هل فعلا ما زال العراق كما قال معروف الرصافي ” علم ودستور ومجلس امة كل عن المعنى الصحيح محرف؟” وإذا كان قوله يصف العهد الملكي فما بالك عن العهود الجمهورية وعهد اليوم من ديمقراطية المحاصصة ؟؟
في تسعينيات القرن الماضي شاع مصطلح (العالم الواحد) بسبب تدفق المعلومات عبر قنوات إعلامية مختلفة لعل أبرزها القنوات الفضائية وباتت وكالات الانباء أحد أقدم أنواع التواصل الإعلامي، هذا التدفق السريع للمعلومات جعل مهمة الصحفي الإعلامية امام تحديات جادة، لاسيما وان هذه التحديات اخذت بالاتساع نتيجة قفزات هائلة في الاقتصاد الدولي وتحوله الى نموذج اقتصاد السوق المفتوح بعد سقوط جدار برلين وطغيان الرأسمالية.
كل ذلك لم يستفيد منه العراق لأسباب معروفة خلال النظام السابق، لكن اليوم مع عالم الانفتاح، هناك مسؤوليات وواجبات ملقاة على عاتق الاعلام والصحافة بشكل خاص لتعقب المظاهر التي توظف الديمقراطية أسلوبا لتجاوز القانون العام، ومنها مظاهر الفساد.
واذكر قولا لأستاذنا الدكتور حامد ربيع، بان أجمل الدساتير وأفضل المعاهدات الدولية، تبقى مجرد حبرا على ورق دون وجود الإرادة السياسية المعتمدة على قوى شعبية لتنفيذ ما يرد في تلك الدساتير والمعاهدات.
وهناك نموذجين في التعاطي مع هذه المسؤولية الأخلاقية، الأول، يفترض ان الازمة عصية على الحل في نموذج طريف عن حكاية السمكة لملا عبود الكرخي، حينما شاهد الباشا نوري السعيد في سوق الشواكة وهو يشتري السمك ،فاخذ يشم ذيل السمكة ، فانبرى له الباشا متسائلا ” ها ملا هي السمكة تسم من راسها لو من ذيليها ؟” فأجابه الكرخي متهكما ” والله باشا اعرف الراس خايس دا اشوف وصلت الخيسة لذيلها “
مثل هذا التهكم، اخذ اليوم يعرف بالتقسيط السياسي، في اعلام ممول من الفساد السياسي الأكبر، والنموذج الثاني ينظر الى نصف الكاس الملان، تحت لافتة مهمة تصف الديمقراطية بانها حالة تحول انساني مطلوب تقنينها اجتماعيا.
وفي حين تناول الدستور العراقي حقوق الافراد بما يتلاءم مع نصوص العهود الدولية لحقوق الانسان التي لا تخالف نصوص في الشريعة الإسلامية السمحاء، فان التطبيقات ما زالت تكتنفها الكثير من التجاوز على تعهدات العراق امام المجتمع الدولي في الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، وهي التزامات ما زالت تضع العراق امام تحديات قانونية لم ينهض بها مجلس النواب لأسباب شتى.
يضاف الى ذلك ان الجهات الرقابية ومن ابرزها هيأة النزاهة، تطالب تعزيز المسائلة الاجتماعية في مكافحة الفساد ومنعه، لكن ما ثمة خلاف واختلاف ما بين اليات قانونية مطلوبة من هذه الجهات الرقابية واليات إعلامية مشهودة ولعل ابرزها برنامج الساعة التاسعة في قناة البغدادية وغيره من البرامج ذات النمط الرقابي على سياسات الدولة الفاشلة في منع الفساد ومحاصصة الفساد داخل مجلس النواب بما يؤدي الى تقنينه بوسائل وأساليب قانونية.
مشكلة القانون البحث عن دليل دامغ، ومنهج الاعلام البحث عن مؤشرات دالة، وكلا المنهجين يؤكد على ارجحية حقه في المسائلة ما بين المسائلة الاجتماعية عبر وسائل الاعلام او عبر المسائلة القانونية عبر القضاء، السؤال: لماذا ندعو لشراكة الاعلام في مكافحة الفساد ؟؟
أكاديميا، يمكن تعريف الاعلام بكونه رسالة توضع في وعاء مناسب تستقبل من جمهور مهتم بمضمونها، فهناك رسالة رياضية وأخرى للموديلات وثالثة للفنانات، لكن هل تعد الرسالة
الإعلامية التي تتعامل مع مظاهر الفساد وان وضعت في أي وعاء اعلامي مناسب في فنون مختلفة ربما حتى درامية او فنون تشكيلية، تجد لها جمهور واع بمضمونها ؟؟
اجابتي ستكون بذات نموذج الكاس نصف الملان، لان العديد من اهل المهنة ليسوا على اطلاع تفصيلي لما يقع في مضمون هذه الرسالة ، وهنا لست بصدد الاتهام بل في تثبيت حقائق مهمة، لان نصوص قانونية عراقية مثل قانون غسيل الأموال ومحاربة الإرهاب وحتى دستورية ، يمكن ان يستند اليها الإعلامي والصحفي في رصد الفساد ومكافحته، كما ورد في المادة 127 منه والتي تنص على ( لا يجوز لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ونائبيه وأعضاء المجلس وأعضاء السلطة القضائية وأصحاب الدرجات الخاصة ان يستغلوا نفوذهم في ان يشتروا او يستأجروا شيئا من أموال الدولة او ان يؤجروا ام يبيعوا لها شيئا من أموالهم او ان يقاضوها عليها او ان يبرموا مع الدولة عقدا بوصفهم ملتزمين او موردين او مقاولين ).
مثل هذا النص حين يتمعن فيه الصحفي او الإعلامي يمكن وفقا لمضمونه ان يستند في التحقيقات الاستقصائية عن نماذج استغلال النفوذ التي تقع ضمن نصه، كون الاسناد القانوني لما موجود في الدستور والقوانين العراقية، يعفي الناشر من الملاحقة القضائية، ووصف ما يقوم بنشره كنوع من الالتزام بما جاء في الدستور ولم يلتزم به السياسي الفاسد وسكت عنه بسبب المحاصصة، في حين لم يسكت عنه الدستور في نص واضح.
مثل هذا التعريف بالقوانين والأنظمة المرعية، تجعل مقدمي البرامج ذات الاهتمام بالمنهج الرقابي كما هو حال برنامج الساعة التاسعة في البغدادية لان المطلوب الأكيد ان تتفق منهجية الاعلام والموقف الشعبي المؤيد لها الى مواقف مسائلة اجتماعية،وهذه المسائلة عبر التظاهرات او عبر مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في كتابة المقالات ، لابد وان تحول الى منهج ضغط شعبي على سياسات الحكومة التي حولت نصوص الدستور الى الرفوف العالية وانتهت الى نموذج من محاصصة الفساد ،حينما تحاول المؤسسات الرقابية تنشيط وسائلها في مسائلتهم قانونيا، تكون امام ملفات ناقصة، المطلوب اليوم وبقوة ان لا تنتهي قوة التظاهرات في شعارات ترفع ، وافعال ولا تسمع ، لا نريد ان نكرر ما قاله الرصافي في ندواتها الحوارية، بل نريد ان نثبت على الحكومة خطوات تغيير سياساتها واولها الغاء محاصصة الفساد ، ومحاسبة كبار المسؤولين على فسادهم ، وإعادة صياغة وتقويم سياسات الدولة ، ودون ذلك لن يكون في برنامج الساعة التاسعة او غيره من البرامج الحوارية الا الزعيق الإعلامي دون تحوله الى ضغط شعبي لان اغلبية مشاهدي هذه البرامج هم من الأغلبية الصامتة ، وهم جمهور مستهدف في التحول الى نمط المسائلة الاجتماعية لمحاصصة الفساد ،ورفض سياسيات الحكومة الفاشلة في منعه ، لذلك لابد من إعادة تقييم وتقويم شاملة لمثل هذه البرامج ودورها في تأشير المفسدين واثبات فسادهم دون الوقوع في مطب التسقيط الشامل للعراق ومجتمعه بطريقه سمكة الكرخي ، بل نريد ان يكون عراقنا الغالي وطن الجميع بلا فساد سياسي ، وبسياسات عامة تفصل ما بين حقوق المواطن واعتقاداته الإنسانية ، دينية ومجتمعية ، وبين دوره في ممارسة المواطنة خلال الانتخابات لاختيار من يجده صاحب المشروع الاقتصادي الأكثر تماثلا مع طموحاته، وهنا يبرز دور هذه البرامج الحوارية لتحقيق المسائلة الاجتماعية لمن يطلق عليهم نواب الشعب في مجلس النواب ، هؤلاء النواب الذي ليس ثمة سلطة فوق سلطتهم الا سلطة الأصابع البنفسجية وي تحاسبهم عل اخطاؤهم ، وعزاؤنا ان الجميع في مركب واحد لمحاصصة الفساد ، فلا بد ان يستجيب القدر للعراق الجديد في عقد اجتماعي وطني تكون شرارته هذه البرامج الحوارية ومنها برنامج ستوديو الساعة 9 !!