على عتبات النهايات نتلفت خلفنا خوفاً من أي بداية، نسترجع كل ما عشناه..وكثيراً ما نسقط (عمداً) بعض التفاصيل لنخفف من وقعها علينا، ايهاماً للنفس بأنها على ما يرام، وأن من رحل عنا أو رحلنا عنه كان يستحق فرصةً أخرى، أو أن الأمل كان لا يزال قائماً في إعادة إحياء (جثةٍ هامدة) نحبها رغم الوجع الذي سببته لنا، فيرفض قلبنا دفنها معتقداً أن (ذلك هو الحب الحقيقي)، وتلك هي المغفرة أو التسامح أو ضريبة المشاعر..وننسى أننا من اعترف لنفسه بمرارة لحظات الخيانة والكذب والتجاهل والإهمال والألم الذي عشناه بمفردنا طويلاً، فنبرر لحظة خوفٍ كاذبة ونحاول تغليفها بصفات (الأصالة والنبل) كي لا نبدو جبناء أو ضعفاء، في لحظةٍ صامتة تجسد شعور الخوف من الوحدة التي نعيشها في الواقع، والخوف من القادم والمجهول، والخوف من المضي قدماً، والخوف من الندم والإنكسار والسقوط عراةً أمام مرايانا مجدداً، أو أمام أي حقيقة.. فالحقيقة عادةً ما تكون موجعة، قاسية وصادمة لا نستسيغ طعمها كالدواء لكنها ما يشفينا ولو بعد حين..
فنصارح القلب بما يخشاه، نحاوره، نشجعه، نخفف عنه حتى يبوح ويتخلص من سمومه فيلفظها واحداً تلو الآخر، ليتطهر ويتحرر ممن أذاه وما أذاه ويخرج من دائرة الحزن والمرض والوهم والتعلق إلى رحاب الحياة.. بجناحي طير لا يصدق أنه يحلق كأقرانه، ويبهره أن هناك أشياءاً جميلة ليست ملكاً لأحد كالشمس، والقمر، والنجوم، والأزهار، والبحر، وضحكات الأطفال، وحفيف الأشجار، وموسيقى المطر، والطيور التي تحط على نوافذنا، والقطط التي تتمايل بدلالٍ أمامنا ولا نملك سوى أن نضحك كلما رأيناها..
ونعي فجأة ً في تلك اللحظات التي تفصل بين بداية ٍ ونهاية، وعامٍ وآخر، وروحٍ ولدت من عذابها روحاً جديدة، أنها من يصنعنا وتصنع لحظاتنا القادمة، هي نقطة التحول، هي ال (لا) وال (كفى)، هي بداية التغيير والتحول من ضحيةٍ إلى بطل، ومن شخص ٍ لا صوت له إلى معزوفةٍ تملأ الكون رجاءاً وأملاً، هي اللحظة التي تحتاج قوةً وثورةً على النفس لتأخذ القرار بأن تمضي إلى حيث تريد أن تكون، ولتفهم أن العجز في كثير ٍ من الأحيان هو مجرد قرار، وأن القادر على تخطي هزائمه والتعلم من تجاربه وتجاوز من خذله أو طعنه هو محاربٌ حقيقي في معركة الحياة، اختار صعود جبالها رغم جروحه وأبى الإلتفات إلى قاع الجبناء..