10 أبريل، 2024 7:57 م
Search
Close this search box.

مثل طائر الفلامينكو أحجل على ساق واحدة *: شاعر ومصباح في عتمة الحياة ورايتان , البيضاء للجمال !

Facebook
Twitter
LinkedIn

عندما اهدى لي الشاعر كاظم اللايذ كتاب ” مثل طائر الفلامنكو أحجل على ساق واحدة ” بأربعة وعشرين قصيدة في 12 ك1 2019 , كنت في حينها , مثله تمامآ , أحجل على ساق واحدة كبقية العباد الحاجلين المتنقلين من عيادة الى أخرى بسبب هجوم الأمراض المزمنة , فقلت في نفسي سأتمكن من الرجوع اليه لقراءته والكتابة عنه بآلية ناقد غير مدجج بفقه اللغة المتعالية المستخدمة لدى البعض من النقاد , وإنما بلغة من أحببته من الادباء بشكل عام ولغة من كتبت عنه بما أتاح لي الدهر من قراءة لأدبه بشكل خاص .
وستكون كتابتي بيضاء كقلب النخلة تعتمد على المشاعر والأحاسيس والحدس (= إدراك فوري ) والأستقراء ونعني به تتبع جزئيات القصيدة بعد ان نمسكها من عنانها , ومن دون تخطيطات بيانية لبنية القصيدة الخارجية أو الداخلية عدا التوثيق للمصطلح الأدبي البسيط الذي يشير الى تفكيك النص من الداخل لإتاحة الفرصة للقاريء للإمعان بدراسته لإغناء تجربته النقدية ,
كل هذا لمعرفتي باللايذ من خلال الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف على أنه شاعر وأكاديمي حصيف , يمتاز شعره بتجلياته الإنسانية التي تؤسس هويته الشعرية بنكهتها البصرية , إذ أن الغالبية العظمى لقصائده , وهذا الكلام للراحل حسين عبد اللطيف , كتبت كأنها قصص قصيرة عن شروط الحياة ولكن بصياغة شعرية أمتازت لغتها بالبساطة وبرقة الإحساس في جانبها الإنساني والإجتماعي وبتجارب وصور واقعية رسمت بريشة أستاذ فقهته اللغة فترة طويلة .
هذه القصص الشعرية كصنف من اصناف الشعر الثلاثة ; السردي Narrative والدرامي والغنائي بثيماتها وشخصياتها الواقعية أستلهمت من تجاربه الشخصيه في بيئة مدينته البصره والأماكن التي أرتادها في رحلاته بآوان من الزمن الماضي والحاضر خارج مدينته , وأحيانآ وفي ضمن هذا الإطار تتحول الى صنف آخر من اصناف السرد وهو السرد المجازي allegory الذي يلمح ضمنآ الى ما يجري في الواقع أو المجتمع من خلال التجربة الجسدية .
عندما توقف هجوم الأمراض المزمنة لوهلة , عكفت على قراءة المجموعة برغبة التساؤل عما تحتوي قصائدها من إشارات في الجانب النفسي والإنساني ومداها الأخلاقي العميق في نفسه وحجم تطابقها مع رأي الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف .
قبل ان ندخل في أول نص شعري يفتتح به الشاعر المجموعة وهو بعنوان ” إني أشفى من حزني ” يجب الإشارة الى أن نقد العمل الآدبي لابد له من خيوط رابطة مع الأعمال السابقة ليبني الناقد أو القاريء أحكامه على النص الذي بين يديه . لذلك فأننا هنا كمن يقرأ عملآ أدبيآ مجردآ عن سابقيه , والمجرد يخضع للتأويل وفق الزمن الذي أُنشئ فيه . ولأنني لم أقرأ اعماله السابقة للأسباب التي ذكرتها , إلا أنني هنا ومن دون أي تحيّز سأتناول الموضوع بحسب الذائقة ومعرفتي بالظروف الأجتماعية التي مرّ بها الشاعر وتوظيفه لها في نصه الشعري وبخصائص اللغة التي ذكرتها آنفآ وبملاحظات نقدية جزئية سواء بخروجه عما هو في البناء الأدبي التقليدي او ابداله بنمط آخر يستمده من قراءاته .
يفصح الشاعر في قصيدته الشخصية ذات البنية التأريخية ” إنى أشفى ..” التي يفتتح بها المجموعة , عن حالته النفسية بصدر منشرح من خلال وصفه لماض رحل برحيل ” أبابيل سود كانت جاثمة ص5 ” على صدره فيرى الواقع بصور تعكس تغيّر الإنسان بنمطه الإنساني في الحياة بفعل تغير الزمن , وقد حدد الشاعر بالضبط عن دلالة تلك الأبابيل السود ويقصد بها فترة الغزو الداعشي الإرهابي على شمال العراق الذي بدأ في كانون الثاني 2014 وأنتهى بهزيمتهم نهائيآ بتاريخ 9 كانون الأول 2017 وذلك من دلالة تأريخ كتابة النص الشعري الموثق أسفل الصفحة وهو تموز 2017.
في هذا النص الواقعي لم يعمد الشاعر على وضع العراقيل بوجه الناقد الأدبي عن طريق شحنه بالإشارات والرموز او توظيف تجارب تراثية سابقة ليخضعه للتأويل والتحليل النفسي المثير للجدل , بل بلغة عربية حداثوية ومنطقية سهلة كأنه يكتب لطلابه ليحبب اليهم كتابة الشعر ليكون مرآة لحياتهم وأجيالهم .
من هنا يبدأ الشاعر بوصف عالم خاص به , عالم لا يبحث فيه أكثر من نمطية الحياة التي أعتاد عليها , يسعى مثل الساعين .. يدخل بستان الكون .. يلتقط مثل العصفورة قوته .. ويجمع في السلة مايجمع من طيب الأرض (ص6-7) , فلا يدخلنا في مشاكل التهكم والسخرية والنقد اللاذع لأي فكرة سياسية أو رغبة أنانية ليحافظ على النص من الأنزلاق الى دلالات وإحالات لايقصدها .
يستمر النص بالصورة النمطية التي يرحب بها ويعيدها الى صورالحياة التي الفها فيقدمها ثانية وكأنه يعيد أجزاءها التي تحطمت في زمن غابر جراء الإرهاب , ولكن من دون مكان بالبيئة يحدد به السرد إلا من مفردة الشارع والبستان وقد ذكرهما بشكل عابر :
طوبى للديك
على سطح الجارة
يوقظني في كل صباح
طوبى للدفء الأسري
وطعم الخبز على مائدة الإفطار (ص7)

ولكنه لا ينضوي تحت هذه الحالة النفسية بالترحيب لنمطية الحياة من دون ان يلغي ذاته الشعرية التي تبقى مرآة لإشكالات الزمن , فلأنه إنسان وبأمرة الوعي نرى أن وطئتها السايكولوجية ( = النفسية ) مازالت باقية تحت ظلالها ولا سبيل يضعه لإجتثاثها :
طوبى للنار الأزلية في روحي
لا ترضى أن يطفئها قدر
أو أن يخمدها
زمن غدار (ص8)

في قصيدة ” جسر على نهر كواي ” نقرأ فقه اللغه نفسه , وفي بيئة أخرى يحددها خارج مدينته , لمضمون نمط آخر للحياة , يشتغل عليه الشاعر لما ينطوي عليه من تطابق لأشكاليات حدثت في الزمن الغابر لتايلند مع أشكاليات الحروب التي وقعت في وطنه العراق والتطابق بين نمط الحياة بعد الحرب في تايلند ونمط الحياة التي صورها بعد الغزو الإرهابي بالعراق والأثر الذي أنشأه في ذاته الشعرية وفي ذات المجتمع التايلندي الذي يمثل المعادل الموضوعي الذي يشتركان به وهو أثر الغزو بالحرب على حالة الإنسان النفسية :
في حافلة ..
تنقل سياحآ
من بانكوك الى نهر “كواي”
…….
…….
تسألني سائحة :
من أي بلاد أنت ؟
وحين أجيب
تحرك سبابتها
وتشير الى وضع يشبه إطلاق النار .. (ص9)

ولا شك أن قطار الموت الذي فجره البريطانيون بركابه اليابانيين إبان غزو القوات اليابانية في الحرب العالمية 1941 لتايلند وهو يمر على جسر نهر ” كواي ” ما ادى الى مقتل جميع الركاب , هو تلميح الى أن أثرذلك من الناحية النفسية على المجتمع التايلندي هو الأثر نفسه الذي خلفه الغزو الداعشي للعراق على المجتمع العراقي , مع أن الشاعر قد ألمح أيضآ الى تطور الزمن بناء على مفهوم أن كل تعاسة يعقبها واقع يرفل بالفرح من ناحية ,
وإصراره على بلوغ الدقة بالتعبيرعن ذلك وضمن الفقه الذي تنتمي اليه قصيدة التفعيلة السابقة في جانب المحتوى السردي وبالمرونة نفسها التي يخضعها عن عمد للتفكير البسيط وفي إطار المنطق وبإيقاع أجمل في النفس مما لو أراد بشكل آخر من ناحية أخرى .
والشكل الآخر الذي أعتقد أن الشاعر تجاوزه دون الإشارة اليه هو أن الغاية من الغزو الياباني والغزو الداعشي كان , لاشك , لغرض تأسيس ممالك مادية أرضية خالية من الأخلاق , أي تأخذ ولاتعطي وتقترب من عبودية الممالك الفرعونية , ومثل هذا الأمر المنكر للأخلاق لايستمر طويلأ .
في ذلك كان الشاعر يتماهى في مشاركته بفرح الحياة البسيطة نفسها مع التايلنديين وبروح وجسد كنسلين لواقعين تعيسين هيمنا على بيئتيهما بشكل متشابه وقد خلفا تذكارين خالدين , نارآ أزلية في نفوس شعبه ومقابر كمثل الندبة في جسد الأرض التايلندية ص12 .
يمضي الشاعر كاظم اللايذ بأصواته الشعرية في قصيدة ” من القى بالطفل الى البحر ” ولكن هذه المرة تختلف عما قلناه بالاسطر السابقة , فالقصيدة هنا تأخذ طابع الأستهجان ورفع الراية الحمراء الرافضة لواقع استتب طويلآ فيما مضى من دون أن يعطي مصداقية لنمط الحياة التي يسعى اليها الفرد , بلغة التهكم أو السخرية Satire بالمقارنة مع نمط واقع آخر بالحياة وخاصة في جانبها السياسي الذي يصور لنا بعضآ من تداعياته السلبية على الإنسان تصويرا واقعيآ مما يدفع القاريء لمشاركته إما بالراية نفسها وإما بالثورة عليه أو تعديله بالإصلاح وإيجاد الحلول من دون تسويف أو تعديل من حيث الشكل دون الجوهر.
والشاعر هنا بوجوده المجازي على الساحل الذي قذفته الأحداث اليه , يبقى بروح وجوارح المهاجرين أنفسهم , يؤدي ويروي ويكشف بمصباحه الشعري وبزاد من المعلومات عن حالهم وعجزهم من الثقل الذي ورثوه من حكام كانوا بتيجان لامعة لسنين طويلة ولكن تبينوا انهم بلا مبادئ وغير عيابين أومنتفضين لفقدان كرامتهم وكرامة شعوبهم والمناقب التي كانت تجمعهم , لأنه يشترك معهم بخياله الغني وبالتداعيات التي اعقبت انشاء جامعة الدول وما آلت اليها الأحداث بعد ذلك وليس بالعيش معهم أو بالهجرة وركوب البحر كسائر المهجرين كما أعتقد لبعد مدينته عن مجريات تلك الأحداث .
فنراه يسخر من مقارنة يكشف بطرفها الأول عن واقع ولد من حروب نجم عنها ابتلاع فلسطين وخضوع الدول العربية لهيمنة الأستعمار وبأنظمة هزيلة أغلبها تابعة لتلك الهيمنة من دون أن تقوم جامعتها العربية بأي عمل يعيد هيبة تلك الدول وشعوبها ولو بحد أدنى , بل ما نجم عن ذلك هو الضعف في دورها وسقوط الأنظمة الباقية التي كانت تقف بالند من تلك الهيمنة وبشكل متتابع , حتى وصل الحال الى التطبيع مع العدو الغاصب من جانب الدول الهزيلة التي أحلّت به الحرمات للدلالة على موات تلك الدول وموت هذه الجامعة من كافة النواحي المبدئية التي كانت حججآ في إنشائها .
أما طرف المقارنة الثاني فهو الواقع العربي الذي برز بعد سقوط الأنظمة بالحروب المفتعلة , وهو واقع موجات الهجرة الجماعية عن طريق البحر الى الغرب بحثآ عن حياة أفضل , وبناء المخيمات للمشردين بأطراف الحدود , أما جامعة الدول العربية فمازالت عاقرة بأعلامها البالية العارية ترفرف منكسة من دون أي فعل يعيد الكرامة لشعوبها . هذا الحال أثارالشاعر بألفاظ شعرية مكثفة يسخر بها من هذه الجامعة التي باتت بالأسم فقط ومن دون معنى :
قذفتنا الأمواج الى الساحل ..
…..
…..
قلت لأصحابي – ولقد كانوا عربآ
نحن الأن بلا وطن
فدعونا .. نحمل اعلام الجامعة العربية (ص13)

فبينما يتحدث معنا الشاعر , يقفز الى ذهننا الشاعر أمل دنقل عندما يقف محل الشاعر كاظم اللايذ ليروي عن فتى كان في وجود يزاول فيه كل القيم الموروثة التي تعوّد عليها حيث يقول في ديوانه ” مقتل القمر ” :

“كان يا ما كان ..
انه كان فتى
لم يكن يملك إلا.. مبدأه
أترى تدرين من كان الفتى؟
فهو يدري الآن
يدري خطأه”
فأي خطإ هذا الذي اقترفه الفتى في صباه؟ ! ( أمل دنقل )

بنفس الطريقة يسخر الشاعر امل دنقل وبغضب من واقع الحال بعد الإنحدار الذي وصلت اليه الدول العربية وأنهيار القيم الى قيم فاسدة , ويرى أنه يحمل نعش الحب للأجيال القادمة وهو إعلان صريح للسوداوية التي لا تنبأ عن بديل . ولكن هذا لايعني ان الشاعر يضعنا في حالة القطيعة مع الواقع الفاسد من دون تغييره او الرجوع اليه والعيش فيه , بل الى التأثير بالمسببين بصناعته والبحث عن الإتجاه الصحيح في التفكير للوصول الى حل يعيد لنا اصل الحياة المتين الذي تعودنا عليه :

” أنا مثلك كنت صغيرا
أرفع عيني نحو الشمس كثيرا
لكني منذ هجرت بلادي
والأسواق
تمضغني، وعرفت الأطراف
مثلك منذ هجرت بلادك
وأنا أشتاق
أن أرجع يوما للشمس
أن يورق في جدبي فيضان الأمس ( امل دنقل – القصيدة نفسها )

ثم يذهب الشاعر اللايذ في سخريته وهو في موقف الوحيد الأعزل بسبب تدهور انماط الحياة الإنسانية جراء الفوضى التي عمّت بالأنظمة السياسية التي ذكرناها إلا من الأعلام البالية ليبدأ صدامه مع هذه الجامعة البائسة وتمرده عليها بالإحتقار والملل من رؤيتها وهي على ساريات لاتستحقها , بل ينبغي أن يطوف بها بالمباغي لأن دورها بالأساس تبين لجمع شمل الغانيات وليس العرب :

وندور بها حول مباغي العالم
……..
……..
فليس يليق بهذي الأعلام
سوى المبغى

وينتقل الى الشيخة موزه كرمز للسخرية من حال الحكام الذين انابوا لنسائهم بالعبث بمقدرات الشعوب , بل وزادت في تصرفاتها التي لاتنسجم حتى مع الدين , وكذلك القرضاوي المعروف بالداعي الى القتل والإرهاب الذي وصفها بأم المؤمنين متجاوزآ بمقارنتها بزوجة النبي ص عائشة ومستعيرآ وصفه الذي أطلقه عليها كأم للمؤمنين . أما رمز السخرية الثالث فهو الذباح بالزي الأفغاني الذي تجسّر بالفتوات الباطلة التي تلقاها من مطلقها القرضاوي على ان يأتي برأس دمشق على طبق :

الشيخة موزة
بالمايوه
…….
…….
تجلس تحت مظلات الشاطيء
…….
تجيّر اكداس الشيكات
…..
…..
صاح بها ذباح بالزي الأفغاني
يقرزم باللغة العربية
قرّي عينآ يا أماه
سآتيك برأس دمش على طبق (ص14)

في هذه الحكاية التي تعرض الشخصيات الواقعية التي أسقطها الشاعر في قصيدته نيابة عن أستخدام أسلوب المجاز أو التجريد كأنه يريد نشرها في مجموعته ليقرأها ذوو الوعي الثقافي أو العلمي العالي لكي يؤجج غضبهم ليتصدوا لمثيل هذه الشخصيات الموجودة في مجتمعهم حتى لو تطلب الأمر الأستقصاء عنهم لمحاربتهم بسلاح السخرية لدحرهم قبل أن يأتوا بالقرائن التي أتت بها الشخصيات الثلاثة الآنفة الذكر, وإلا سيخرجون من أوطانهم كما خرج هؤلاء ويرون المصير نفسه .
وفي رأيي أن هذا دليل على درس أخلاقي وإستقراء Inductive للحال الذي تسببت به رغائب تلك الشخصيات التي ما أنفكت تتوغل بالوحل , يقدمه الشاعر لغرضين , الأول ليهتدي به من يهتدي قبل ان يدوسوا على جمر الحصى فوق السواحل من يدهم ويد من خلع معهم ثياب العز وأستبدلوها بالنكران ثم بغوا جميعهم على شعوبهم وسلكوا درب الضلال بذنوبهم مخلفين آثار سهامهم الطائشة في قلوب الفقراء الذين ماباتوا يعرفون الى أين يهربون , الى السهل أم الى البحر يركبون , والغرض الثاني لتعريف الأجيال بهذه الشخصيات التي عاشت في عصره .
يستمر الشاعر في إيغاله بالسخرية من الحكام المشاركين بالحرب على اليمن على نحو مجازي تخيّلي وبغضب من يقاسي الهوان :

شاهدت ثلاثة اشخاص يلقون الطفل الى البحر
الأول : ذاك الرعديد القطري
والثاني : حامل مفتاح الكعبة
والثالث : كان الباب العالي (ص16)

هؤلاء الثلاثة لا يحتاج فيها القارئ الى عبقرية للكشف عن شخصياتهم على ارض الواقع وهذا بالطبع لأن الشاعر يدرك ذلك ولكنه عمد الى ذلك إيغالآ بالسخرية كما أشرنا حتى نهاية القصيدة التي تركن الى السوداوية المطلقة Melancholia والطريق المسدود وإغلاق باب الأمل , كأمر محسوم في البلاد العربية التي يحكمها حكام رزحوا تحت نعال الحكم العثماني ومن ثم الهيمنة الأمريكية ومن ثم تفشي الوباء والحروب بين الأشقاء والفساد في كل الأرجاء حيث لا جدوى من اوطان تتدحرج من هوان الى هوان :

أين تحط رحالك ؟؟
أنى سرت تر وسخآ
والعالم من حولك
محكوم بالرشوة والدولار
…….
……
ان بلادآ مثل بلاد السودان
بالشعب البلوري الطبع
التواق الى الحرية
والرازح تحت نعال السيد آلاف الأزمان
يسقط في لحظة إثم
في احضان خراتيت الصحراء (ص18)

في قصيدة ” حمامة في قبو ” التي كثرت بها الإشارات باللغة , يبرز فيها الشاعر الحمامة كرمز للمرأة والتي تحفّز على التحليل الظاهري فضلآ عن الفات نظرنا الى مكان تحت الأرض يضيق بالصمت والدخان , وبنادلة قوقازية ووجوه مثل تماثيل الشمع من دون أيِّ مدح أو ذم لأي شيء فيه , ما يجعلنا من دون أساس يقيني في القصيدة يدل على القصد من النزول الى القبو سوى شرب القهوة . ولكن القهوة متوفرة في كل مكان من باكو فلماذا الإصرار على النزول الى القبو لشربها ؟ وماذا يحدث لنستخلص الحكم ؟

هنا يخضعنا الشاعر الى مسألة الشعور وهو وحده يدرك صفات الواقع الذي يقصده , لذا فإن المهتم بالظواهر عليه ان يمعن بالتأمل في الظاهر حتى يجد أن في الظاهر مايدل على الباطن الذي يبحث عنه المخاطب في القصيدة دون القهوة . الجدير بالذكر أن القاريء أحيانآ لايستطيع أن يقتنص الفهم الكامل للنص الأدبي كما هو الحال في المرآة عندما تعكس كامل الصورة للمتلقي ,

وهذا ليس عيبآ أبدآ , فالمعروف ان القاريء كلما كان حريصآ في قرائته لابد ان يجد مايعيق فهمه , وهي ظاهرة طبيعية بالأدب وشواهدها كثيرة جدآ كأن تجد في النص بنى ومدلولات لغة متعددة وبسبب ذلك لايمكن للقاريء ان يلقي القبض على المعنى الواحد والمطلق بسهولة كما تفعل المرآة ,
ولايمكن له أن يعترض على سياق اللغة التي اختارها الشاعر ليتحرر من طغيان الوقوف في مفترق طرق المعاني من ناحية أخرى لأن الشاعر أو الكاتب لايمنع أن يكون القاريء حرآ في أيِّ تفسير يضعه لنصه سواء في خانة الأطراء أو الأزدراء , فللشاعر حريته كما للقارئ حريته أيضآ .
وهنا لا نعمد بأول وهلة أن نقول : انه مبغى او أي شيء آخر سوى تعليق الحكم برغم ان الوجود الذي تعامل معه الشاعر وإرتاده كل يوم من دون ان يكشفه ليس إلا مكان يرتبط بالشعور فقط والإستجابة له من دون الإستجابة لمدلولات الظاهر بكل إيحاءاته , من رفيف أنغام خافتة تتسلل من بين شقوق الجدران (ص20) . وهذه حقيقة لدى البشر بشكل عام . ولكن إنقلاب الظل عليه وهو يهوي الى عالم سفلي يكشف بالضرورة أنه عالم للحضيض ودليل لإدانة المكان بالبغي لأن العالم بوجهين أثنين الأعلى والأسفل , الطين والوحل :

في باكو
دركات القبو
تجرُّ خطاك
الى عالمها السفلي
يتكسر ظلّك في السلّمِ منقلبآ
تنزل
صمت .. وسكون .. ودخان ( ص20 )

في رثاء صديقه الراحل ” الشاعر مجيد الموسوي ” لم يتحرر الشاعر كاظم اللايذ من أسر الصحبة وذكرياته التي لم تمحها الذاكرة رغم الإنشغال بالحياة ومطالبها اليومية وإنغماسه بحوادثها وازماتها وتفاهاتها والإحباط الذي تدرّه يومآ بعد يوم , كما لم تمح من ذاكرته الأحجية التي تناقلتها الأجيال وكانت كحبل السرة في ركن من اركان قصيدته جعلها تشي بعلاقة تناص Intertextuality ولكن بإضافات أراد بها زيادة في التصوير مع قصيدة للشاعر رشيد ياسين وهو يحاوره , بل كان الشاعر كاظم اللايذ أسيرآ لشعور نما بحجم عمره , يحاصره كل يوم على ذكر صديقه بكل الحوادث التي مرَّ بها معه , فيخاطبه وكأنه يعود الى أيام الصدق والوجود الذي وطئاه معآ .
ففي قصيدته ” تسمع الأرض تبكي ” يخاطبه بمفرده كإنسان موجود يحلم ويشعر ويفكر بنسق الحياة التي عاشها معه لغاية وصولها بصديقه الى خيار وجود لم يسعه فيه حتى الى اقتناء موجودات مغايرة لذلك الوجود :

رأيتك في النوم
كنت حزينآ
ومنخطف الوجه
تلبس ثوبآ وطاقية من قماش بلون السحاب
وتحمل كفّك قبعةً
كنت اهديتها لك ذات شتاء
……..
………..
قلت : خذها
هنا لا يحلّ من الثوب إلا البياض (ص24)

لكن ماصفة ذلك الوجود (=المكان ) الذي لم يعطنا الشاعر تعريفآ عنه سوى ارتباطه بأحجية من الموروث القديم ترتبط بقصيدة “باب طيبه ” للشاعر رشيد ياسين . وبالتالي فالشاعر كاظم اللايذ قد أقحمنا تحت تراب جذور ترتبط بجذور قصيدته ما يحتّم علينا ان لانتجنب تحليل بنيتها وأغراضها من ناحية ,
ولكن هل تعمّد الشاعر كاظم اللايذ وهو يعرض تقنية القصيدة بتقنية قصيدة أخرى على المتلقي لجعله يتأمل جوانبها النقدية من ناحية أخرى ؟ وهل يسمح لنا ان نقول أنه تعمد أستحضار صوت أو استخدام تقنية الشاعر رشيد ياسين بعد تأثره بها فجعلها ركنا من اركان قصيدته ليدخل منه الى ماض مشترك أو ترابطي Associative بين الثلاثة سواء بالقصيدة او بالمكان او بالمحنة التي مرّ بها الشاعر رشيد ياسين نفسه ؟ الجواب يترك للشاعر اللايذ .
لايخفى على أحد ان من خصائص الشعر ان يكون بستانآ ببذور وجذور قصائد تزدحم بأغواءاتها لجذب المتلقي كما تجتذب الزهور مليكات النحل لتستثيره للبحث والدراسة , لأن الشعر ليس متاهة صحراوية تتأرجح بها محض رياح :

وأفنيت عمرك كالراهب المتبتّل
من كوّة الكهفِ
ترقب سير النجوم
وتعرف سر منازلها
وتشتم قبل الأوان رياح الفصول

ومن دون أن نخلط بين خيال الشاعر رشيد ياسين في قصيدته ” باب طيبة ” وخيال شاعرنا اللايذ , فالأول وظّف الأحجية بجزئية “إنه الإنسانُ..” , أي ذكر جزءً منها وأراد به الكل قبل الشاعر اللايذ كونها محفوظة في الذاكرة الجمعية على حد سواء مع مدينة طيبة الفرعونية ذات الآثار ومقابر الملوك والملكات والمعابد قرينة لبغداد .
فقد استثارته محنة الغربة والقطيعة عن بغداد , وعند العودة اليها بعد رحلة طويلة , جلس يخاطبها كقرينة لطيبة عند بابها المجازي , باب طيبة , ليواجه بالرفض من دخولها مالم يجب عن السؤال الذي تبناه اللايذ في قصيدته بالإيجاب لينقلب الى أيديولوجية المكان , إذ لم يعد الإنسان مرحبآ في مدينته إلا إذا تقبل تعديل إنسانيته جذريا ليكون إنسانآ مؤمنا بفكرة وجودها الحالي , بمعنى ان ينتمي الى تشكيل آخر لإنسانيته .
لكن كيف , ياترى , لإنسان أن يعدل إنسانيته عندما يعود الى مدينته بعد انقطاع طويل بالغربة وقد كانت مسرحآ لتدمير قيم المجتمع بكل المعايير حتى لحظة وصوله وتنصيب قيم زائفة لايمكن أن يعيش بها إلا بقناع :

لم يكن في جعبتي غير شموع ٍ وأغان ِ
عندمـا جئتك، يـا طيبةُ، تحدوني المقاديـرُ
لأُلقي جسـدي المتعـبَ فـي بعض ديارِكْ…
كنـتُ أسلمتُ البقايـا من نقودي
لصبي ٍ جائع ٍ أبصرتـه ملـقى على الدرب ِ،
ولـم أعبأ بـما سوف يـكون…
فبساتينكِ، يـا طيـبةُ، لا يـعدِمُ فيها العندليـبْ
دوحة ً تحضنه عند المسـاءْ…
هكذا صوّر لـي وهمي، ففـي طيبة كان الناسُ
فـي الماضي يـحبون الغنـاءْ!…

إلا أن الشاعر الللايذ وظّف الأحجية نفسها في قصيدته بنفس القصد تقريبآ لأن صديقه الشاعر مجيد الموسوي يشترك مع الشاعر رشيد ياسين بالمحنة نفسها , وهي محنة أن ينقلب الإنسان الى إنسان بقيم زائفة وبأمرة ابو الهول وهو رأس النظام . وبرغم قبول الشاعر مجيد الموسوي بزيفهم إلا أنهم أخلفوا بوعدهم فبقي في بيئته نفسها يصارع الحرمان كمن يبقى سجينا يراقب من كوة السجن مجرى الحياة .

أما الشاعر رشيد ياسين فلم تشفع أن تكون إجابته التي تنبأ بها قبل الوصول الى بغداد أمام المؤدلجين بأنه محض إنسان كافية لهم , بل جاء الرد من كبيرهم ساخرآ يقول له أنك كنت إنسانآ ولكن منذ زمان أما الآن فإن جواز مرورك هو أن تنتمي لفكرة الوجود الجديد , ثم أزدروه للإهتمام بزائر ثان ليعود على قارعة الطريق حسيرآ على اعماله التي جعلها من قبل مشاعل , لكنها الآن تضي على مدينة للزيف والعفونة وهو القائل في قصيدته ” صورة مناضل ” التي كتبها عام 1950 :

دعاك إلى الكفاح المرّ شعبٌ تحيق به المجــاعة والخراب
وتبهض منكبيــه شرور عهدٍ دعائمه فجـــور و اغتصابُ
و شرذمةٍ من العمـلاء هـانتْ ضمائرهم ، كماهان التراب
(رشيد ياسين – قصيدة صورة مناضل )

إذآ كيف يرتبط بهذا الوجود في خضم وضعه الحالي ؟ أيستبدل ثقافته بعد ان كشفت له شاعريته وصميم أدبه صور الحياة بالغربة والعزلة بأشكال جديدة وبمديات شاسعة , أيستبدلها بالقوس والنشاب وفي عتمة الدكتاتورية وتحت ألسنة نيران الحرب وفي هذا تقاطع لامتناه ؟!ّ فرجع حتى مات بالغربة :

وعلى بابـك واجهتُ السؤالْ…
كنـت أدري أنَّهُ آت فأعددت له نفسي طـويلاَ،
وطلبـتُ العلمَ في الصين ِ.. فسـارعت أجيب
“إنه الإنسانُ..”
وانداحـتْ على وجـه “أبي الهـول” ابتسامـه
مـلؤها الاشفاقُ والهـزءُ..
“ولـكنْ كان هذا من زمـانْ،
أيـها الآتي الغـريبْ!…
لم يَعدِ هـذا جوازاً للمـرور
لم يكـنْ وحشـاً مخيـفاً –مثلما تروي الأساطيرُ-
ولـكن كائناً فظ التـقاطيعِ،
لـه سيـماءُ تـاجرْ
وعلى سترته أوسمة ٌشتى، بـدا لي
أنها من ورقٍ زاهٍ ملوَّنْ…
وبـحزمٍ صاح بي أن أفسـح الدرب لزائـرْ
جـاء في مركبـة ذات ستائـر!…
وعلى أبوابـك السبـعة، يـا طيـبة ُ، كررتُ الإجـابه
وتـلقيتُ ابتسامـات رثاءٍ و ازدراءْ،
وتـكوّرتُ على قـارعة الدربِ،..
وحـيداً في المـساء
وتذكـرتُ حماقاتـي،
وغنيـتُ لنفسـي بكآبه!….
آه كـم يحـزنني أن شموعي، يـا مدينه
هي أوهى شـعلةً من أن تضئ
ليـلك المـرخى على عـهرٍ وزيـفٍ وعـفونه ( أوراق مهملة – قصيدة باب طيبة )

في قصيدة ” البصرة في الحلم ” يبتدأ الشاعر بالمجاز الكينوني , إذ شبّه مدينة البصرة بسيدة جميلة . ثم يرسم الشاعر بالدهشة لوحة سينماتيكية Cinematic رومانسية يتقارب فيها الشعر مع الحلم أو يحاذيه Asymptote, فيوحي بها الى عمق إندهاشه لشرخ الشباب والجمال العجيب لسيدات البصرة الجنوبيات المنتسبات للطبقة الفلاحية كقرينات للبيئة الجنوبية بالرغم من إنغماسهن بالأرض بين النخيل والجداول , إلا أنهن لم يتجاهلن زينتهن المستمدة من حلي البحر والمصنوعات الريفية البسيطة.
وهنا أجاد الشاعر في إدخال (= استحضار) موجودات (= تراث ) من بنية البيئة في القصيدة للتعبير عن المجاز الأنطولوجي البنيوي structural metaphor وتوظيفه للتعبير عن الذهول الذي يتخطى مكانآ أجاز للسيدة أن تكون فيه جميلة الى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه معنويآ وهو مقام المليكات , نظرآ للجمال الذي أتسعت به السيدة واستحقت عليه رفع رايته البيضاء بالرغم من الأكسسوارات الريفية البسيطة ,

وهو بمعنى أدق تجاوز للصفة , إذ يرفعها من الريفية الى الملكية وهو تجاوز على حدود الحقيقة المتمثلة بالبيئة وبالسيدة الريفية الى الكمال ليعطي قيمة عليا للجمال من خلال اللغة .
لم يعمد الشاعر الى كشف شيء من المجهول , بل رصد الجمال الذي استفزه , المختبأ في بيئته ليرفعه بالشعر الى منزلة الملوك مثلما رفعه الحلم اليه عند تسائله صاحب الدكان , وهو تقييم جمالي ببصيرة تعبّر عن ماورائية Metaphysics وإندهاش , كما اسلفنا , للعين البصيرة وبقناعة شخصية لشاعر , كما أنها حجة تؤيد ان هذا النمط من القصائد هو صنف من القصائد الشخصية بشكل واضح :

جاءتني البصرة في الحلمِ
سيدة
فارعةً
تنقل خطوتها
مثل ملاك من بلور
………
………
كانت تلبس اسمالآ
وخفافآ من ليف النخل
وتحط على الجيد
قلائد من صدف
ومحارات تلقيها الأنهار على الشطآن
وتعلق اقراطآ
من خرز
مما كانت تصنعه الفلاحات ..
دعني أسأل
صاحب هذا الدكان
…..
هل هذا – في بلدتكم –
ماتلبسه الملكات ؟! (ص30)

في قصيدة ” الشيخ النجدي ” نجد البنية السردية , وفكرة توظيف الشعر للإرشاد الأخلاقي . في هذه القصيدة يكشف الشعر عن نماذج من رجال دين يقومون بخرق واضح لقوانين الحياة تحت قناع الدين بعدما يحرّفونه عن مساره الحقيقي . ففي القصيدة يرصد الشاعر حالة حقيقية أو متخيلة في موضوعة التجارة مع الله وتوحيد المسلمين من خلال القرآن والسنة النبوية ,
وهي حالة الشيخ النجدي الذي قرن فيها الشاعر هجرته بهجرة الطيور كدأب يومي في البيئة البصرية , فيرفع الشاعر رايته الحمراء ضده بعدمآ تبين أنه تاجر غشاش مع الله ومندس جاء لينزل بين علماء البصرة لينهل منهم اصول الفقه وحسن البيان لتقر عيونه ويستفيد من ذلك المنزل كتاجر , إلا انه لم يعمل بما نهل من علوم أو أسهم بتعليمها , بل كان من المتفيهقين (= المتكبرين) عليها ومن الذين أبغضهم الرسول ص ,
متضخمآ بتعاليم من أرسله من جوف الصحراء فبقي على تعاليمهم يستطيب بها لنفسه ويراها من سجايا السلف ولم يجد من دروس الإصلاح التي قدمتها اليه البصرة سبيلآ له , وهو في هذا لم يوف بعهده فقايض الأمن والسلام بالسيف وقطع الرقاب وهي مخالفة صريحة للآية ” يا أيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة ..الصف 11 ) ومفارقة واضحة في سلوك الإنسان مع المعتقد كشفها لنا مصباح الشاعر بعواقبها ليبرز لنا سمة الضدين بأسلوب شعري بسيط , الجدير بالذكر أن الشاعر عبد الله بن ابي عُيينة كتب في مثل ذلك بمستدلّ يقول فيه : ما لا يكون فلا يكون بحيلة أبدآ وما هو كائن سيكون , وهي لا تخلو من درس آخر يقدمه الشاعر ليحذر به العاقل والجاهل من هذا العمل المهين , وحقيقة لا يشاح عنها النظر :

أعرابي , يحمل قرطاسآ
يدخل من ” باب المجموعة ”
في سور البصرة , من جهة الصحراء
يسأل عن مسجدها الجامع ..
…………..
…………..
في الأفق طيور نلمحها
قادمة من جهة الشرق
في كل شتاء تأتي
تمضي عطلتها,
………….
………….
بعد شهور
صار النجدي يقول كلامآ مختلفآ
……………
ويشيع حديثآ لم يألفه الناس
ويماحك فيما يطرحه الشيخ على المنبر
حتى ضجّ الناس
وأسرّ البعض له شرآ
……….
……….
حين اتوه وهم يخفون خناجرهم
لم يجدوا النجدي
وجدوا بقعآ سودآ مثل الجدري
على سجاد المسجد
……..
……..
كانت فاتحة لميازيب دماء
وفجائع كبرى
ومذابح
أبشع ما اقترفت
في تاريخ الإنسان .

في قصيدة ” الحسن البصري ” التي كتبت في كانون الثاني 2018 وهي عن التابعي الذي لم يلتق بالرسول الكريم وإنما بالصحابة الكرام ليس إلا , تتأرجح بين القناعة والموقف المؤثر . فالقصيدة في ظاهرها وباطنها ذات خصائص خطابية وموعظة , يعتمد فيها الشاعر تارة على عاطفته في مخاطبة النفس البشرية وإثارتها بجمال الكلمة المعبرة عن النهج الأدبي الرصين الذي تبناه الأمام البصري , وتارة على توظيف توقيعات البصري نفسه التي تبرز نماذج عن الإيجاز باللغة التي كانت سائدة في عصره وتأثيرها من الناحية الفقهية بالناس لما تخلفه من أثر بالنفس عند تربيتها على تقوى الخالق .
وفي هذا الجانب عمد الشاعر أيضآ على قيام الشعر بوظيفة الإرشاد الأخلاقي لما له من إيقاع حسن في النفس كفن لم يقف مكتوف الأيدي من دون ان يكشف عن الجمال والكمال أو أي خرق في قوانين الحياة الطبيعية , أو تهديد لوجود الإنسان منذ عهود ,
اندفع الشاعر برايته البيضاء لهذه القصة مؤيدآ بقناعة لها كدلالة على تردي الإنسان وبشكل غريب في وقتنا الحاضر , وهذا ربما قاده الى ذلك , فالغرابة والتساؤل ومقارنة الماضي بالحاضر هي سمة شاعت بين الناس في عصرنا الحالي بشكل لافت.
والقصيدة بشكل عام فيها كشف جواني بمصباح الشاعر عن تأثره بهذا الرجل الورع والتشبث بتعاليمة ( هذا ما ظلّ الحسن البصري يلقنني ص36) في خضم الظروف التي احاطت به , السياسية والإجتماعية منذ نشأته كأنه يقارن بها بين بيئة وقصة إنسان وبين ما يجري في هذا العصر من خلال تناوله للمحة من أدب وورع الحسن البصري الأسلامي وثقافته التي نشأ عليها بين يدي الصحابة الكرام حتى اصبح داعية لها ومعلمآ بها :

” مصروع من صارع أهل الحق” .
الحق مهاب
فدِرّة عمر بن الخطاب
اهيب من شفرة سيف الحجاج ”

مع أن الشاعر لم يطرح اي موقف مذهبي ليزيد من تأثرنا بهذا الرجل الصالح , إلا أنه أمعن بالتركيز على مكانته العظيمة بين الناس وأخذ العبرة من دوره في التربية والتعليم مما زاد في قناعتنا به ليس إلا , والقناعة هنا المقصود بها قناعة النفس بمايقوله الرجل من دون أن تكون ذات تأثير على المدى البعيد لأنها من دون موقف , كما قلنا , مؤثر.
والحسن البصري لم يدرك الخليفة عمر بن الخطاب(رض) , لكنه أدرك الحجاج وله معه مواقف معروفة عن بغضه له .الخصلة الأخرى التي يطرحها الشاعر في القصيدة هي موضوعة المقارنة بين المادي المتمثل بسيف الحجاج الذي كان يقضي به ظلمآ بين الرعية , وبين غير المادي المتمثل بالتراث الثقافي المهيب الذي ورثه البصري من تربيته بين الصحابة , فدرة الخليفة عمر الفاروق وهي السوط الذي جلد به نجل الوالي عمر بن العاص احقاقآ للحق ,
أما درة البصري فهي الفقه الذي كان يقضي به بين الناس في مواجهة الشر الكامن في كينونة الإنسان . وهي ليست بالشيء الهيّن في ذلك العصر الذي اختص ببقايا المزاج الجاهلي المتعصب للقبلية , أن يقمع الحسن البصري بالفقه غير المادي سطوة ذلك المزاج ولفترة طويلة فتهابه الناس أكثر مما تهاب سيف الحجاج , وهو درس يعظنا به الشاعر لنعلم أن التقوى خير زاد للحوادث يُذخر :

لا تأخذ دينك من تجار الأسواق
ولا تقرب من اهل السلطان (ص36)

في قصيدة ” الطيارات على صنعاء ” يرفع الشاعر لها رايته الحمراء , وأفاض بها بالأستنكار والسخرية والأزدراء للحرب التي أخذت بأطرافها دولآ عربية لقتال شعب اليمن العربي المسالم , وعبر فيها بغضب عن رأيه بالحرب ومصائبها الدموية المدمرة بكلمات سهلة وبسيطة اسهمت في بناء قصيدة بعيدة عن التعقيد والألتواء وهي بالطبع السمة التي يتصف بها شعره في هذه المجموعة :

لا يبدو الأمر غريبآ
فهي هناك تزمجر
منذ ثلاثة اعوام
…………
………..
ليس مهما ماترسم او تهدم
مادام مليك الحرمين يباركها
وتباركها دار الإفتاء
ودار السادة في ” البنتاغون ”
وجامعة الدول العربية .. (ص38)

ومن ناحية أخرى فالشاعر كونه مرآة يرى بعينه مايحدث على الأرض ولاشيء لديه سوى ان يطلق شعره ليعكس مايراه باللغة من دون تردد او استحياء . لذا فإنه يكشف عن حقيقة برموز مجازية للتعبير عن استنكاره لما تقوم به من دور بالحرب ” مليك الحرمين , دار الإفتاء , دار البنتاغون وجامعة الدول ” التي تدل على الاطراف المنضوية بالحرب من دون ان يمس جانب الكراهية في شعره وخاصة ضد هذه الدول الغنية بأسلحتها وطائراتها أو دار الإفتاء الذي إزدراه الشاعر لدوره الزائف والمنزلق للإستجابة لمليكه بدلآ عن الإستجابة الى صوت السلام الذي يقول فيه الحق : ” وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فإصاحوا بينهما , الحجرات 9″ الذي يتعارض بين الإدعاء بفهم الفقه الشرعي الداعي اليه وبين ماتخفيه تلك الدار من تملّق لمآرب دنوية زائلة , كما ازدرى الدول العربية التي عبر عنها مجازآ بالتابوت لأنها ماتت وسقطت من يدها العصا كما يقول المثل :

الطّيّارُ يرى خارطة الوطن العربي
من البحر الى البحر
كتابوت مطروح في الظلمة ينتظر الدفن (ص42)

بالذائقة نفسها التي الفناها في قصائد اللايذ وبعالمها الخارجي والداخلي وبعبق العاطفة الجنوبية , جذبتنا القصيدة الشخصية ” كأنه يمشي بثياب الإحرام ” بسرديتها التي تفيض عاطفة بنكهتين , الأولى رثائية والثانية تأريخية وتعريفية . فالقصيدة عن بائع كتب معروف بين أدباء البصرة , كرّس حياته منذ شبابه بفن التصوير حتى وصل به الحال الى بيع الكتب الأدبية في محل تحت فندق بائس يقع في زقاق كئيب من أزقة محلة البجاري في مركز العشار وسط مدينة البصرة التي كانت سكنآ للكثير من العوائل الفقيرة والغنية الكريمة منذ عقد الستينيات والسبعينيات ,

ولكن بعد احداث التسفير للعديد من العوائل في عقد الثمانينيات إضافة الى معطيات حرب الثماني سنوات , جرى الأهمال المتعمد بالشكل المرئي للمحلة من كافة النواحي الخدمية , فغادرتها العوائل الغنية جميعها إلا من العوائل الفقيرة التي بقت مخدوعة بالآمال واسيرة الورطة , إذ لا تستطيع تحمل اهوال المغامرة ببيع بيوتها والانتقال الى مناطق اخرى ولا يوجد طرف آخر يملك النفوذ , او القيم التي تحفظ الافراد من الضياع , لتحريرها من عفونة ذلك الزقاق الذي اصبح منذ عام 1963 كأنه عاصمة للمياة الآسنة بالعالم , فبقيت مع كل عابر سبيل فيها يكيلون الشتائم الى ان يجدوا مخرجآ لهم , ويدعون على بلدية البصرة بالعمى والخراب الى يوم الدين .

أما خرائب البيوت الباقية والفارغة , فقد استغلها اصحابها كمحلات لتأجير المواد الأنشائية بعدما قاموا بترميم الزقاق بشكل يسمح للعاقل ان يجتازه بشيء من الشجاعة . في هذا الزقاق يكشف لنا مصباح الشاعر عن أحد افراد المحلة المتمثل ب (معين) , ومن هنا بدأ الأدباء يتعاملون مع معين ويمدون له يد العون بالمعاملة من تحت حجاب الكتب ومن بينهم شاعرنا :

في الزقاق الذي ينحدر الى المقهى
عثرت قدم ( معين )
بقنينة خمر القاها سكير عابر
فسقطت ابتسامته على ” بسطة الكتب ” (ص44)

وفي عيشة لا ترضي , عاش معين راضيآ , طويل الأناة وباسمآ مبتسمآ أينما تراه , في حياة خلقت منه بالنهاية موضوعآ سرديآ بالشعر على قدر ما بينه وبين الشاعر من اتصال . فالشاعر في تناولة موضوعة موت بائع كتب , إنما يكشف عن خصائص حياة إنسان لا تنسجم مع خصائص عصر عاش به معين ومن امثال معين , ففي فترة الستينيات لم يحسن الزمن بأخلاقه مع الفنانين والأدباء والناس بشكل عام , فكل واحد منهم يستحق الآن قصيدة أو رواية توثق سيرة حياته أو تمثالآ ليكون نورآ هاديآ للأجيال , إذ لا جدوى من بلاد تقوم على سهل وجبل بلا نخبة من اعلام الأدب والمعرفة :

إذا كانت الحياة بستانآ
فإن معينآ لم يأخذ منه
إلا ما يأخذه العصفور ( القصيدة نفسها )

في القصيدة وصف لكيان انساني عاش بين يدي الحياة , والشاعر يقف ليس ليظهرعاطفته بالشعر إزاء معين فحسب , بل ليطهّر المجتمع من سوء فعله وتقصيره مع معين كنموذج بوهيمي مهمّش لايرتبط بالعالم بشيء سوى بدنه , أما روحه فكانت في قالب مثالي بالسلوك والزهد وحب الناس وبقواعد غير مألوفة لدى الآخرين , لأن الشاعر مرآة المجتمع والمعبر عنه ومن غيره يقوم بلسان حال المجتمع ؟ :

لم يكلّف اهله إلا قماشة الكفن
ولم يكلّف اصحابه إلا لافة النعي
ولم يكلف خزينة دولته
دانقآ او درهما (القصيدة نفسها)

يتضح من المناقب التي تصطف بالقصيدة وهي تمزج الواقع بالخيال , ان الشاعر ينتحب رثاءآ لهذه الروح الصابرة وبإحتجاج واضح على خرس الحياة , ويستعرض مفاهيم دينية وفلسفية ونفسية القصد منها تعريف القارئ والإدلال على صعوبة الحياة البوهيمية في ضوء حركة معين في بيئة ومجتمع لا يساند أحدهما الآخر مما جعل الحياة والدولة في حالة انفصام معهما في زمنين ماضيين , زمن الحرب والحصار وزمن ما بعد السقوط .

هذا الإنفصام كان المصدر لإلهام الشاعر لكي يرفع رايته الحمراء محتجآ وغاضبآ بالشعر إزاء محنة معين الذي اختار وجوده وذاته بالحياة رغمآ عن أنفه فصغِر لهما وتنحى جانبآ , إذ لايستطيع اي احد ان يختار محنة أيوب ويلزم نفسه بها بإرادته مالم يكون خاضعآ لتلك الروح التي منحتها له إرادة خالق لتخضعها بعلاقة تتعارض تماما مع البيئة والمجتمع والحياة .

والشاعر هنا لايصرخ ليبرأ نفسه , بل يصرخ بوجه من لا يأخذ العبرة من الحياة , التي لا تعطي وإن كانت تعطي القليل وتأخذ الكثير , وينبه بالوقت نفسه كل من يرغب في حب الناس على حد سواء , برسالة يدسّها خفية في نصه الشعري ليقرأها الأثنان بتبصّر لما يكتبه وخاصة الأدباء وما يرسمه الفنانون لأن في اعمالهم شكوى من الحياة الشاذة التي تلتهم الإنسانية في غفلة منها , وهي الطريقة الوحيدة التي ينبغي بها مخاطبة العقلاء من اجل نصرة الحق , كما هي الطريقة التي يخاطب بها الناس البسطاء أمراءهم بعبارة ” اصحاب السمو ” ليهتموا بالبيئة والإنسان لأنهما قوام الحياة الأقتصادية والأجتماعية :

لم يكلف احدآ ساعة رحيله دمعة
فقد واجه الموت في فندقه وحيدآ
لا يدري احد
في اية ساعة
طارت حمامة روحه , وحلقت في الآفاق ؟
……..
……..
صار يكتفي من يومه برغيفين
ويكتفي من عامه بطمرين
طمرٍ للشتاء
وطمرٍ للصيف
لم يفتح عينيه على وسعهما , في وجه الحياة
ليصيح : أريد هذا
ولا أريد ذاك
بل انتحى جانبآ
منتظرآ ان تمنحه الحياة مايريد
ولكن تلك السافلة لم تفعل
………
………
يمشي ..
وكأنه في ثياب الإحرام
يخشى ان تدوس قدمه على دودة
او تزهق عثرته روح صرصار

هذه المناقب تستمر بالقصيدة حتى نهايتها للدلالة على دماثة الخلق البشري البعيد عن الاهداف النفعية من ناحية , وعلى عمق المأساة لرجل يصارع الحياة والزمن عاريآ من كل شيء إلا من ابتسامته التي دأبت مشرقة على شفتيه حتى الموت :

خفيفآ حمله الدفان
وخفيفآ انزله الى مثواه
وطيعآ , وسّد خده التراب
وأقفل عليه اللحد
وبسلاسة انهمار الأمطار على السهول
أهال عليه التراب . ( القصيدة نفسها)

في قصيدة ” مثل طائر الفلامنكو .. احجل على ساق واحدة ” التأبينية , الحوارية الشخصية والوصفية بمسؤولية بلاغية , التي تبوأت مقعدها عنوانآ للمجموعة , يخاطب فيها الشاعر رجلآ بمقاييس المفردات التي يصفه بها , إلا أن الشاعر تعذر عليه الإفصاح عنه بالأسم أو بالمهنة فتركها للإستدلال Inference باللغة الشارحة (= الربط المنطقي بين جملة وأخرى ) Metalanguage لنحكم عليها بالصدق الممكن او بغيره , إذ كل كلمة يصف بها صديقه الراحل تنسل من روحه حكمآ أخلاقيآ وسلوكيآ , وهي بالمقابل كانت ادوات الراحل في نمط الحياة الدنيا :

منذ عامين
وانت غاف على التراب
انت الذي لم تكن تسمح للغبار
ان يمسّ حذاءك
ولا للهباء
ان يلوث قميصك
ولا للهبة العابثة
ان تطرحك على الارض ( ص48)

من الواضح اننا امام موهبة شعرية فردية لا يمكن رسمها بالمنحنيات أونكتفي بمراقبتها كيف تضع النص وفقآ لمعايير ما , بل يجب إخضاعها للتأويل لأن الشاعر غير مسؤول ان كان الناقد يراه وقحآ أو متلاعبآ بالألفاظ ويسمي الأشياء بألفاظ مختلفة . لذلك نحن نرى هنا ان في الابيات السابقة عبارات مديح أكثر مما هي رثاء مرير يطفح بالحزن , وهذا لايعني أن الشاعر لم يعرف الحزن من قبل , بل هو في كل القصائد يعزّ اصدقاءه بشكل خاص وقومة بشكل عام فيقعدهم في خير مقعد بالشعر , إلا أنه هنا يتعامل مع الحزن بصورة مختلفة وبقرار مستقل عن الآخرين , ومع الأسرار كذلك , فنراه يبوح باسراره بشكل صريح ومهذب , ويبثّ من روحه صنفآ من التعبير خاص بنمط الراحل الثقافي من واقعه بالحياة التي يقظت فيه حالة الإزدراء للموت وليس الحزن الذي يوقظه الموت بطريقة مفزعة , أي بتعبير أدق , ان طعنة الموت لصاحبه لم تكن عميقة ليعطيه حزنه العميق ,
أي أن الإفضاء (= تصريح) بمكنونه إزاء صديقه الراحل وكأنه أمامه يعاتبه على نقيض مارآه فيه من قبل متجاهلآ الموت الذي يقف امامه الناس بإعتدال صارم , إذ تركه غير آمن , وحيدآ بلا احد يشد ازره مثله في ذلك كمثل طائر الفلامنكو الذي دأب بالوقوف على ساق واحدة لعدم شعوره بالأمن حين يقف على ساقين . هذا الإفضاء هو حفاوة يراها أكثر وفاء وقيمة مما يفعله الأسى والحزن وبتعبير أدق فإن الشاعر أنشغل عن الحزن بمناقب الراحل , وكذلك يكون الإفضاء فإنه إما يكون أسيرآ بقوانين اللغة أو الطبيعة ( =الحياة ) التي تقول إذا حدث شيئآ للدالة أ فسيحدث للدالة نفسها شيئآ آخر حتى تنتهي إما الى حالة من التطور وإما الى حالة من السكون الأبدي كحالتين لا مناص منهما :

الساعة في معصمك الأيسر , متوقفة
والأرقام على الواحها تقرأ : صفرآ
وأبتسامتك الأليفة .. خارج الزمن ( القصيدة نفسها)

وليس من المدهش لهذا الإفضاء ان نستدل به على ذلك , ونستدل به أيضآ على الاتصال الوثيق بين الشاعر وصديقه الراحل , وظاهر سلوكه المميز بين المجتمع , حتى أننا نصل في جزء من الإفضاء باللغة الى ان الراحل هو شاعر , إذ لا يملك أحدآ قلبآ مملوء بالأغاني سوى الشاعر :

وقلبك المملوء بالأغاني
متوقف تمامآ عن الخفقان

ولعل الأبيات الأخيرة تنزع الى الحزن بعدما تشكلت ابيات القصيدة الاولى بالمديح كأنه في هذا كان يخبأ حزنه وآن له أن يسربه بعهد البقاء معه في نهاية القصيدة :

هل لمحت اليمامة
وهي من روح وريش
محلقة في العراء الذي اتخذته سكنآ
ثم تحطّ على كومة الرمل
لتسمعك نحيبها طوال النهار؟
……….
………
هل رأيت يدآ
تنبثق من تحت عباءة الغبش
تمسح على شاهدتك
وتهمس لك شيئآ
ثم ترش احجارك بالماء ؟
أبدآ ماتركتك وحدك
أيها المغادر باكرآ
يا من تركني مثل طائر الفلامنكو
احجل على ساق واحدة . ( القصيدة نفسها)

مما تقدم نلاحظ ان الشاعر كان يتحمل مسؤولية إضاءة ماحدث في حياته بالإعتراض والتأييد للصراعات الخارجية , وهو كالكثير من الشعراء الذين تجاهلهم النقاد بسبب قراءة نصوصهم الشعرية بجهل وسذاجة لكونها خالية من الجدل الظاهري الذي يحفز على النقد كقصائد اليوت ونازك والسياب والبياتي ,
بينما الناقد المتحمس الذي يمهد للأدب ويدفع بعجلتة الى الآمام نراه ينقب عن الحقائق وإن كانت بسيطة في القصائد الشعرية لغرض إنجاب آراء تهدي وتنبه من يهمه أمر الأدب الى الكتابة من دون ان يتوقف وكأنه في سباق ماراثون لحيازة كأس الإبداع , إذ من دون هذا التمهيد لايمكن بناء محطات للأدب .
وهذا الأمر ليس بجديد على القارئ , بل مانقوله هنا قد قاله العديد من المعنيين بالشأن الأدبي وخاصة الروائي والناقد الأميركي جون البرت ماسي John Albert Macy (1932 – 1877) الذي يصف الناقد الممهد بقوله ” إنه الناقد الذي يدعو الغرباء بسحره وبراعته الى التعرف على رجل عظيم ” .
وها نحن هنا بعد ان أستعرضنا ماتيسر من قصائد المجموعة للشاعر كاظم اللايذ التي أستمدها من تأريخه الشخصي ومن الحياة والبيئة البصرية , فأمتازت البنية الفنية لنصوصها بسبيلين , المعارض والمؤيد للصراعات شكلآ ومحتوى , وذات صلة وثيقة بالأعمال الشعرية الكبيرة في الأدب العراقي بشكل عام , إذ أن الشاعر لم يغفل خطاب التلميح للوطنية والغلبة للإنسانية والدعوة الى الجمال وتمجيد الحياة اثناء السلم , لكي يخضع القصيدة للتأويل المفتوح أوالتشبيه أو الأستعارة أو اسلوب ترابط اللغة بشكل بسيط ومقنع أو بالبيئة المحلية ونكهتها الجنوبية , كونها ترفد الحركة الشعرية البصرية التي تمثل أحد الوجوه الرئيسية للفكر والأدب العراقي المعاصر بلون جديد للشعر وبإداء بسيط , وتثير في النفس البشرية الكثير من التأملات الأخلاقية والإنسانية .

ففي قصائده يتفجر المعنى في ركن الشكل والمضمون بشكل مختلف من قصيدة الى أخرى على الرغم من أنه يتحاشى بل ويهمل أولآ , التأييد والمناصرة لأيِّ أيديولوجية أو فكرة شاذة من افكار الغرب , مع ان الحياة لا تتورع ان تجمع النقائض وثانيآ , الزخرفة والغموض وتوظيف الرمزية أو الملاحم لكي لا يكون الشعر قشآ يبحث فيه الناقد عن أبرة المعنى بصعوبة على الرغم من قدرته على ذلك , لكنه دأب يركز على الحقائق والأحداث التي تجري في مجال شؤون الإنسان المُتغيِّرة وعلى الدوام في جميع قصائده , ثم يبدأ بالتنبيه والإرشاد بروح بصرية خالصة من دون إقحام أو مباشرة عند دراستها بدقة لأنه لايريد أن يكون بالضرورة , وكما يبدو , من عصبة الشعراء الذين يلهث وراءهم النقاد سعيآ للشهرة فحسب .
وكان الراحل الشاعر حسين عبد اللطيف محقآ فيما ابداه وكنّاه عن الشاعر , لكنني عثرت بعدما بقرنا بطون قصائده , على مقاصد كثيرة في شعره , أولها , أنها خالية من المقذع (= السيء ) من القول والإنتحال , وثانيآ , أنها بأصناف عديدة ; فمنها السرد والحوار والتلميح والاحتجاج ونصرة الحق والعناء والرثاء واليأس والتضاد والتحذير بالدروس والعبر . ولم يخلُ شعره من صدى الموروث فكان بالنهاية التي اوجزنا فيها اشطر شعره أنه من سيماء كبار الشعراء بكمال البساطة والبيان .
في القصائد الباقية كقصيدة ” آن لك ان تموت ” يعكس الشاعر عن صورة معدلة عن موقف الإنسان من الموت بإعتباره سلوكآ طبيعيآ في الحياة وضرورة من ضروراتها , إذ لامكان لمجتمع جديد من دون ان تتحقق فيه فكرة الموت , ثم عرض وجوها في الحياة لايمكن ان تتغير او تستبدل إلا به .
اما قصيدة ” الطيور التي لنا ” فهي بنكهة القصائد السابقة , يضع فيها شروطآ للإنتماء الى مجتمعه الأخلاقي المتمثل بالطيور . وقصائد اخرى حوارية شخصية طافحة بالعاطفة الإنسانية وكشف بشيء من التفصيل عن وجوده ودوره داخل النسق الأجتماعي كقصيدة ” خالاتي الجهيرات ” , التي المح بها عن تراجع بعض نشاطاته عما كان عليه قبل عقود مما اعاقه التراجع من إداء ضروب اخرى من الافعال وهذا بالطبع يترك اثرا سلبيا بالنفس .

حتى تنتهي المجموعة بقصيدة ” مرمم القبور ” السردية الحوارية , وهي قصيدة توحي باعلان للإصلاح الأخلاقي وهي في حقيقة الأمر مأساة العصر , لذلك فهو يطرح فكرة ان يقوم المجتمع الى جانب الدولة بحمل جداول وخرائط للإصلاح في كافة المجالات الى جانب جداول إنتاج المعادن أو المحاصيل الزراعية لمعالجة مرض الفساد المنتشر في كل البلدان .
والشاعريختار جبهة القبور ليضعها بإزاء جبهة الأدب ويبدأ :

ارمم القبور
وتلك مهنتي
مهنتي التي لم أتعلم سواها .. (ص112)

قد يبدو للقراء ان الشاعر يسخر من القدر الذي اجبره على الصمت إلا من ترميم القبور , لأن القدر يدرك خطر الشاعر لذلك يبعده الى مكان آخر . ولكن يجب وصف وتحليل هذه التقنية بشيء من التفصيل . فالشاعركفاعل أدبي في خضم الأوضاع السياسية الجارية بالعالم , نراه مطرودآ من المشاركة بأي قرار أو رأي مع من أستولى على السلطة في أيِّ بلاد من بلدان العالم بسبب مواقفه في مواجهة اشكاليات الحياة التي تجابه بالخرس , إذ أن الأدباء في كشفهم للحقائق يقّلب حماليق الحكام الطغام لهول انيابها على إنحرافهم , ولكي يبقى الشاعر بطلآ يقارع التهميش فقد شطب صفتة امام عبارة المهنة ووضع محلها صفة مرمم القبور ليحلَّ بها مكانة الأديب (= الشاعر) .
وبهذا المعنى ظل كالجندي الذي لايعرف سوى مهنة التدريب , أما هو فمهنة الترميم (= الإصلاح) سواء كان شاعرآ أو مرممآ للقبور . هذا الطرد الجأ الشاعر في كل مكان بالعالم الى تشييد قصائده بعناية لمحاربة غلواء الحياة وصمت الحكام إزاء الإصلاح في كل شيء حي قبل ان يستلقي بالنهاية في القبور حيث لاقيمة عندئذ للإصلاح إلا بشواهدها والدعوة للصالحين بالعودة للحياة وكأن الخيار الأخير للإصلاح لايتم إلا بترميم قبورهم والدعوة اليهم ليملأوا الآفاق بالعدل ولكن بيأس واضح :

في دمشق
رأيت قبر ” بلال الحبشي ” منهدمآ
ينبعث من ترابه
اريج النبوة
………
……….
بعدها .. ناديته : قم ايها المؤذن الأول
ولتطر حمائم حنجرتك في السحائب
تملأْ الآفاق .

* مجموعة شعرية من منشورات اتحاد الأدباء والكتاب بالبصرة – الطبعة الاولى 2019
دار كيوان للطباعة والنشر / سورية – دمشق .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب