22 ديسمبر، 2024 11:40 م

مثقفو الحداثة .. أم مثقفو التمرد العربي ؟

مثقفو الحداثة .. أم مثقفو التمرد العربي ؟

عندما قامت ثورات الربيع العربي مطلع العام الماضي لم يكن احد يستوعب ما يحدث ومع فوضى الثورات والتغيرات السياسية ظهرت فوضى الاتهامات فاثار البعض تساؤلات غاضبة عن دور المثقف العربي في ظل ما جرى وما يجري من احداث ولماذا وقف جزءاً كبيراً منهم موقف المتفرج او الانتظار لما ستسفر عنه الاحداث والركون الى الصفوف الخلفية باستثناء اعداداً قليلة منهم رات في هذه الثورات المعبر الحقيقي عن تطلعات الشعوب العربية وانها جاءت وفق توقعاتهم وما تنبؤا به في اشعارهم وكتاباتهم و افلامهم السينمائية .
واذا كانت هذه التساؤلات قد فتحت الباب على مصراعيه لمناقشة وضع المثقف في مجتمعه ومدى قدرته على صنع الحدث او المشاركة فيه فانها ايضاً سلطت الضوء على حالة المثقف الخاصة بسبب انعزاله عما يدور حوله وغيابه وراء ابراج افكاره العاجية كما راى البعض ، ومهما كانت الاتهامات التي وجهت لهم فانها لا يمكن ان تلغي دور الادباء والمثقفين الذين ظهروا على مدى قرن ونصف وهم يطالبون بالتغيير والثورة على الانظمة القمعية  ومن دور الشعراء الذين تمردوا على قوانين مجتمعهم وناضلوا في سبيل التجديد والحرية .
هذه الاهمية ظهرت بوضوح عندما اعيد طبع رواية (كتاب خالد) اول رواية عربية كتبت بلغة الانكليزية للمفكر العربي أمين الريحاني بعد مرور قرن على نشرها عن دار النشر الامريكية بنيويورك فطبعت للمرة الثانية عام 2011 وصدرت طبعة جديدة ايضاً للكتاب عام 2012 بسبب تزامن احداثها مع ما يجري اليوم في عالمنا العربي خاصة اذا ما عرفنا ان الرواية تتحدث عن المعاناة من الفقر والظلم والقهر والتمييز في ظل حكم السلطنة العثمانية مما دفع أعداداً كبيرة من العرب في ذلك الوقت الى الهجرة مبكراً للولايات المتحدة الأمريكية ومنهم كاتب الرواية الأمر الذي مهد فيما بعد لظهور أدباء المهجر والرابطة القلمية .
وبعد اكثر من نصف قرن تظل قصيدة نزار قباني خبز وحشيش وقمر من القصائد المدوية وتمتلك حضوراً استثنائياً ودليلا على نفوذ الشعر وخطورة ملفوظاته وبالمقابل ترينا سوء القرارات التي تفهم الملفوظ خارج سياقه وتفضح تخلف بعضها وقصورها عن فهم دوافع الكتابة كما يقول الناقد حاتم صكر فكانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بين الشاعر وبين الخرافة حتى انها أثارت ضجة داخل قبة البرلمان السوري انذاك وداخل الوسط الثقافي فطالب بعض النواب بطرد الشاعر من السلك الدبلوماسي الذي كان يعمل فيه حيث يقول الشاعر في ابياته :
في بلادي
في بلاد البسطاء
حيث نجتر التواشيح الطويلة
ذلك السل الذي فتك بالشرق
التواشيح الطويلة
شرقنا المجتر …تاريخاً
واحلاماً كسولة …
وخرافات خوالي ….
شرقنا الباحث عن كل بطولة
في أبي زيد الهلالي …

ولم تكن تلك القصيدة هي اخر تلك المواجهات فقد كانت لنزار قصائد اخرى تميزت بالنقد للذات العربية ومنتقدة هزائمها المتعددة وانكساراتها وانقساماتها ، وقد حملت العديد من الدواوين الشعرية لشعراء عرب صورا انسانية معبرة تحمل الكثير من العذوبة والتمرد مثل ديوان اشراقة النيلين للشاعر المغمور التيجاني يوسف بشير ذلك الشاعر الذي توفي مبكراً واحرق أهله كل ما بقي من اشعاره بعد ان عاش حياة قاسية رافضا كل مظاهر التخلف التي حفل بها مجتمعه المحافظ وعلى الرغم من ان الشاعر توفي عام 1937 فان السودان بدأ الان يعيد اكتشافه .
ولا يمكن ان ننسى قصائد محمد مهدي الجواهري بكل ما تحمله من غضب وسخرية ورفض للحاكم المستبد وتمرد على المحظور حتى قيل ان قصائده تعكس تاريخ العراق ومنعطفاته واحوال شعبه مثل قصيدة (نامي جياع الشعب نامي) يقول فيها :
نامي جياع الشعب نامي
                        حرستك آلهة الطعام
نامي فان لم تشبعي
                       من يقضه فمن المنام
نامي على الخطب الطوال
                       من الغطارفة العظام
نامي تريحي الحاكمين
                       من اشتباك والتحام

كما غادرت الروح المتمردة للشاعر خليل حاوي جسده عندما انهى حياته ببندقية صيد في شرفة منزله في بيروت معلناً رفضه الأبدي للاحتلال الإسرائيلي للبنان عام  1982 ويأسه مما آلت إليه أوضاع وطنه ومن تحقيق أحلامه التي حفلت بها قصائده مما حجب أمامه أي بارقة للأمل يقول الشاعر في قصيدته ليالي بيروت :
ويدي تُمسِكُ في خِذلانها
خَنجَرَ الغَدرِ, وسُمَّ الانتِحارْ
رُدَّ لي يا صُبحُ وجهي المستعارْ
رُدَّ لي, لا, أي وجهٍ
وجحيمي في دمي , كيف الفِرارْ
وأنا في الصبحِ عبدٌ للطواغيتِ الكبارْ
وأنا في الصبحِ شيءٌ تافهٌ, آهِ من الصبحِ
وجَبْروتِ النَّهارْ

وبتلك الرؤية الناقدة للمجتمعات العربية كتب طبيب الأسنان علاء الأسواني روايته الشهيرة عمارة يعقوبيان حيث تعد من اهم الروايات العربية والعالمية  نشرتها 19 دار نشر عالمية وترجمت الى 91 لغة وتاتي شهرتها من العمق والتحليل الدقيق لامراض المجتمع والأسباب التاريخية التي صاغت المجتمع العربي وأوصلته الى ما هو عليه الآن .
وكانت افلام المخرج خالد يوسف احدى أهم الأعمال السينمائية المعبرة بواقعية شديدة عن اوضاع المجتمع المصري وعلاقة الفرد بالسلطة فكانت أفلامه تتنبىء بما حدث لاحقاً في مصر من فوضى وتظاهرات وانفلات امني وجموع المواطنيين الذين ملئوا ميادين التحرير خاصة في أفلامه (دكان شحاته) و(هي فوضى) .
قد تكون الشعوب العربية دفعت ثمن صمتها لسنوات طويلة من تقدمها ونهضتها وبناء إنسانيتها في الوقت الذي كان فيه المثقفون العرب ينادون بالتغيير على حساب حياتهم وحريتهم واليوم وقد عبرت الشعوب العربية عن إرادتها فلا يمكن ان نتجاهل دور المثقف ونضاله السلمي ضد الدكتاتوريات في مجتمعات أصبحت فيها الكتابة أشبه بمجهود الرهبان .