24 ديسمبر، 2024 11:14 م

محاججات القرآن (1) “أفمن يخلق كمن لا يخلق”

محاججات القرآن (1) “أفمن يخلق كمن لا يخلق”

رغم ان الإيمان ليس بالعقل وحده او بتعبير آخر فإنه من الصحيح ان العقل هو الذي يقود إلى تتبع وممايزة دلائل الإيمان لكن دون تصديق بالجنان لن يتم الإيمان ولن يثبت ، ومن هذا عرّف بعض متكلمي المسلمين وفلاسفتهم الإيمان بانه “تصديق بالجنان وعمل بالجوارح وقول باللسان”
لذا فقد أعطى الإسلام مساحة كبيرة في التعامل مع التصديق به واعطى للعقل فرصة متأنية لإدراك عقائده وفهم الكثير من علل أحكامه ، واحترم الاستدلال البشري على مستوى عقول العلماء احيانا وبعض الاحيان وفي مفاصل عقدية مهمة كان على مستوى فهم العامة، رغم الدور الكبير والملحوظ لفكرة الإيمان بالغيب التي ناقشناها في مقال سابق عنوانه (الايمان بالغيب والقران) ولا نريد أن نتشعب إليها الان ،
و قد درجت محاججات القرآن بلاغيا ومنطقيا ان تكون صارمة حاسمة لا مجال فيها للرد ولا ثغرة فيها للطعن ، يزيد هذا التوجه حاجة ان القرآن العظيم عوّض الناس عن تلقي الادلة الإلهية المادية والعينية -كما جرت العادة مع الامم السابقة- بأدلة عقلية وحسية وروحية ، فكان للمحاججة العقلية والمنطقية الدور الاكبر لاقناع الناس وللجم المجادلين ، لذا ترى الادلة التحاورية والاقناعات المنطقية تارة بأدوات البلاغة وتارة باستنتاجات المنطق هي التي تتسيد سبل القرآن في رد المشككين ومناظرة المنكرين ، فالذين يعرفون قدر الكلمة ووقع الجملة من الكلام يتأثرون باشارة بلاغية يعجز عنها المفوهون من البشر ولو اجتمعوا -بقدر تأثرهم بنار تشتعل في اعلى جبل او بعصا تسعى كما تسعى الافاعي- او ربما أكثر ،
ويتفوق التاثير الثاني عن الأول بدوامه ووجوده بين دفتي القرآن طول الدهر ، ومتى ما تصفحه القارئ الباحث عن دوافع الإيمان وجده بينما اختفت حادثة العصا ولم يعد يراها الا من رآها في عصرها بل يومها ومات مع موت النبي الذي أُيّد بها وربما كذّب اللاحقون ما يذكره السابقون او ربما حرفوه ، فكانت الإشارات البلاغية أدوم وانسب لكتاب معجز وشريعة هي آخر الشرائع ورسالة هي خاتم الرسالات ، والذين يُعملون عقلهم في الادلة المنطقية المعتمٍدة على تبيان ما بين ايديهم من حجج يصدّقون بعبارة توقظهم على وصف أمر قائم حولهم او ظاهرة من ظواهر الطبيعة لا يجدون لفهمها -بغير ذكر القرآن لها- سبيلا ولا لتصديقها -بغير تفسير القرآن حولها- دليلا ،
فكيف يردّون على من يتحداهم في أمر خلق أنفسهم وخلق ما يرونه ويعيشون به ويعيشون فوقه وتحته وما يركبونه وما يشربونه وما يزرعونه ، ولا يجدون لذلك -والى يومنا – عليه ردا ولا لدحضه قٍبلا ، فيقول القرآن الكريم مخبرا عن مُنزله العظيم محاججا البشر الطالب للرشد والهدى وملجما اهل الجدل و الضلالة : {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} وبعد ان وصف عذابهم قال {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } فيسوق الحجة المنطقية التي ليست بحاجة الى صاعقة تنزل على الرؤوس ولا رجل يطير في الهواء ، بل بكل بساطة وعقلانية :{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ () أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} فالنطف الذي يمنيه الرجال في أرحام نسائهم ، هذا الذي أمامكم كل يوم وسبب بقاء نوعكم وسعادتكم بأسركم واولادكم ، هل انتم من خلقه ام نحن الخالقون ؟ إذن واذ لم تاتوني بخالق له ولن تاتوا فاعلموا اننا نحن الذين خلقناكم وكذلك ف {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} وكما خلقناكم فنحن قادرون {عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} وعلى هذا المقياس العقلي الحسي الملموس المفهوم اصبح معلوما اول الخلق {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} ، ثم ينتقل جل وعلا إلى الزرع : {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ () أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } هذا النبات الذي يملأ الارض هل كان في مقدوركم خلقه وانشاؤه ليكون بذرا صالحا للحرث والزرع فتاكلون منه وانعامكم ، وإذ ثبت انكم لستم الخالقين له والله انشأه من عدم فالمنطق يقول ان الله سبحانه يمكن ان يجعله عدما ف {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} وصرتم تنظرون اليه دون حول ولا قوة . ثم يذكرهم الله تعالى بنعمة اخرى من أسباب حياتهم :{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ () أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} وإذ لم تنزلوه انتم ولا تعلمون أحدا انزله فنحن انزلناه و {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} ولو شئنا جعلناه مالحا فلا تشربون منه ، ثم الدفء ونار الطعام {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ () أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} فدون شك لستم انتم الفاعلين ، اذن ف {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} فلا مفر من الإيمان بالله الخالق الجبار {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ۞
وإذن { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}