أفادتنا الألفية الثالثة باكتشاف معرفي خطير هو أن هنالك متلازمة بين التطرف والرذيلة بكل مسمياتها،وأقبحها الفساد والنفاق والانانية الخبيثة.ومع ان منطق العقل والتفكير المنطقي قد تراجع على صعيد العالم لصالح الانفعالات والمشاعر ،فان تراجعها في العراق تعدى حدود اللامعقول..وأكثرها غرائبية أن المواطن ما عاد يعطي صوته في الانتخابات لأصحاب الكفاءات بل يهبه لطائفي متخلِّف وسارق نهّاب..ولمرات!
والتساؤل هنا:وما الحل؟ هل يبقى الحال كما هو ام أن هنالك امكانية لتغييره؟وما هي وسيلة التغيير:الثورة؟ التمرّد العصياني؟التظاهر؟ واذا كانت التظاهرات قد استمرت خمس سنوات خائبات،فهل يعدّ مشروعا القيام بثورة او تمرّد والدولة تحارب الارهاب؟
تساؤلات توصلك في النهاية الى ان العراقيين يعيشون في محنة..وأخطر ما في المحنة انها تهزم الإنسان نفسياً،وأقسى الهزائم هي الهزائم النفسية،لأنها توصل صاحبها الى العجز التام،مع ان هنالك اكثر من وسيلة للتعامل مع المحنة..أيسرها :الانتخابات التشريعية المقبلة.
لقد تابعت كتابات مثقفين،من غير المحسوبين على السلطة،في الصحف وتغريدات آخرين عبر وسائل الاتصال الجماهيري لاسيما الفيسبوك،فوجدت ان اغلبها تشيع الأحباط في قارئها برسالة خلاصتها:انك ان ذهبت وانتخبت او قعدت في بيتك..فالأمر سيان لأن نتائج الانتخابات محسومة مقدما.اما أسبابهم فتجدها بهذه النماذج من كتاباتهم:
• شعب سلبي رافض لكل فعل باتجاه خلاصه.
• تغيير الحال بالعراق..حلم ابليس بالجنة.
• مع ان اغلب الفاسدين يعترفون بأنهم سرقوا الشعب..فان الشعب سيعيد انتخابهم.
• ماذا تسمّي شعبا يعيد انتخاب مَن أفرغ ميزانية الدولة وصرفها على اسرته واقربائه،واشترى الفلل في عواصم الدنيا وترك شعبه جائعاً؟
• وماذا تقول لمثقفين هرولوا الى مَن فشل في ادارة الحكم وباع ثلث العراق ليجملوا صورته فيعود حاكما من جديد؟
• من امتلك السلطة امتلك الثروة ومن امتلك الثروة امتلك (جماعة العكل..جمع عقال) وضمن الانتخابات.
• الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة” جورج اوريل”.
• المثقف العراقي صار رخيصا ياصديقي الا ما ندر.
• كاركيتير صور الشعب شخصاً محنياً بارز الخلفية والحكومة مارداً واقفاً وقد سددت اصبع يدها الأوسط الى مؤخرته.
ان التحليل السيكولوجي للمثقفين الذين يشيعون الإحباط بين العراقيين يمكن تصنيفهم الى ثلاثة:
الأول:صنف يتصف برهافة الحس أوصلته قسوة المحنة الى الشعور بالاغتراب الاجتماعي..اي حالة من الانفصال النفسي بين المثقف والمجتمع الذي ينتمي اليه.ومعروف عن هذا النوع من الاغتراب انه يوصل صاحبه الى انعدام الأمل ويجعله يعيش طقسا سيكولوجيا في مأتم يجمع بين جلد الذات والنقمة على الناس.
الثاني: صنف وصل الى قناعة بأن مواصلة مشوار التغيير لا تجدي نفعا،وانه معذور.. يكفيه ما خسره نفسيا وماديا في عشر سنوات،وان الرهان على الشعب قضية خاسرة.وبما ان من في السلطة باق رغم الشعب..وأن الحاكم محتاج للمثقف..فان عليه ان يغير السكة ليعيش.
الثالث:صنف وصل الى قناعة بأن مَن أوصل الفاسدين الى الحكم هو الشعب،وانه سيعيد انتخاب نفس الوجوه او اخرى هي (كوبي بيست)..وان شعبا بهذا التدين الغبي والتطرف المذهبي سيبقى ينتخب لصا ارتدى جلباب الدين ولن يسمع صوت المثقف حتى لو دعاه الى انتخاب بروفيسور في الاقتصاد الدولي.
ومع اختلاف الاسباب والتبريرات لدى هؤلاء المثقفين فان كتاباتهم توحّدها رسالة سيكولوجية تدفع بقارئها الى ان يقول لنفسه:(ما دام هذا المثقف الكبير يائس من تغيير الحال..فماذا عساي ان افعل حتى لو ذهبت الى الانتخابات؟).
والمؤسف ان لهذا الموقف استجابة لدى كثيرين مبررين ان مقاطعة الانتخابات تعني نوعا من الاحتجاج وادانة لبطلانها وللدستور ولقانونها..مع انهم يعرفون بان المحافظات الشيعية التسعة سيذهب الملايين فيها للأنتخابات لأسباب تعرفونها،فيما البديل يكون بتحشيد العراقيين بالضغط محليا وعربيا ودوليا لتعديل قانون الانتخابات.
والمؤسف ايضا ان هؤلاء المثقفين يدركون أن أحزاب السلطة تمني نفسها بعدم مشاركة واسعة في الانتخابات كي تبقى في مراكز القرار،لحقيقة سيكولوجية هي ان الانسان حين يكون في محنة فان الانفعالات والمشاعر السلبية تعطّل مراكز التفكير الخاصة بالحلول الممكنة لمعالجة المحنة،وهذا هو الذي يسيطر الآن على هذه الاصناف الثلاثة من المثقفين مع ان الواقع فيه من الاحداث ما يدعو الى التغيير. يكفي ان نذّكر الناس بان ما نهبته احزاب الاسلام السياسي من مليارات يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة،وانها أحالت الوطن الى خراب وأفقرت أهل وطن يعدّ الأغنى في العالم،وانها تخلق الأزمات لتشغل الناس عنها،وأنها عزلت نفسها في 10 كيلومتر مربع لتعيش فيها برفاهية وخذلت وأفقرت حتى من انتخبوها،وأن المرجعية التي بحَّ صوتها من اسداء النصيحة لحكامها..جزعت منها ودعت الى قيام دولة مدنية،وان احد قادتها قالها بالصريح (ان الجماهير باتت ناقمة على الأحزاب الإسلامية)،وان ما ارتكبته احزاب الاسلام السياسي يعدّ جرائم كبرى وخيانة ذمة وتهرؤ أخلاق لم يحصل في تاريخ العراق..وأن حكوماتها فاسدة باعتراف قادة مكوناتها،والبرلمان العراقي منعوت بأقبح أهزوجة شعبية (نواب الشعب كلهم حراميةّ)،وأن التظاهرات ما تزال مستمرة من خمس سنوات..ما يعني ان اسباب التغيير هي اقوى بكثير من اسباب بقاء استفراد احزاب الاسلام السياسي بالسلطة.
إن المثقف الحقيقي ليس ذلك الذي يشيع الإحباط والناس في محنة،ولا الذي ينصب مآتم رثاء النفس وجلد الذات بتغريداته وأشعاره في طقوس عزاء أدمن عليها نفسيا،بل هو أشبه بالنبي..يظهر حين تتردى الأخلاق ويشتد ظلم الناس مبشرا بالخلاص عن يقين،ولدينا من هؤلاء الانبياء جمع كبير يتمتع بالجرأة والشجاعة بينهم من وضع كفنه على راحتي يديه متحدياً فاسدين يمتلكون السلطة والثروة والقتلة،وان اصطفافكم معهم يقرّب ساعة الخلاص لشعب أوصله استفراد احزاب الاسلام السياسي بالسلطة والثروة الى أن يعيش بائساً مع أنه يعيش في وطن يمتلك كل مقومات الرفاهية.
نقلا عن صحيفة المدى