..

[email protected]

أحدث المقالات