19 ديسمبر، 2024 11:30 م

مجلس القضاء الاعلى وسنة العراق قراءة لغياب فن ادارة الازمة – قضية العيساوي نموذجا

مجلس القضاء الاعلى وسنة العراق قراءة لغياب فن ادارة الازمة – قضية العيساوي نموذجا

قصة اعتقال حماية  وزير المالية العراقي الدكتور رافع العيساوي  وما رافقها من خطأ اجرائي ليس بسيطا في طريقة تنفيذ الدهم وما تلاها من تداعيات ابتدأت من لحظة المؤتمر الذي عقدته القائمة العراقية وظهر فيه الوزير العيساوي على عكس مظهره الهادئ الجميل منذ لحظة دخوله الكبير للعملية السياسية وحتى الان لم تعد خافية على احد ، لكن دعوني اغوص في مسألتين  غاية في الاهمية  استنبطتهما من مراقبتي لهذه الازمة بعقلية الباحث والقانوني والتي عادت علي وبحمد الله من سخط طرفي الازمة ، وهما قدرة وطريقة  سنة العراق على ادارة الازمات ، وطريقة تعاطي مجلس القضاء الاعلى والقضاء العراقي عموما مع الازمات او القضايا الجنائية التي يصر اطراف العملية السياسية على جنبتها السياسية .

      سأبدأ من المسألة الثانية وهي طريقة تعاطي  مجلس القضاء الاعلى  مع هذه الازمة ومع ما مر على شاكلتها وما قد يمر من ازمات ، فعلى المستوى الشخصي ارى ابدا ان ثمّة  حساسية مبالغ فيه من قبله كمجلس وكرئيس وكقضاة  لمبدأ استقلالية القضاء حتى كأنه صار يفترض ان السلطات الاخرى الموازية له  في حالة حجر صحي  بعوارض فايروسية  قاتلة لا يجوز التواصل معها ابدا لان من شأن ان ذلك ان يصيب استقلاليته   بالعدوى المهلكة ويهدرها تماما ، وهو امر ليس لصالح المجلس كرأس لأحد السلطات الثلاث التي تقوم عليها الدولة  ولا لمبدأ استقلال القضاء ،ولعل هذا الموقف هو ما جعل القضاء محط اتهام القوى السياسية   كلما اختلفت فيما بينها حتى عندما لا يكون طرفا او بالأحرى حكما في هذا الخلاف  ،  وهي حساسية جعلت القضاء يبتعد كثيرا عن  تداعيات الواقع وبقية ابعاد الصورة العراقية  بكل تفاصيلها  في الوقت الذي يفترض ان يكون هو الاقرب لكل ذلك  بل والأقرب لفك تداعيات اشكاليات الصدام السياسي على كافة مستوياتها  وعلى  كافة درجات القضاء والتقاضي ايضا وليس على مستوى المحكمة الاتحادية وحسب ، سيما في هذا الظرف  العراقي المأزوم اصلا  والمدفوع للتأزم  وبأكثر المراحل حرجا في تأريخ البلاد حين لا تحاول قوى داخلية وخارجية كثيرة نسف الاستقرار الهش وحسب وإنما نسف البلاد نسفا وإلا يبقى فيها حجر على حجر .

       كل ذلك ترافق مع قناعة غير مبررة بالمرة وجدتها لدى طرف الازمة او الازمات من جهة القائمة العراقية من لحظة صدور قرار المحكمة الاتحادية المفسر لآلية تشكيل الحكومة بولياتها هذه وهي ان القضاء العراقي  برمته مسيس  وموضوع كلية في احد ادراج مكتب رئيس الحكومة نوري المالكي ، وهو لأمر غاية في الغرابة خاصة عندما  لا تجده عند النواب الجدد في القائمة وإنما عند كل قادتها الكبار ممن وطأت اقدامهم ارض سياسية العراق الوعرة منذ لحظاتها الاولى في عراق ما بعد صدام حسين ، وإصرارهم على تمرير هذه القناعة لشارعهم بكل مستوياته دون مراعاة خطورة ذلك على مسار بناء الدولة  والتعايش السلمي بين مواطنيها. .
       قدر تعلق الامر برئيس الحكومة ، رد منذ اليوم الاول باتخاذ ما يلزم ضد القوة المداهمة ، وبادر  انطلاقا من مسؤوليته المباشرة عن الوزير والوزارة  والقوات المسلحة ايضا بالاتصال  بوزيره الذي مست كرامته ومنصبه تلك الاجراءات بالرغم من الظهور القاسي للوزير في مؤتمره الصحفي وإدانته المؤسسة بشكل كان يفترض انه لا يصدر من شخص الوزير الهادئ الذي لم نسمع منه  ابدا مثل هذه النبرة في الخطاب من قبل  ، وكان كل ذلك كفيلا ليبدأ رجلا الدولة الرئيس والمرؤوس مرحلة  جديدة باتخاذ ما يلزم لإزالة اللبس الذي تسببت به هذه الاجراءات وإسقاط الجنبة السياسية عن الموضوع  والتعاون قدر تعلق الامر بهم ليفسحا المجال للقضاء المستقل ان يباشر تحقيقاته بأعلى درجات الشفافية والموضوعية  ، لكن ذلك ما لم يحدث للأسف  وليس رئيس الحكومة وحده المسئول وإنما قوى دفع  داخلية وخارجية كثيرة لا يغيب عنها  صراع الاستقطاب داخل زعماء القائمة العراقية السنة من الذين كانوا يدفعون الوزير للمزيد من التصعيد الذي ظهرت اهم  تجلياته في الزيارة غير الموفقة من قبل الوزير لمتظاهري الطريق السريع في الانبار ووقوفه تحت رايات النظام السابق وعدم ادانته قطع اهم شرايين العراق البرية  في صباح كانت احياء بغداد وخاصة المناطق ذات الغالبية الشيعية الفقيرة  تغرق بمياه امطار لم تهطل  بمثل هذه الغزارة على العراق منذ ثلاثين عاما ، كانت كفيلة  بحالها ان تولد ضغطا شارعيا على الحكومة بدل ان توحد قوى التحالف الوطني بكل قواه  في ادانة وقفة الوزير ونواب القائمة العراقية تحت تلك الراية .

   كان من الممكن  بسهولة ان تكون اجراءات رئيس الحكومة بحق التجاوز الذي اقترفته القوة المداهمة  على مقر الوزارة ومنزل الوزير  اكثر ردعا لو تواصلت القائمة العراقية او بعض اطرافها مع الرئيس  بدل من انتهاج خط التصعيد  معه وتجاوز بروتوكولات تعامل المرؤوس مع الرئيس  ليس في مستواها العادي وإنما بمستوى وزير مع رئيس وزراء ، وفي مرحلة كانت تستدعي تداعيات الوضع الداخلي المأزوم والوضع الاقليمي المتأزم الذي يبحث عن ثقب صغير ليلقي بحمم جحيمه المستعرة الى داخل حدود البلاد الذي جعله الخلاف السياسي بين كل الاطراف اكثر هشاشة مما علينا ان نتصور ، رغم اننا نعرف ان جرعة المناعة التي تركتها احداث العنف الاهلي جعلت المجتمع اكثر تماسكا مما كان في اي مرحلة من مراحل عمره عبر التأريخ ، برغم من مشهد الاحتقان المزمن بين الزعماء الذين انتجهم هذا المجتمع .

  وعودا الى مجلس القضاء الاعلى رئيسا وقضاة تحقيق مع كل احترامي وتبجيلي له ولهم  ، فهم لا يزالون  يعطون مجالا للازمة ان تلقي بالمزيد من الضلال القاتمة على الوضع العراقي الحرج ما لم يتأنوا اكثر في اجراءاتهم ولو بجعلها تبلغ حد الكمال مراعاة لما يطلبه  العيساوي ومحامو دفاع  حمايته واهله وعشرته الاقربون وبقية وفريقه الذي ابى الا يصدق بغير حقيقة ان القضاء بكليته في درج مكتب الرئيس المالكي وهو ما علي تكرراه كثيرا ، وعدم اثارة شكوكهم في معارك دفاعهم الشرسة ، لئلا تتكرر شكوك السنة في اجراءات تقاضي حماية الهاشمي ، ولكي يكون هؤلاء  المحامون ومن وراؤهم هموا  محامو الدفاع عن سمعة القضاء العراقي  الذي علينا ان  نعترف انه ومع كل هذا الضغط الهائل عليه من قوى السياسة والسلاح  الخارج عن القانون  وزخم القضايا التحقيقية وخاصة في حوادث الارهاب ما لا اعتقد انها تكررت على قضاء اخر ، ما يزال يحتل سمعة مرموقة لدى السواد الاعظم من العراقيين والمراقبين العارفين بحقيقة الامور منهم ، ويكفي ان هذا القضاء قدم مالم يقدم قضاء اخر من قوافل شهداء قد تجعله يحتل الرقم الثاني في حجم الاستهداف بعد قوات الامن التي كانت ولا تزال تزف قوافل الشهداء في معركة انقاذ الوطن من براثن قوى الارهاب الاسود ، والاهم من كل ذلك سمعة الدولة امام رعاياها الذين لا نستطيع ان ننكر انهم لم يكفوا عن اتهامها بما لا يتهمها به اعداؤها من انتهاكات .

 كان لمجلس القضاء ان يكون العامل الاهم في تفكيك هذه الازمة ونزع فتيلها منذ اليوم الاول ولحد هذه الساعة لو انه امر بتغيير مكان احتجاز المتهمين الذين يتمسك طرف الوزير العيساوي انهم  بموجبه تحت  تحت ضغط نفسي او جسدي  يجعلهم  عرضة لانتزاع اعترافات غير حقيقية منهم ، او تلقينهم (اصول اخبار) لمئات ومئات من جرائم الارهاب التي ارتكبها تنظيم القاعدة وأعلن رسميا عنها ، او غيرها من الحوادث المجهولة وما اكثرها وما اكثر مقترفيها وبعضها  قطعا وكما نعرف ترتكب بأدوات وتسهيلات ادوات الدولة الرسمية .

   وكان على  المجلس ليس مجبرا فلا سلطان لغير القانون عليه  ولكن في مقاربة سياسية تستدعيها اللحظة الراهنة  قطعا للطريق لأي استغلال لهذه الازمة لتصعيد الوضع لحد الانفجار ، كان عليه الايعاز للجنة القضائية  الثلاثية التي شكلها من تلقاء نفسه في محاولة استباقية غير موفقة لاسترضاء طرفي الازمة ، ان تتعمق كثيرا في التحقيق معهم وان  تتأنى كثيرا في اعادة تدوين اقولهم وتدقيق اعترافات من اعترف منهم ، طالما ان فريق محامي الدفاع  يقول ان هذا الاقوال  او ما تم منها للان  تمت بتعجل ايضا مثل سابقتها  ودون التعمق في التحقيق وبما يجعله نسخة من الاعترافات الاولى ، وهذا بزعمي ما تتطلبه طبيعة هذه القضية  وما يكتنفها من تداعيات ليس القضاء معنيا بها بشكل مباشر وبدوره التجريدي كقضاء وإنما لأن القضاء العراقي  جزءا لا يتجزأ من وضع البلد الذي يهمنا كثيرا  ويهم القضاء قبلنا كحارس امين على العدالة  وضامن لتبقى خلافات اهل البلد في الحدود السياسية المسموح بها والقضائية التي يجب الا يرقى اليها الشك من احد ، ورحم الله قضاءً جب الغيبة عن نفسه .

      لطالما طرحت نفس السؤال الذي املك اجابته مسبقا وهو ما اذا كانت القائمة العراقية بشكلها الاول او بتصدعاتها اللاحقة  وتحديدا الزعماء السنة ممن لهم امتداد طائفي او قبلي في الشارع السني يمتلكون  فن او قدرة  ادارة الازمة  ام لا ؟  وسوف اجيب بالنفي بثقة متناهية  انطلاقا من خبرتي ومعايشتي لهم ولشارعهم الذي لم يكف عن تخويني وهدر دمي ، هذا النفي يؤكد عندي حقيقة لا احيد عنها هي انهم بارعون فقط في فن اثارة الازمة او الاستجابة لها وتفعليها بأكثر من حدودها ان وقعت ودون  مجرد التفكير بالالتفاف عليها وتطويقها ، كما فعل نظراؤهم الصدريون و الكرد غير مرة .

 باختصار كان يمكن للدكتور رافع العيساوي ان لا يذهب الى الانبار بعد ان بادر رئيسه الاعلى للاتصال  به واقتربت جهود التسوية قدر تعلق الامر بالجنبة السياسية من لحظات تاريخية قد لا تتكرر  ، وكان يفترض ان يثنيه بقية قيادات القائمة العراقية عن ذلك ، او ان يظهر في مظهر رجل الدولة في ذهابه وخطابه بأكثر مما يظهر بمظهر زعيم الطائفة او القبيلة الذي كان عليه  ، لا ان يدفعه هؤلاء الزعماء تارة وشيوخ القبيلة تارة اخرى  دفعا للتجاوب مع حشود نعرف ان لبعضها غايات اكبر من تطبيق القانون ورفع مطالب مشروعة ، وأجندات داخلية وخارجية اكبر من ذلك بكثير ، سيما وان الموضوع وان كان يعتقد او نعتقد ان له جنبة سياسية  إلا انه من لحظة وصوله للقضاء اصبح موضوعا قضائيا بامتياز وليس من قدرة الحكومة ورئيسها على التدخل المباشر فيه ظل دستور مثل دستور العراق  يخلط بين السلطات تارة خلطا ليس له نظير   ، ويفصلها بعضها عن بعض تارة  بما يجعلها كأنها اطراف متحاربة في حالة هدنة قصيرة .

 جربوا ان تقارنوا الاداء الكردي في كل ازماتهم مع المركز وآخرها ازمة عمليات دجلة  التي اقتربت من سقف المواجهة العسكرية ، إلا ان الكرد  لم يبتعدوا ابدا عن المفاوضات المباشرة وغير المباشرة وحديث الغرف الخلفية  التي لا يعترف بها  القادة السنة ابدا ، حتى توصلوا بحكمة عالية الى حل مشرف للازمة لهم ولحكومة المركز وللوطن عموما ، ولا اشك انهم لم يفتوا استغلال حالة التأزم السني الذي كان ينتظر نصرتهم لسحب الثقة من الحكومة كما المح الوزير العيساوي منذ اليوم الاول للازمة .

 لكني لأشد ما يؤسفني  ان الطبقة السياسية السنية العراقية منذ ان اشتركت في العملية السياسية ولحد هذه الازمة لم تتعلم الفن الذي يكون  السياسي  بمقتضاه سياسيا وليس زعيم طائفة او قبيلة ولا زعيما لتداعيات التأريخ وإسقاطاته ومنها ارث كبير في السلطة لم تعد تسمح الدولة المعاصرة  به ولو كان كل شعبها ملة واحدة ، ولم يقتربوا يوما منذ اشتراكهم السياسي في عراق ما بعد 2003 من فن ادارة الازمة  قبل نقلها الى شارع منقسم هم لا يملكونه او يملكون غالبيته قطعا لا منفردين ولا مجتمعين  ولا يؤثرون فيه كتأثير بقية زعامات  العراق  الاخرى على شارعها  .

سنة العراق يستدعون الشارع بشكل مباشر في كل ازماتهم وهو شارع منقسم بينهم وشارع غير مؤمن غير مؤمن ولا راض عن دخولهم العملية السياسية وشارع فيه قوى ضغط مسلحة وغير مسلحة اكبر منهم بكثير ، وسنة العراق يدفعون خصمهم للمواجهة للحد الاعلى حتى تنعدم عنده امكانية ان يعطيهم ما يريدون دون ان ينكسر  ولم لم ينكسر امامهم احد يعودون للقبول باقل من انصاف الحلول التي عرضت عليهم اصلا فلا يحصلون عليها ، سنة العراق لا يريدون العنب وانما يريدون قتل الناطور وكل النواطير اليوم مدججة بأكثر من اسلحتهم ، لذلك هم لم يحصلوا ابدا على ما يريدون ، فهل تكون هذه الازمة مدخلا لهم ليتعلموا فن ادارة الازمة قبل ان ينتحروا في شارعهم بسبب صراع قواهم السياسية التي تؤلب شارعا على شارع  وهم في قمة ازمتهم مع الخصوم ؟؟ امل ذلك من كل قلبي لأجل ان يعبر الوطن ازمات لا متناهية جعلته البلد الاسوأ للعيش ، وان كان للموت فيه طعم الذ من الحياة نفسها .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات