باب الحوائج جئت بابك ساعيا ……. وأنخت ما بين القبــــــاب رحاليا
وطفت التمس الدعاء بفضلكم ……. يا ســــــــيدي فيكم وجدت رجائيا
ووضعت وزري في حماك وأنني …. مــــــــــستيقن من انه يقضى ليا
يا ابن الأباة الطيـــــــبون وانتم ……. شفــــعاء خلق الله حين يلاقيا
فاشفع لعبدك حين ينكشف الغطا …. واحمله عني حين يعرض كتابيا
في يوم السابع من شهر صفر سنة (128 هـ ) ، وُلِدَ الإمام موسى بن جعفر (ع) في (الأبواء) بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة ، وهو البلد الّذي تُوفِّيت ودُفنت فيه جدته آمنة بنت وهب أم الرسول (ص) .. .عاش الإمام في كنف أبيه الإمام جعفر الصادق (ع) ودرس في مدرسته العلميّة ، فورث علوم أبيه ، وتشبّعت روحه وأخلاقه ، فكان (ع) مثالاً في الخلق الرفيع ، والكرم والزُّهد والصبر ، ومثلاً أعلى في الثبات والشجاعة ومقارعة الطغاة ، وكانت حياته في ظلّ أبيه حياة تربية إسلامية حقيقية ، وحياته بعد أبيه امتداداً واستمراراً لمسيرة أهل البيت (ع) النيِّرة في العلم والعمل والجهاد والقيادة والإمامة . وقد نصّ الإمام الصادق(ع)على إمامة ولده موسى(ع)من بعده بنصوص كثيرة .***ملامح شخصيّة الإمام (ع) :.. لا بد ان الذين لقبوه كانوا يحسون منه استحقاقه لذلك اللقب …مثل الرسول {ص} حينما لقب الإمام الباقر , لا بد ان يكون عالما يبقر العلم .. ويقول اذا كان يوم القيامة ينادي منادي أين علي بن الحسين السجاد ,, لما حمل لقب السجاد لابد ان يكون كثير العبادة طويل السجدة .. كذلك الإمام موسى بن جعفر (ع) لعلو اخلاقه وهو ممن دمج العبادة بسيرته الذاتية فلقبه الناس (العبد الصالح) لكثرة عبادته وتهجّده ،كما لقب جده من قبل مشركي قريش { الصادق الامين } لقب (الكاظم) لشدّة تحمّله وصبره على الأذى وكظمه للغيظ ، ومقابلته الإساءة بالإحسان ، ولقب (باب الحوائج) لوجاهته عند الله وعلوّ مقامه وقضاء الحوائج بالتوسّل عندهم بالله ..هناك ظاهرة انه لا يوجد احد من العرب والعجم انتحل صفة باب الحوائج إلا بني هاشم .. موسى بن جعفر , العباس بن علي . مسلم بن عقيل , أم البنين وعبد الله الرضيع عليهم السلام .. نعم كلهم أبواب حوائج . ولكن هنا تستجاب الدعوات أسرع .. . السرّ الكامن وراء الاستجابة هي : عظمة أهل البيت (ع) وكمال ذواتهم الإنسانية وتميّزهم عن سائر الناس بمعرفتهم بالله تعالى والتوجّه الخالص له وهو المتّصف بالخير والكمال المطلق ، فتنعكس هذه المعرفة سلوكاً وعملاً في حياتهم العامة وتظهر نتائجها عند الناس ..فلا عجب أن نرى في سيرتهم الزُّهد والتعالي على متع الحياة الدُّنيا ولذاتها ، والتضحية وبذل المال والنفس في سبيل الوصول إلى الله ونيل رضوانه والعمل على إنقاذ الإنسانية ووضعها على طريق الهدى ومسيرة الإيمان الخيِّرة . كلهم عطاء , بيوتهم ماوى للفقراء والمحتاجين .. وهذا جده امير المؤمنين {ع} رغم كرهه من قبل الكتاب والدولة الأموية والعباسية .. وبما يحملان كرها لهذا الرجل حين كتبوا التاريخ الإسلامي , كان المسؤول في البلاط الأموي خالد القسري يقول للكتاب : لا تذكروا اسم علي إلا إذا وجدتموه في قعر جهنم ..!! أي حقد هذا ..؟ حقدُ بدل أخلاق الناس عنه إلى يومنا هذا ..ولكن حين يمرون على حياته الشريفة يتلعثمون وترتجف الأقلام بأيديهم .. تظهر حقيقته الناصعة جلية كالبدر ليلة تمامه .. يقولون عنه كلاما ما قيل لاي خليفة قط على وجه الأرض : ” أمّا زهده في الدنيا وما فيها ، فكان سيّد الزهاد، وبدل الإبدال، وإليه تشدّ الرحال،الإبدال هم الزُّهُاد قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم ، فإذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر وعنده تنفض الاحلاس، معنى الحلس :.. أحلست الأرض : اخضرت واستوى نباتها … كتبوا عنه انه ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً .. قال (ع): لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من رُقعها – أو: من رافعها. قال الإمام الباقر (ع) في زهد أمير المؤمنين {ع} أنّه ولّي أيام خلافته خمس سنين، وما وضع آجره، ولا لبنة على لبنة، ولا قطع قطيعاً، ولا ورّث بيضاء ولا صفراء.وترصّد غذاءه عمرو بن حريث، فأتت فضَّة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيّراً خشناً، فقال عمرو: يا فضّة، لو نخلت هذا الدقيق وطيبتيه. قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أصنع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه.ثمَّ إنّ أمير المؤمنين (ع) وضعه ُ في قصعة، وصبَّ عليه الماء، ثمَّ ذرَّ عليه الملح، وحسر عن ذراعه، فلمّا فرغ قال: يا عمرو، لقد حانت هذه ومدّ يده إلى قصعته , وخسرت هذه وأشار إلى بطنه أن أُدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: إنّي لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً، وبالليل ساهراً مكابداً، ثمَّ يكون هذا فطورك! فقال (عليه السلام):” علل النفس بالقنوع وإلاّ * * * طلبت منك فوق ما يكفيها “وكان الإمام الكاظم {ع} طالبا في هذه المدرسة العطرة وأصبح هو المصداق الأمثل لهذه المعاني وتلك بعض الروايات كشواهد لذلك :قالوا عنه :كان (ع) أحفظ الناس بكتاب الله تعالى وأحسنهم صوتاً به ، وكان إذا قرأ يحزن ويبكي السامعون لتلاوته ،فلقبه الناس بالمدينة زين المجتهدين) ..وكان لشدّة علاقته بالله تعالى وشوقه إليه وسعيه إلى رضاه يسعى حاجّاً إلى بيت الله الحرام مشياً على قدميه ، فقد رُوي أنّه حجّ أربع مرّات ماشياً على قدميه يرافقه أخوته وابناءه ..كان إذا وقف بين يدي الله يصلِّي أرسل ما بعينيه من دموع ، وكان كثير الاستغفار والشكر ، قال هشام بن أحمر : (كنت أسير مع أبي الحسن (الكاظم) في بعض أطراف المدينة إذ ثنى رجله على دابّته فخرّ ساجداً ، فأطال وأطال ثمّ رفع رأسه وركب دابّته . فقلت : جعلت فداك قد أطلت السجود ، فقال : إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربِّي) ….قال الشيخ المفيد : كان يبكي من خشية الله حتّى تخضلَّ لحيته بالدموع ، وهو أوصل الناس لأهله ورحمه ، يتفقّد فقراء المدينة في اللّيل فيحمل إليهم الزنبيل فيه الخضروات والدقيق والنمور ، فيوصل إليهم ذلك ولا يعلمون من أي جهة هو)… سال هارون العباسي السجانين عنه .. ماذا يقول وهو في سجنه .. قالوا نسممعه دائما يردد (اللّهمّ إنّك تعلم أنِّي كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتك، وقد فعلت فلك الحمد) .. وهذه العبارات تبين درجة العلاقة بينه وبين الله .. فهو لا يلتفت لما ال به بسبب موقفه مع الدين , ولكنه يظهر فقط عطف الله له ان هيأ له محلا للعبادة حتى لو كان في السجون .. ليس هذا فقط علاقة بينه وبين الله وانها ربما تكون مقطوعة عن الناس … الجواب لا … كانت علاقته بارحامه واهله وشيعته , ثم له علاقة حتى مع ممن يعتدي عليه ويكرهه … لهذا جعله الله بابا للحوائج لانه الواسطة التي يعطي الله للمحتاجين وليس هناك ما هو اكثر سبيلا واسرع للعطاء من موسى بن جعفر .هكذا كان خلقه مع الناس …قال عنه المفيد : ( كان أبو الحسن أعْبَد أهل زمانه وأفقههم وأسماهم كفّاً وأكرمهم نفساً ) .كان إذا بلغه عن أحد شيء يسوؤه بعث إليه بالصرّة وفيها مائتان إلى ثلاثمائة دينار ، فكان يقابل الإساءة بالإحسان ، ويغمر الناس بخلقه وكرمه ، (فكانت صرار موسى مثلاً ) يبعث للمحتاجين والغارمين مثل هذه الصرار . وكان من سيرته(ع)شراؤه للعبيد وإطلاق حرّيّتهم وفكّ قيودهم في سبيل الله تعالى،ذكر التاريخ نماذج من ذلك،حتّى كان يشتري الأسرة بكاملها ويعتقها لوجه الله تعالى.**** مدرسة الإمام (ع) العلمية :أهم ما يميز أئمتنا {ع} أنهم رغم الضغط الذي تمارسه السلطات عليهم , إلا إنهم لا يتوانون عن نشر الفكر الإسلامي ومحاربة الشبهات التي يلصقها البعض بالدين .. فكان عصر الإمام الكاظم (ع) عصراً زاخراً بالتيّارات والمذاهب الفلسفيّة والعقائديّة والاجتهادات الفقهيّة ، ومدارس التفسير والرواية ، فلقد كانت تلك الفترة من أخطر الفترات الّتي عاشها المسلمون حيث تسرّب الإلحاد والزندقة ، ونشأ الغلوّ ، وكثرت الفرق الكلاميّة الّتي حملت آراء وأفكاراً شتّى .وقد حابى بعض الفقهاء والقضاة الخلفاء والحكّام باستنباطهم الأحكام الموافقة لهم وقضائهم المتحيِّز ، فرُويت الأحاديث المدسوسة والأخبار المزيّفة ، فكانت هذه الفترة الزمنيّة فترة خطرة في وجود الإسلام العقائدي والتشريعي .وعلى الرغم من حراجة الظرف السياسي، وتضييق الحكّام على الامام موسى بن جعفر (ع) ، إلا أنّه لم يترك مسؤوليّته العلميّة ، ولم يتخلّ عن تصحيح المسار الشرعي ، فتصدّى هو وتلامذته للإلحاد والزندقة ـ كما تصدّى آباءه من قبل ـ لتثبيت أركان التوحيد، فهو من اوجد رؤية عقائدية تشعّ بروح التوحيد، كما أغنى (ع) مدرسة الفقه بحديثه وروايته وتفسيره . لقد ذكرت كتب الرجال وتراجم الرواة بالحديث أنّ أكثر من ثلاثمائة راو رووا عن الإمام موسى بن جعفر (ع) ، ويذكر التاريخ العلمي بفخر كوكبة من تلامذة الإمام كعلماء أفذاذ وعباقرة بارزين ، ويذكر للكثير منهم كتباً ومؤلّفات وموروثات علمية ثريّة .ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ**** الظرف السياسي الّذي أحاط بعصر الإمام (ع) :.. كانت تلك الفترة من حياة المجتمع الاسلامي فترة مظلمة من الناحية السياسية،انتشر فيها الإرهاب والقتل على الظن والتهمة،حتّى صار السجن والضرب والقتل لأتفه الأسباب أمراً عاديّاً. وحين يعلو الحاكم على الناس يجعل اهلها شيعا ..هذه الفترة انتشر المجون واللّهو والطّرب ، وغصّت قصور الخلفاء والوزراء والحواشي بالجواري الحِسـان ، وأدوات اللّهو وبالمغنِّين والمطربين ، وبالشعراء المتملِّقين المتعبِّدين للدرهم والدينار .اشتغل الحكّام باقتناء الجواري والمجوهرات والعطور والألبسة ووسائل اللّهو واللّذّة والتّرف وبناء القصور،فأنفقوا أموال الأمة وضيّعوها،وهي الّتي استنزفوها من شرايين الكادحين أو اغتصبوها وصادروها من المظلومين والمطاردين والمحكوم عليهم بالسجن والقتل .. واول من طاردهم العباسيون ذرّيِّة الامام عليّ بن أبي طالب (ع) وأتباعهم لمعارضتهم الظلم ومواجهتهم للانحراف ، وتتبّعوهم في كل ناحية ومصر ، وجنّدوا الأموال والأعوان من أجل استئصال أتباعه والقضاء على طلائعهم وقياداتهم خوفاً من ثوراتهم وسموّ مكانتهم في نفوس الخاصّة والعامّة من أبناء الأمة .ورغم أنّ ظروف الامام الكاظم (ع) السياسية كانت صعبة للغاية والحصار والتضييق عليه كان أشدّ من الحصار والتضييق المضروب حول أبيه الصادق (ع)، وعلى الرغم من مراقبته وحبسه في السجون والمعتقلات، إلا أنّه لم يترك دوره ومسؤوليّته ، فقد ربّى جيلاً من العلماء والرواة والمحدِّثين ، وساهم مساهمة فعّالة في إيقاف الانحراف الّذي حملته بعض تيّارات الفلسفة والعقائد وعلم الكلام المتأثِّرة بالغزو الفكري ، فقد روى المؤرِّخون أنّ بعض العلماء وبعض أصحابه وتلامذته كان يتصل به سرّاً في السجن ، ويسأله عن المسائل والقضايا والأحكام فكان يراسلهم ويجيبهم . إنّ حياة الإمام (ع) تمثِّل مرحلة سـياسية وتاريخيّة بارزة في تاريخ الإسلام، وقد تحمّل الإمام الكاظم (ع) مسؤوليّة الإمامة من سنة 148 هـ وحتّى سنة 183 هـ ، وقد شملت فترة من حياة المنصور وحياة المهدي والهادي والرشيد ، وهي أبرز فترات الحكم العبّاسي المنحرف . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالإمام (ع) وأبو جعفر المنصور : في عهد أبي جعفر المنصور عانى أتباع الإمام أشدّ المعاناة ولحقهم الظلم والقتل والإرهاب .كان المنصور قد صادر أموال أتباع اهل البيت {ع} وأدخلهم السجون والمعتقلات، وطاردهم وسفك دمـاءهم وبالغَ في تعـذيبهم ، وتفنّن في أساليب القتل ، فكان يبني عليهم الاُسطوانات وهم أحياء ، ويمنع عنهم الطعام والشراب فيقتلهم جوعاً في أعماق سجونه المظلمة ، أو يثقلهم بالضرب والحديد حتّى ينهكهم فيموتوا . كانت فترة صعبة جدا على أهل البيت{ع} وشيعتهم .وهو من اصدر امرا بقتل الامام بعد الصادق مباشرة بعد موت الامام الصادق ليقضي على امتداد الامامة …**** الإمام (ع) ومحمّد المهدي :ـــــــــــ بعد المنصور أحسّ ابنه المهدي بالسياسة المجحفة الظالمة الّتي انتهجها أبوه ، فحاول أن يخفِّف عن كاهل الرعيّة في مطلع حكمه ، فأطلق سراح السجناء وردّ الأموال المصادرة إلى أهلها ، وشمل هذا القرار الطالبيين ـ آل أبي طالب ـ ، فأخرجهم من السجون وردّ أموالهم ، وكان من جملة مَنْ شملهم هذا القرار الإمام الكاظم (ع) ، إذ رُدّت إليه الأموال المصادَرَة وهي من أبيه الإمام الصادق (ع) . إلا أنّ المهدي لم يدعه هاجس الخوف من شخصية الإمام موسى بن جعفر (ع) وقوّة تأثيره، فطلب من واليه على المدينة أن يُرسل إليه الإمام (ع) .وصل الإمام الكاظم (ع) بغداد ، فأمر المهدي بزجّه في السجن ، ولكن حدثت كرامة غيبية للإمام الكاظم دعت المهدي إلى التراجع وإطلاق سراحه .. فقد رأى المهدي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في المنام وهو يقول: «يا محمّد !{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } ففزع المهـدي وقام من نومه، فاستدعى حاجبه الربيع وأمره بإطلاق سراح الإمام … وعاد الإمام إلى مدينة جدّه رسول الله (ص) .***** الإمام (ع) وموسى الهادي : استمرّ هذا الحاكم على سياسة آبائه في كراهية أتباع الإمام ومحاربتهم والتضييق عليهم،ممّا اضطرّ أتباع الإمام إلى إعلان الثورة عليه بقيادة الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب،صاحب واقعة فخ سنة (169هـ)،وقد عمد العبّاسيون إلى قتل الثوّار،وأمر الهادي بقتل الأسرى،فقتلوهم،ثمّ قاموا بالتمثيل بالقتلى وهدم الدور وحرق المزارع. ولعلّ هذه الثورة هي من أبرز ثورات أهل البيت وأكثرها لوعة وفجيعة بعد ثورة كربلاء الّتي قادها واستشهد فيها الإمام السبط الحسين (ع) . وبعد إنهاء الثورة ، راح الهادي يتوعّد الإمام الكاظم (ع) ، فقرّر اعتقاله لكن الله تعالى عجّل بنهايته إذ مات الخليفة العبّاسي قبل أن ينفِّذ أمره وخلفه أخوه هارون الرشيد.****** الإمام (ع) وهارون العباسي :عاش الإمام موسى بن جعفر (ع) هذه الفترة من حكم بني العبّاس كما عاشها الآخرون من ذرِّيّة أهل البيت وأتباعهم , فقد قطع العباسيون أي صلة تربطهم برسول الله {ص} وذريته … ويبدو ان الحاكم لو طغى واستكبر فان اول ما ينتقم منهم هم ابناء عقيدته خاصة ممن يعرفهم يحملون الإسلام الحق … يصبحون أعداءَ له يحاول الانتقام منهم ..هكذا عاش أتباع أهل البيت {ع} وبقية الأمة تحت وطأة الظلم والإرهاب والسجون والقتل والتشريد .**** روى المؤرِّخون نماذج وصوراً مأساوية للسجون والقتل والمطاردة للعلويين وأتباعهم ، وخصوصاً الإمام موسى الكاظم (ص) وتلامذته وحَمَلَة علومه . ففي سنة (179 هـ ) حجّ الرشيد وبدأ بالمدينة المنوّرة ، فأمر باعتقال الإمام الكاظم (ع) ، فاعتُقِلَ وأرسل إلى البصرة عند واليها عيسى بن جعفر المنصور ، وبقي في السجن سنة ، ثمّ أرسل الإمام (ع) إلى بغداد ، حيث حُبِسَ عند الفضل بن الربيع ، وبقي عنده مدّة طويلة ، ثمّ حُبِسَ عند السندي بن شاهك .هنا لا بد من معرفة الظروف الّتي عانتها الأمة وطليعتها المجاهدة من حكم الرشيد بصورة عامّة وما لاقاه الإمام الكاظم (ع) بصورة خاصّة ، لا بدّ لنا من تقصِّي وثائق التاريخ لتروي بنفسها حجم المعاناة وعظيم المحنة وفداحة الظلم . فمثلاً سجّل التاريخ أنّ الفضل بن يحيى البرمكي الّذي كان من أخلص المقرّبين من الرشيد يُجرَّد من ثيابه ويُضرَب ويُهان ويُلْعَن في مجلس عام بطلب من الرشيد لأنه رفّه عن الإمام الكاظم وخفّف عنه آلام السجن … وينقل التاريخ صورة أخرى عندما قدم يحيى بن خالد البرمكي إلى بغداد لتدبير عملية اغتيال الإمام الكاظم ، استولى الذعر والخوف على الناس واضطربوا (فهاج الناس وأرجفوا بكل شيء)…..كما ينقل التاريخ اعترافات حميد بن قحطبة الّذي كلّفه هارون الرشيد ليقوم بمجزرة كبيرة في السجناء لأتباع الإمام …. الأسباب التي دفعت بهارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام)؟هناك أسباب تراكمت خلال اللقاءات والمواقف بين السلطة وبين الامام الكاظم {ع} ….. 1ـ احتجاج الإمام (عليه السلام) من الأسباب التي حفّزت هارون العباسي لاعتقال الإمام موسى الكاظم (ع) وزجّه في غياهب السجون، احتجاجه عليه بأنه أولى بالنبي (ص) من جميع المسلمين، فهو أحد أسباطه ووريثه، هذا يعني أنه أحق بالخلافة من غيره، وقد جرى احتجاجه معه عند قبر النبي (ص) وذلك عندما زاره هارون وقد احتفّ به الوجوه وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة، أقبل بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي (ص) قائلاً: (السلام عليك ابن العم).وبذلك بدا الاعتزاز والافتخار لهارون على غيره برحمه الماسة من النبي (ص) وإنه نال الخلافة لهذا السبب، قربه من الرسول هنا ضيع عليه الإمام نشوة الانتصار المعنوي .. تقدم الإمام الكاظم (ع) أمام الجمهور وسلّم على النبي (ص) قائلاً: (السلام عليك يا أبتِ). عندها استولت على الرشيد موجات من الاستياء والغضب ,, وكاد يفقد صوابه لأن الإمام سبقه إلى ذلك المجد، فاندفع قائلاً بصوت مشحون بالغضب: (ثم قلت إنك أقرب إلى الرسول (ص) منّا؟!). فأجابه الإمام (ع) بهدوء كعادته وبجواب مفحم لم يتمكن الرشيد من الرد عليه. (لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون: سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.فانبرى الإمام وبيّن له الوجه الصحيح في قربه من النبي (ص) دونه قائلاً: (لكنه لا يخطب منّي ولا أزوجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم) وتابع (ع) مدعماً رأيه ببرهان آخر فقال لهارون: (هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات؟؟) فقال هارون: لا. فقال الإمام (ع ): لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، وهذا يعني أننا اقرب إليه منكم. وبذلك يكون الإمام قد سدّ أمامه كل منافذ الدفاع بحججه الدامغة وألبسه ثوب الفشل، وبيّن بطلان ما ذهب إليه، فهو أحق منه بالخلافة لأنه سبطه ووارثه.عندها اندفع هارون حانقاً وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن (1) ثم سأله الرشيد قبل دخوله السجن: لمَ فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة بنو عبد المطلب، ونحن وأنتم واحد، إنا بنو العباس، وأنتم ولد أبي طالب وهما عمّا رسول الله (ص) وقرابتهما منه سواء؟فقال (ع): نحن أقرب إليه منكم، قال هارون: وكيف ذلك؟ فقال : لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله، ولا من أم أبي طالب. فنحن اقرب من جهة الأمهات جداتنا …قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (ص) والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله (ص) وقد توفى أبو طالب قبله. والعباس عمه حيّ؟ فقال (ع): أرى أن يعفيني أمير المؤمنين , عن هذه المسألة يسألني عن كل باب سواه يريد. قال: لا، أو تجيب. فقال (ع): فآمنّي. قال: آمنتك قبل الكلام.فقال (ع): إن في قول علي بن أبي طالب (ع): إنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين، والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة، إلا إن { تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله (ص) ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دارج يقول في هذه المسألة بقول علي، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين: الكوفة والبصرة، وقضى به.فأمر هارون الظالم بإحضار من يقول خلاف قوله. منهم: سفيان الثوري وإبراهيم المازني، والفضيل بن عياض، فشهدوا جميعهم أنه قول علي (ع) في هذه المسألة. فقال لهم: لما لا تفتون وقد قضى نوح بن دارج؟ فقالوا: جسراً وجبنا،ً يعني جسارة وخوف .. جسارة على الله وخوف من الحاكم …قد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن علي أقضانا، وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي (ص) أصحابه من القرابة، والفرائض، والعلم، داخل في القضاء. قال هارون: زدني يا موسى.فقال (عليه السلام): المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك. فقال هارون: لا بأس.فقال (عليه السلام): النبي (ص) لم يورث من لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر. وعمّي العباس لم يهاجر .ثم تلا قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} .. عندها خرج هارون من المجلس غاضبا … 2ـ تعيينه لفدك :… قضية فدك تعني استمرار الولاية ولا تعني المال والنخيل والارض :.. وهذا سبب آخر أغاظ نفس هارون على الإمام (ع) ودعاه إلى اعتقاله، والتخلص منه، تعيينه لفدك بأنها تشمل أكثر المناطق الإسلامية وذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه فلم يرضَ (ع) إلا أن يأخذها بحدودها، فقال هارون : ـ ما هذه الحدود؟ فقال (ع): إن حددتها لم تردها لنا. فأصرّ الرشيد عليه أن يبينها له قائلاً: بحق جدك إلا فعلت… عند ذلك لم يجد الإمام بداً من إجابته، فقال له: (أما الحد الأول): فعدن. فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه.والحدّ الثاني: (سمرقند). فأربد وجه الحاكم الظالم واستولت عليه موجة من الغضب، لكن الإمام (عليه السلام) بقي مستمراً دون أن يأبه له. والحد الثالث: (إفريقيا). فاسودّ وجه الرشيد وقال بصوت يقطر غيظاً (هيه) ثم عيّن الإمام (عليه السلام) الحد الرابع والأخير قائلاً: والحد الرابع: (سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية). فثار الرشيد ولم يملك أعصابه دون أن قال:ـ لم يبق لنا شيء!! ـ فقال الإمام (عليه السلام): (قد علمت أنك لا تردّها).وتركه الإمام (ع) والكمد يحزّ في نفسه، فأضمر له الشر منتظراً الوقت المناسب للتنكيل به … هذا الحوار بين الإمام (ع) لهارون أن العالم الإسلامي بجميع أقاليمه من عدن إلى سيف البحر ترجع سلطته له، وإن الرشيد من سبقه من الخلفاء قبله قد استأثروا وغصبوا الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام)….***** فلم يتمالك هارون وهو يسمع الحد الرابع، إلا أن قام والغضب يعلو وجهه، وقد فهم مقصود الإمام، فقال له: لم يبق شيء،! فأجابه الامام بلهجة المنتصر: لقد أعلمتك بأني إن حددتها لم تردها.أول ما يُلاحظ من هذه المحاورة بين خليفة عباسي وإمام من أئمة أهل البيت {ع} ، هو البون الشاسع والنظرة المتناقضة لمفهوم الخلافة عند الجانبين، فهذا المفهوم عند العباسيين، لم يختلف من خليفة الى آخر، إلّا باختلاف وتعدد الوسائل القمعية والوحشية ، فمفهوم الخلافة عند العباسيين يعني السلطة والتجبّر والقتل والتشريد والاستيلاء على مقاليد الحكم بشتى الوسائل، ورفع شعار “الملك عقيم”، لذا لم تقتصر جرائم العباسيين على أهل البيت{ع} ، وشيعتهم وإن كان النصيب الأوفر ارتكبت بحقهم، بل طالت جميع المسلمين، بل وحتى من يتخوفون منه من العباسيين أنفسهم.ـــــــ وقولنا إن العباسيين يخافون من حكامهم .. لان الحاكم حين يتطير بجنون الكرسي والبقاء فيه يقوم بقتل حتى أبناءه .. وهذا المنهج الذي أثار خوف العباسيين يقول الخوارزمي عن المنصور : “انه قتل ابن أخيه وعمه عبد الله بن علي ابن عباس جدهم الأكبر .. وقتل آبا مسلم الخراساني مؤسس دولتهم”، و روى الصدوق ان هارون العباسي قال لإبنه المأمون : “والله لو نازعتني هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك، فإن الملك عقيم”، لذا نجد المأمون قد استثمر هذه المقولة التي تناهت تماماً مع نزعته الدموية، فلم يتورع عن قتل أخيه الأمين، ولو كان الامين هو المنتصر لفعل ما فعل أخوه.. هذا هو مفهوم الخلافة عند بني العباس، الوصول الى السلطة بشتى الوسائل وحكم الناس بالقهر والجور والاستبداد وهتك الحرمات.**** من قصص هارون :… لذلك كان يخرج ليلا متنكراً بغير زيّه ليسمع أحاديث العامة،ويقف على رغبتهم واتجاههم، وهذه تعتبر نزعة في طياتها كثير من الانتقام , فكان يسمع الذكر الطيب والثناء الجميل للإمام موسى بن جعفر {ع} والحب الجامح لأهل البيت {ع} فكانت ردود فعله تثير الخوف عند العامة … لأنه علم إن كل الناس يحبونه، ويرغبون في أن يتولّى شؤونهم، فلذلك أقدم على ارتكاب فعلته الشنعاء , حتى انتهى به الأمر إلى قتل الإمام (ع) ….ما هو سبب بغضه للعلويين ….؟ورث هارون الرشيد بغضه للعلويين عن آبائه الذين نكّلوا بهم، وصبّوا عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد والقتل والتشريد. فمنهم من ساقوهم إلى السجون، ومنهم إلى القبور. طاردوهم في كل ناحية حتى هربوا هائمين على وجوههم يلاحقهم الخوف والفزع والرعب.ترى ما هو السبب ..؟.هناك بيتان تابعان لبني هاشم مغموران تماما اجتماعيا وتاريخيا … الاول بيت عقيل بن ابي طالب {ع} ولم يبرز من هذا البيت سوى مسلم بن عقيل {ع} كونه سفيرا للحسين {ع}.. والبيت الثاني بيت العباس عم النبي {ص} فهو بيت لم يظهر فيه سوى عمه العباس الذي اسلم متاخرا ولم يهاجر مع النبي والمسلمين .. ولا يمتلك الشجاعة التي يمتلكها الحمزة وعلي {ع} .. لذلك كان هذا البيت يعيش العقدة النفسية بالشرف من بيت علي بن ابي طالب {ع} الذي جمع أبناءه الشرف كله … علما وشجاعة وفهما وموقفا وسيرةً حسنة , فكانوا يشعرون بعقدة النقص .. إلى يومنا هذا باقية …وهارون أترعت نفسه ببغض العلويين فزاد على أسلافه جوراً وظلماً وإرهاباً حتى أشاع الحزن والثكل والحداد في كل بيت من بيوتهم. استعمل جميع إمكانياته للبطش بهم، ففرض عليهم الإقامة الجبرية في بغداد، وجعلهم تحت المراقبة الدقيقة، ولم يسمح للاتصال بهم، وحرمهم من جميع حقوقهم الاجتماعية. حتى أنه دفن البعض منهم أحياء. وطبيعي لا يترك عميد العلويين الإمام الكاظم (ع) في راحة واطمئنان، ولم يرق له محبة الجماهير للإمام، فنكّل به ودفعه لؤمه وعداؤه الموروث إلى سجنه وحرمان الأمة الإسلامية من الاستفادة بعلومه، ومن سموّ نصائحه وصواب توجيهاته.***** حفلة الإعدام الجماعية :… يروي حميد بن قحطبة كيف أنّه تناول السيف وذهب إلى بيت مُغلَق في وسطه بئر ، وفي البيت ثلاثة بيوت ـ زنزانات مغلقة ـ فلمّا دخل فتح له خادم هارون الرشيد أحد البيوت فإذا فيه عشرون علوياً من ذرِّيّة عليّ بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله (ص) وهم شباب وشيوخ وكهول مقيّدون بالسلاسل ، فطلب منه الخادم قتلهم وإلقاءهم في البئر ، ففعل ، وهكذا في البيت الثاني والثالث حتّى قتل ستّين علويّاً … اخر من قتله شيخ كبير قال له : هل هيأت جوابا لجدنا رسول الله {ص} لو سالك لماذا قتلت اولادي ..؟ رمى السيف من يده اولا ثم بادره فربه وقتله ..وقد رُوي أن رجل اسمه محمّد بن أبي عمير الازدي من أصحاب الكاظم (ع) حُبِسَ في سجن هارون سبع عشرة سنة، وكان من أوثق الناس وأنسكهم وأعبدهم ، وقد عُذِّب عذاباً شديداً ،روى الكشِّي أنّه ضُرِبَ مائة وعشرين خشبة ولم يُفرَج عنه حتّى أدّى من ماله واحداً وعشرين ألف درهم . كما رُوي أنّه ( كان من أصحابه جماعة منهم عليّ بن هاشم بن البريد وعبد الله بن علقمة ومخول بن إبراهيم حبسهم هارون في المطبق ـ أحد سجون الرشيد ـ اثنتي عشرة سنة ) هذه صور قليلة ممّا وصلنا ، فيما طَوى التاريخ آلاف الصور الأخرى المؤلمة …..**** كيف كان الإمام (ع) يقضي أيّام سجنه ؟ اتّخذ الإمام من السجن مسجداً ، ومن وحشة الحبس ووحدته معتكفاً ومأنساً بذكر الله وقربه سبحانه ، فنهاره صيام وليله مناجاة وقيام . روى أحد الّذين كُلِّفوا بمراقبة الامام (ع) في سجن عيسى بن جعفر في البصرة ، أنّه سمع الامام يقول : ( أللّهمّ إنّك تعلم أنّي كنتُ أسألك أن تفرغني لعبادتك ، وقد فعلتَ ذلك فلكَ الحمد ) . وجاء أيضاً أنّ الرشيد أمر بتسليم موسى الكاظم إلى الفضل بن يحيى (فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرّصد ، فكان مشغولاً بالعبادة يُحيي اللّيل كلّه : صلاة وقراءة للقرآن ، ويصوم النهار في أكثر الايّام ولا يصرف وجهه عن المحراب) كان هارون ينقل الامام (ع) من سجن إلى سجن ، لعلّه يخفي شخص الإمام ، ويقتل روح المقاومة عنده او عند شيعته , ويغيِّبه عن الاذهان .وحاول الرشيد استضعاف الإمام ، فأرسل إليه مَنْ يتوسّط إليه ليظهر الاعتذار للرشيد ويسأله العفو ، فيطلق سراحه ، ولكن الإمام رفض ذلك بشدّة وكان جوابه للرشيد : (وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه والسلام) … هكذا حطّم الإمام (ع) بصبره وثقته بالله سبحانه كلّ وسائل الجور والإرهاب من السجن والضغط والقيود والتزييف وتضليل الرأي العام ، ولمّا نفدت كل وسائل الرشيد ، لجأ إلى الحل الأخير وهو اغتيال الإمام وإنهاء حياته الشريفة .****** الإمام (ع) ومراحل قتله وشهادته :.. جهد هارون في أن يتخلّص من الإمام موسى بن جعفر (ع) بشتّى الوسائل ، فقد رفض عيسى بن جعفر والي البصرة قتل الإمام ، واستعفى الرشيد من ذلك ، وطلب نقله من سجنه ، فنقله إلى سجن الفضل بن الربيع ، فأثّرت شخصية الإمام (ع) في نفسه ، ورفض قتل الإمام ، فلم يجد الرشيد بُدّاً من نقله إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه الفضل بن يحيى ، وطلب منه الرشيد أن ينفِّذ في الإمام (ع) جريمة القتل ، فرفض .{ كثرة الرفض في الأجهزة الأمنية للدولة العباسية في اغتيال الإمام الكاظم {ع} دليل إنهم غير قانعين بسياسة الخليفة , يعني الخليفة يحكم بالرأي والحب والكره ولا دليل يقنع به الناس قتل الإمام المجاهد موسى بن جعفر .. عندها لم يجد الرشيد في أنصاره وحاشيته أفضل من مدير شرطته في بغداد ، السندي بن شاهك ، وكان فظّاً غليظاً قاسياً ، حيث وضع الإمام (ع) في سجنه وعامله معاملة خشنة قاسية وأرهقه بالسلاسل والقيود .كان هارون في الرقة متوجّهاً إلى الشام ، عندما تشاور مع يحيى بن خالد في قتل الإمام الكاظم (ع) ، فتوجّه يحيى إلى بغداد ، يخطِّط لارتكاب الجريمة ، وما أن وصل بغداد حتّى اجتمع بالسندي بن شاهك وقدّم له صورة المخطّط وكيفيّة التنفيذ، فأجاب متقبِّلاً طائعاً، ودسّ السمّ في رطب قُدِّم للإمام (ع) . هذه الرواية واضحة تبين خروج اللعين هارون العباسي من بغداد يوم تنفيذ عملية الاعدام قتلا بالرطب المسموم , حتى يخفي الجريمة من التاريخ وان لا تتعلق برقبته .. فتناول الامام الطعام، وأحسّ بالسمّ يسري في جسده الطاهر، وراح يُقـاوِم آثار السمّ ثلاثة أيّام ، فلم يستطع مغالبـة المنيّة ، فلفظ أنفاسـه الآخيرة ، وفاضت روحه الطاهرة في اليوم الثالث من سمه في سجن السندي بن شاهك ففاز بالشهادة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة للهجرة ، ورحل (ع) من سجنه مجداً شامخاً لا يدانيه أحد . قضى مظلوماً شهيداً فيما توحّل قاتلوه في عار الغدر والجريمة .لقد حاول الجناة تغطية جريمتهم ، وإخماد صوت الرأي العام الّذي راح يهزّ بغداد ، فعمدوا إلى جمع الشهادات من ذا وذاك بأنّ الإمام مات حتف أنفه ولم يقتله أحد . وهذه الطريقة يتبعها المجرمون المحترفون في القتل لاخفاء اثار الجريمة ..ومع أنّ الامام قد قُتِلَ ورَحَلَ إلى ربّه ، إلاّ أنّ الأحقاد لم تطفأ والنفوس المريضة لم تشفَ ، لذا فقد عمدوا إلى ترك الإمام ثلاثة أيّام مسجّىً في السجن ثمّ وُضِعَ على جسر الكرخ ببغداد يُنادى على جنازته : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه …وهاجت الناس وعمّ بغداد الصخب والضجيج ، وقد أخذ شرطة الرشيد الجنازة إلى الجانب الثاني من بغداد ، فهجم الناس عليهم وأخذوها منهم ، وسارت الجموع خلف الجنازة في موكب حزين تخيِّم عليه الآلام والمصائب لهذا الفقد العظيم ، وسار الموكب حتّى انتهى إلى مقابر قريش ـ بالكاظمية ـ حيث اُرقد الإمام ووُري جثمانه الطاهر هناك . فسلامٌ عليه يوم وُلِدَ ، ويوم قَضى شهيداً في ظلمات السّجون ، ويوم يُبْعَثُ شاهداً بين يدي ربِّ العالمين .****كانت الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً للإمام عليه السلام حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل فكان عليه السلام يجيبهم عنها، وممن كان يتردد عليه في سنه علي بن سويد،,, هو الوسيط بين الإمام وشيعته ومحبيه … فكان الناس ينتظرون الخبر منه لمعرفة أخبار إمامهم .. ولكن اخباره دائما غير سارة …اخبرهم يوما انه سمعه يقول :” الهي يا مخلص الجنين من بين مشيمة ورحم خلصني من سجن هارون ” الهي يا مخلص الشجر من بين رمل وطين خلصني من سجن هارون .. كان علي بن سويد يرى الأغلال بيديه وهو في الطاموره .. وآخر مرة رآه مكسور الساق وقد لف ساقه بخرقة …فسأله : سيدي أما ان لسجنك آن ينقضي …؟ فأجابه الإمام ردا أن يخبر الشيعة كلهم .. قل لشيعتي أن ينتظروني بعد ثلاثة أيام على جسر بغداد . فتجمع الناس مقابل السجن … خرج اربعة من الحمالين يحملون جنازة الإمام موسى بن جعفر …
الحمد لله رب العالمين