18 ديسمبر، 2024 9:16 م

مجتمع الاصطناع .. وفقدان الأمثولة المعيارية

مجتمع الاصطناع .. وفقدان الأمثولة المعيارية

ينفتح عصر الاصطناع على تصفية كل النظم المرجعية – جان بودريار
بادئ ذي بدء ، لا ننكر إن استعمالنا لتعبير (الاصطناع) لوصف حالة المجتمع العراقي ، يعود الفضل فيه إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع والمحلل السياسي الفرنسي المعروف (جان بودريار) ، الذي كان قد وضع كتابه القيم الموسوم (المصطنع والاصطناع) ، ليشير فيه ومن خلاله إلى ظاهرة استشرت في المجتمعات الغربية المعاصرة مؤداها ؛ غياب المعنى الواضح وانعدام الدلالة الملموسة لكل ما يجري في رحم الواقع الاجتماعي من تفاعلات وعلاقات وتصورات ، بعد أن تمكنت وسائل الميديا الحديثة (الإعلام) من إحالة الوقائع والأشياء والكيانات إلى مجرد صور رقمية تتناسل بمتوالية هندسية غير منضبطة ، تأخذ عبر تراقصها المستمر وانثيالها المتواصل بألباب الفاعلين الاجتماعين ، محيلة إياهم إلى أشبه ما يكونوا بالقطيع المسلوب الإرادة والمخدر الوعي والمنتهك الخصوصية . بحيث يبدو إن الأفراد والجماعات المستهدفة لا تتعامل مع حقائق قائمة ووقائع معاشة ، بقدر ما تتعاطى مع أكاذيب مفبركة ومزاعم منمطة ، الأمر الذي يسهل تدجينها واحتوائها وتوجيهها بما يخدم مصالح الدولة ويعظم فوائد النظام . ولهذا فان (( ما يقدمه الإعلام – بحسب بودريار- ليس الواقع كما هو ، ولا هو صورة عنه ، بل هو صورة ولدها الإعلام عن صورة أخرى هي بدورها مولدة منه )) .

ومن الواضح إن مسعى (بودريار) في هذا العمل القيم ، يتمحور حول تعرية المنظومات الإيديولوجية والرمزية التي تتحصن خلفها مؤسسات الدولة المهيمنة ، وإسقاط الأقنعة المزركشة التي تخفي الوجه الحقيقي للوياثان السلطة السياسية المسيطرة ، دون أن يستتبع ذلك محاولة زج المجتمع في قفص الاتهام ، وتحاشي اعتباره شريكا”للدولة ومتواطئا”مع النظام في مضمار التحنيط للوعي والتنميط للشخصية . ومن منطلق إن الأمثولات المعيارية التي تسترشد بها المكونات الاجتماعية وتستهدي برموزها ، يتم العبث بها والتزييف لها من قبل الدولة ونظامها السياسي ، لا من قبل المجتمع الذي وان وقع أسير التلاعب بعقله وضحية التحكم بعواطفه ، إلاّ أن ثوابت تلك الأمثولات المعيارية لا تلبث أن تعاود نشاطها لضبط علاقاته وعقلنة نزعاته وأنسنة تطلعاته ، حالما تزول مؤثرات (الاصطناع) التي مورست ضده وعليه ولو بعد حين . بمعنى آخر إن الدولة ونظامها السياسي هما من يتحمل مسؤولية وضع المجتمع في حالة من (الاستتباع) الإرادي والذهني لاواليات السوق الليبرالية وإيديولوجيته المعولمة ، وإخضاعه من ثم لعمليات غسيل مخ متواصلة تحدد خياراته وتقنن تصوراته وتنمذج سلوكياته ، وبالتالي فان هذا الأخير (المجتمع) إذا ما استطاع أن يتخلص من خيوط تلك الشبكة العنكبوتية الدبقة ، سرعان ما يستعيد عافيته الثقافية ويستأنف مسيرته الحضارية .

وإذا كان عمل (بودريار) قد استهدف تبرئة المجتمع عبر إدانة الدولة ، بخصوص استشراء ظاهرة (الاصطناع) التي غزت بنى الوعي الاجتماعي الغربي وتمكنت من اختراق حدود ممانعاته القيمية والرمزية ، للحد الذي جعلت من عناصره الإنسانية بمثابة مادة صلصالية

تتشكل وفقا”لأواليات السوق الرأسمالي المعولم ، وبناء على رغبات الشركات التي تديم زخمه . فان غرض موضوعنا هنا لا يقف فقط عند حدود تعرية وإدانة ما يسمى (بالدولة) العراقية التي لا وجود لها ككيان ولا سلطة لديها كمؤسسة ، بل وكذلك الذهاب بالاتجاه المعاكس لرؤية مؤلف (المصطنع والاصطناع) .لاسيما حيال الموقف من المجتمع العراقي بكل مكوناته السوسيولوجية وتنوعاته الانثروبولوجية ، الذي لا يقل – من وجهة نظرنا – مقصرية عن الدولة ولا يعفى من المسؤولية جراء ما حدث ويحدث في العراق اليوم . بحيث يكون بمقدورنا وضعه جنبا”إلى جنب مع الدولة التي تحكمه وتتحكم فيه ، ضمن قفص اتهام واحد وموضع إدانة مشتركة . من واقع انه (أي المجتمع العراقي) لم يعدم وسيلة باطلة دون أن يثبت من خلالها أنه يخوض غمار منافسة مفتوحة مع الدولة ، لتقويض كل ما يشكل مكسبا” وطنيا” ومطلبا” أخلاقيا” ورصيدا” إنسانيا”.

وهكذا فان الدولة العراقية – خصوصا”خلال مرحلة ما بعد السقوط – لم تكن بها حاجة أو تصبح مضطرة – مثلما كانت نظيرتها الغربية – لممارسة عمليات التخريب لوعي المجتمع العراقي والتغييب لإرادة مكوناته ، لكي يتسنى لها هدم منظوماته الأخلاقية والرمزية وردم مصادر تطلعاته الوطنية الإنسانية . من حيث إن إنسان هذا المجتمع سبق له وان جرّد من أية أمثولة معيارية ، يمكن أن تشكل له عاصما”من الانحراف باتجاه مظاهر ؛ التبربر الحضاري ، والتخدر الأخلاقي ، والتذرر الاجتماعي ، والتصحر الثقافي ، والتأسطر الديني ، والتعهر السياسي . ومن هذا المنطلق يمكننا – وبلا تردد – عدّ المجتمع العراقي من أكثر مجتمعات المعمورة اجتيافا” لمظاهر (الاصطناع) وأسرعه استجابة لقيمها ، سواء على مستوى الذهنيات والرمزيات أم على صعيد العلاقات والسلوكيات . ليس فقط لأنه بات واقعا”تحت تأثير مؤسسات الدولة الإعلامية المتطيفة والإيديولوجية المتحزبة والتربوية المتريفة ، التي أضحت مجرد أعشاش لتفريخ الخرافات الدينية ، وحاضنات لتناسل الأساطير التاريخية ، وبيئات لتكاثر الأوهام الطائفية فحسب ، وإنما لكونه طلق بالثلاثة كل ما يذكّره بالوطن ويشدّه بالمواطن ، بعدما أصبح كائنا”هلاميا”بلا ملامح ؛ مقتلع الجذور وعديم الانتماء وفاقد الهوية .

والغريب انه بقدر ما تحاول (الدولة) العراقية تبرأت ذاتها من تهمة ممارسة (الاصطناع) ضد المجتمع ، ومن ثم النأي بنفسها عن كل ما ينجم عنها من عواقب سياسية ومثالب اجتماعية ، بقدر ما يمعن المجتمع (العراقي) في الانغماس بهذا الضرب من السلوك الشاذ والتصرف المنحرف ، كما لو أنه يحاول الإساءة إلى نفسه الانتقام من ذاته بصورة مقصودة ومتعمدة . باعتبار أن ظاهرة (الاصطناع) هي من نتاج فعل الدولة التي تمارس سلطتها وتفرض سلطانها بغير أساليب (الإقناع) المعتادة ، التي عادة ما تشكل الركيزة الأساسية لقاعدة الشرعية الوطنية لكل دولة . لا أن يضطلع المجتمع المنتهك الحقوق والمستباح المصير بارتكاب مثل تلك القباحات الأخلاقية والحماقات السياسية ، ليس فقط ضد بقايا دولة وشظايا سلطة وزوايا قانون فحسب ، بل وكذلك ضد تاريخه ماضيا”، وضد مصيره حاضرا”، وضد أجياله مستقبلا”.

ولعل هذه الوضعية المأزقية هي ما شجع على إطلاق العنان لقوى الشر وفلول الإرهاب من جميع الأصقاع ، لكي تتجه بأنظارها صوب كيان هذا المجتمع ؛ المتصدع في رمزياته ، والمتضعضع في علاقاته ، والمتخلع في ولاءاته ، لتنفث في جسده الهزيل سمومها ، وتطلق في وعيه العليل خرافاتها ، وتشيع في مخياله السقيم رذائلها . بحيث بات من الصعب – إن لم يكن

من شبه المستحيل – حمل أفراده وجماعاته على كبح جماح نوازعها التعصبية ، وكبت غلواء دوافعها الانتقامية ، ولجم شراسة غرائزها العدوانية . والأنكى من كل ذلك إن الرموز السياسية والدينية لتلك الجماعات المتقاطعة في كل شيء ، ضربت بالنسبة لأتباعها وأنصارها المثال السيء والقدوة الرديئة ، لا في صدق وطنيتها ولا في نزاهة سريرتها فحسب ، وإنما في عمق تورطها بالتبعية والاستتباع لدول وحكومات خارجية ، لا تضمر لهذه البلاد وشعبها سوى العداء التاريخي والكراهية الحضارية . وهو الأمر الذي أعطى لمكونات المجتمع العراقي المنقسمة على ذاتها والمتصارعة على مصيرها ، المسوغات الأخلاقية والمبررات النفسية لكي تتصرف على هذا النحو من الرجم الديني للمعتقدات والهدم الوطني للمشتركات .

من هنا فان صفة (الاصطناع) التي تناولنا بعض مظاهرها ، ليست طارئة أو دخلية على مكونات المجتمع العراقي الضعيفة الإيمان بوطنها والقليلة الإحسان لعراقيتها ، إنما هي رابضة في ذهنها وأصيلة في سلوكها ، وان الأمر لا يحتاج – لكي تسفر عن وجهها الحقيقي – سوى أن تمر الدولة بأزمة أو تقع السلطة في مأزق ، وعند ذاك سرعان ما تظهر علائم الاصطناع كما لو أنها من خاصية من خصائص طبيعة هذا المجتمع الملغز ، وشيفرة أساسية من شيفرات جبلته المطلسمة !! . مجتمع الاصطناع .. وفقدان الأمثولة المعيارية
ينفتح عصر الاصطناع على تصفية كل النظم المرجعية – جان بودريار
بادئ ذي بدء ، لا ننكر إن استعمالنا لتعبير (الاصطناع) لوصف حالة المجتمع العراقي ، يعود الفضل فيه إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع والمحلل السياسي الفرنسي المعروف (جان بودريار) ، الذي كان قد وضع كتابه القيم الموسوم (المصطنع والاصطناع) ، ليشير فيه ومن خلاله إلى ظاهرة استشرت في المجتمعات الغربية المعاصرة مؤداها ؛ غياب المعنى الواضح وانعدام الدلالة الملموسة لكل ما يجري في رحم الواقع الاجتماعي من تفاعلات وعلاقات وتصورات ، بعد أن تمكنت وسائل الميديا الحديثة (الإعلام) من إحالة الوقائع والأشياء والكيانات إلى مجرد صور رقمية تتناسل بمتوالية هندسية غير منضبطة ، تأخذ عبر تراقصها المستمر وانثيالها المتواصل بألباب الفاعلين الاجتماعين ، محيلة إياهم إلى أشبه ما يكونوا بالقطيع المسلوب الإرادة والمخدر الوعي والمنتهك الخصوصية . بحيث يبدو إن الأفراد والجماعات المستهدفة لا تتعامل مع حقائق قائمة ووقائع معاشة ، بقدر ما تتعاطى مع أكاذيب مفبركة ومزاعم منمطة ، الأمر الذي يسهل تدجينها واحتوائها وتوجيهها بما يخدم مصالح الدولة ويعظم فوائد النظام . ولهذا فان (( ما يقدمه الإعلام – بحسب بودريار- ليس الواقع كما هو ، ولا هو صورة عنه ، بل هو صورة ولدها الإعلام عن صورة أخرى هي بدورها مولدة منه )) .

ومن الواضح إن مسعى (بودريار) في هذا العمل القيم ، يتمحور حول تعرية المنظومات الإيديولوجية والرمزية التي تتحصن خلفها مؤسسات الدولة المهيمنة ، وإسقاط الأقنعة المزركشة التي تخفي الوجه الحقيقي للوياثان السلطة السياسية المسيطرة ، دون أن يستتبع ذلك محاولة زج المجتمع في قفص الاتهام ، وتحاشي اعتباره شريكا”للدولة ومتواطئا”مع النظام في مضمار التحنيط للوعي والتنميط للشخصية . ومن منطلق إن الأمثولات المعيارية التي تسترشد بها المكونات الاجتماعية وتستهدي برموزها ، يتم العبث بها والتزييف لها من قبل الدولة ونظامها السياسي ، لا من قبل المجتمع الذي وان وقع أسير التلاعب بعقله وضحية التحكم بعواطفه ، إلاّ أن ثوابت تلك الأمثولات المعيارية لا تلبث أن تعاود نشاطها لضبط علاقاته وعقلنة نزعاته وأنسنة تطلعاته ، حالما تزول مؤثرات (الاصطناع) التي مورست ضده وعليه ولو بعد حين . بمعنى آخر إن الدولة ونظامها السياسي هما من يتحمل مسؤولية وضع المجتمع في حالة من (الاستتباع) الإرادي والذهني لاواليات السوق الليبرالية وإيديولوجيته المعولمة ، وإخضاعه من ثم لعمليات غسيل مخ متواصلة تحدد خياراته وتقنن تصوراته وتنمذج سلوكياته ، وبالتالي فان هذا الأخير (المجتمع) إذا ما استطاع أن يتخلص من خيوط تلك الشبكة العنكبوتية الدبقة ، سرعان ما يستعيد عافيته الثقافية ويستأنف مسيرته الحضارية .

وإذا كان عمل (بودريار) قد استهدف تبرئة المجتمع عبر إدانة الدولة ، بخصوص استشراء ظاهرة (الاصطناع) التي غزت بنى الوعي الاجتماعي الغربي وتمكنت من اختراق حدود ممانعاته القيمية والرمزية ، للحد الذي جعلت من عناصره الإنسانية بمثابة مادة صلصالية

تتشكل وفقا”لأواليات السوق الرأسمالي المعولم ، وبناء على رغبات الشركات التي تديم زخمه . فان غرض موضوعنا هنا لا يقف فقط عند حدود تعرية وإدانة ما يسمى (بالدولة) العراقية التي لا وجود لها ككيان ولا سلطة لديها كمؤسسة ، بل وكذلك الذهاب بالاتجاه المعاكس لرؤية مؤلف (المصطنع والاصطناع) .لاسيما حيال الموقف من المجتمع العراقي بكل مكوناته السوسيولوجية وتنوعاته الانثروبولوجية ، الذي لا يقل – من وجهة نظرنا – مقصرية عن الدولة ولا يعفى من المسؤولية جراء ما حدث ويحدث في العراق اليوم . بحيث يكون بمقدورنا وضعه جنبا”إلى جنب مع الدولة التي تحكمه وتتحكم فيه ، ضمن قفص اتهام واحد وموضع إدانة مشتركة . من واقع انه (أي المجتمع العراقي) لم يعدم وسيلة باطلة دون أن يثبت من خلالها أنه يخوض غمار منافسة مفتوحة مع الدولة ، لتقويض كل ما يشكل مكسبا” وطنيا” ومطلبا” أخلاقيا” ورصيدا” إنسانيا”.

وهكذا فان الدولة العراقية – خصوصا”خلال مرحلة ما بعد السقوط – لم تكن بها حاجة أو تصبح مضطرة – مثلما كانت نظيرتها الغربية – لممارسة عمليات التخريب لوعي المجتمع العراقي والتغييب لإرادة مكوناته ، لكي يتسنى لها هدم منظوماته الأخلاقية والرمزية وردم مصادر تطلعاته الوطنية الإنسانية . من حيث إن إنسان هذا المجتمع سبق له وان جرّد من أية أمثولة معيارية ، يمكن أن تشكل له عاصما”من الانحراف باتجاه مظاهر ؛ التبربر الحضاري ، والتخدر الأخلاقي ، والتذرر الاجتماعي ، والتصحر الثقافي ، والتأسطر الديني ، والتعهر السياسي . ومن هذا المنطلق يمكننا – وبلا تردد – عدّ المجتمع العراقي من أكثر مجتمعات المعمورة اجتيافا” لمظاهر (الاصطناع) وأسرعه استجابة لقيمها ، سواء على مستوى الذهنيات والرمزيات أم على صعيد العلاقات والسلوكيات . ليس فقط لأنه بات واقعا”تحت تأثير مؤسسات الدولة الإعلامية المتطيفة والإيديولوجية المتحزبة والتربوية المتريفة ، التي أضحت مجرد أعشاش لتفريخ الخرافات الدينية ، وحاضنات لتناسل الأساطير التاريخية ، وبيئات لتكاثر الأوهام الطائفية فحسب ، وإنما لكونه طلق بالثلاثة كل ما يذكّره بالوطن ويشدّه بالمواطن ، بعدما أصبح كائنا”هلاميا”بلا ملامح ؛ مقتلع الجذور وعديم الانتماء وفاقد الهوية .

والغريب انه بقدر ما تحاول (الدولة) العراقية تبرأت ذاتها من تهمة ممارسة (الاصطناع) ضد المجتمع ، ومن ثم النأي بنفسها عن كل ما ينجم عنها من عواقب سياسية ومثالب اجتماعية ، بقدر ما يمعن المجتمع (العراقي) في الانغماس بهذا الضرب من السلوك الشاذ والتصرف المنحرف ، كما لو أنه يحاول الإساءة إلى نفسه الانتقام من ذاته بصورة مقصودة ومتعمدة . باعتبار أن ظاهرة (الاصطناع) هي من نتاج فعل الدولة التي تمارس سلطتها وتفرض سلطانها بغير أساليب (الإقناع) المعتادة ، التي عادة ما تشكل الركيزة الأساسية لقاعدة الشرعية الوطنية لكل دولة . لا أن يضطلع المجتمع المنتهك الحقوق والمستباح المصير بارتكاب مثل تلك القباحات الأخلاقية والحماقات السياسية ، ليس فقط ضد بقايا دولة وشظايا سلطة وزوايا قانون فحسب ، بل وكذلك ضد تاريخه ماضيا”، وضد مصيره حاضرا”، وضد أجياله مستقبلا”.

ولعل هذه الوضعية المأزقية هي ما شجع على إطلاق العنان لقوى الشر وفلول الإرهاب من جميع الأصقاع ، لكي تتجه بأنظارها صوب كيان هذا المجتمع ؛ المتصدع في رمزياته ، والمتضعضع في علاقاته ، والمتخلع في ولاءاته ، لتنفث في جسده الهزيل سمومها ، وتطلق في وعيه العليل خرافاتها ، وتشيع في مخياله السقيم رذائلها . بحيث بات من الصعب – إن لم يكن

من شبه المستحيل – حمل أفراده وجماعاته على كبح جماح نوازعها التعصبية ، وكبت غلواء دوافعها الانتقامية ، ولجم شراسة غرائزها العدوانية . والأنكى من كل ذلك إن الرموز السياسية والدينية لتلك الجماعات المتقاطعة في كل شيء ، ضربت بالنسبة لأتباعها وأنصارها المثال السيء والقدوة الرديئة ، لا في صدق وطنيتها ولا في نزاهة سريرتها فحسب ، وإنما في عمق تورطها بالتبعية والاستتباع لدول وحكومات خارجية ، لا تضمر لهذه البلاد وشعبها سوى العداء التاريخي والكراهية الحضارية . وهو الأمر الذي أعطى لمكونات المجتمع العراقي المنقسمة على ذاتها والمتصارعة على مصيرها ، المسوغات الأخلاقية والمبررات النفسية لكي تتصرف على هذا النحو من الرجم الديني للمعتقدات والهدم الوطني للمشتركات .

من هنا فان صفة (الاصطناع) التي تناولنا بعض مظاهرها ، ليست طارئة أو دخلية على مكونات المجتمع العراقي الضعيفة الإيمان بوطنها والقليلة الإحسان لعراقيتها ، إنما هي رابضة في ذهنها وأصيلة في سلوكها ، وان الأمر لا يحتاج – لكي تسفر عن وجهها الحقيقي – سوى أن تمر الدولة بأزمة أو تقع السلطة في مأزق ، وعند ذاك سرعان ما تظهر علائم الاصطناع كما لو أنها من خاصية من خصائص طبيعة هذا المجتمع الملغز ، وشيفرة أساسية من شيفرات جبلته المطلسمة !! .