إن أسوأ خطايا البشر على الإطلاق، هو التعصب، أيا كان شكله وأيا كانت دوافعه ومبرراته. والأسوأ منه حاملـُه المُصابُ بلوثته اللعينة. ولو دققنا في نشأة الأديان كلها لوجدنا أنها جميعا جاءت من أجل نزع الحقد والضغينة والعصبية من قلوب البشر، ولهديهم إلى مباديء التسامح والتعاطف والتراحم.
أما الملل والطوائف والعصبيات والمنازعات بين دين ودين، وبين طريقة وطريقة في العبادة، فهي بدع مستحدثة تخالف الدين وتفسد روحه السامية.
ولم تشهد البشرية مظاهر القتل على الهوية الدينية أو المذهبية إلا في الصراع على المكاسب الدنيوية بين مغامرين طامعين في السلطة والمال، يغلفون أطماعهم بأغلفة الدين والمذهب والقبيلة.
وقد ثبت في جميع مراحل التاريخ البشري، وعلى امتداد الكرة الأرضية، أن الحكام المستبدين واُسَرَهم وأعوانهمَ من رجال الدين وأصحاب المصالح التجارية والصناعية كانوا أكثر المستفيدين من الصراعات الدينية والمذهبية والعنصرية، وأسرع العاملين على تأجيجها وتعميقها واستخدامها لحماية عروشهم وأطالة أعمارها .
وكم في التاريخ البعيد والقريب، معا، من حروب همجية مريعة سالت فيها دماء، واستبيحت محارم، وهتكت أعراض، ودكت منازل على رؤوس أصحابها، لم ينتصر فيها دين على دين، ولا طائفة على طائفة، ولا قومية على أخرى . وذهب كل ما جرى فيها من مظالم ومجازر ومذابح سدىً وهباء ً في هباء، ولم يُبق لنا التاريخ سوى عار من أشعلها وجهالته وهمجيتهِ المُستنكـَـرة.
فلم ينشأ القتال بين معاوية والإمام علي بسبب خلاف في فهم مسألة فقهية معينة، ولا على تفسير آية أو حديث، بل كان على الحكم والسلطان. ومِثل ذلك، لم تكن ماكنة القتل التي أدارها يزيد على الإمام الحسين وأهل بيته على اختلاف في اجتهاد أو طريقة عبادة، بقدر كونها حربا بين معسكرين يرى كلٌ منهما في نفسه الأحقَ بالخلافة.
والأمثلة كثيرة. وأقربُها إلينا، مكانا وزمانا، مقابر صدام حسين الجماعية، وفضائح القذافي وعلي عبد الله صالح وعمر البشير، وما خفي من مظالم حكام ٍعرب آخرين يستمدون شرعية امبراطورياتهم من الطائفة والدين، وكلاهما منهم براء.
وأكثر تلك الأمثلة وضوحا، وبشاعة في أيامنا هذه، مجازر بشار الأسد وأعوان ِظلمه وفساده. والأكثرُ إيلاما من مجازره ودموية نظامه مواقفُ رجال دين في إيران والعراق ولبنان كان ُيؤمل فيهم العدل والحكمة والرحمة، وهم يُمدون آلته العسكرية الدموية الباغية بالمال والسلاح و(المجاهدين).
وما يجعل هؤلاء الحلفاء أكثرَ همجية وحيوانية، ويُسقط عنهم أية علاقة بدين أو طائفة، أنهم يرون الحق ويحيدون عنه، وهم يعلمون. فهم أكثر من يعرف حقيقة المجازر البشرية المستمرة في سوريا من عشرة شهور، لكنهم يكذبون ويزورون، ويحاولون أن يقنعوا المواطن العلوي في الداخل، والمواطن الشيعي اللبناني والعراقي والإيراني في الخارج، بأن انتفاضة الشعب السوري من أجل الحرية واللقمة والكرامة هي حركة ” تمرد طائفي سني تحركه أطراف محلية وإقليمية ودولية لأشعال حروب طائفية سنية شيعية في المنطقة، كجزء من التآمر الأمريكي الأوربي الخليجي العربي على الثورة الإيرانية وحلفائها الممانعين والمقاتلين الصامدين بوجه القوى الغربية الاستكبارية الباغية”.
فأية شريعة وأي دين وأية طائفة يمكن أن تجعل رجلَ دين مهمتـُه الإمامة ُ والهداية والتسامح والعدالة والسلام لا يقبل فقط بل يشارك في ذبح أهلـه ورعاياه بالسكاكين؟
مناسبة هذا الحديث بيان لمجموعة من المثقفين العلويين السوريين أوضحوا فيه الحقيقة الفاقعة، وفضحوا مزاعم النظام السوري ورفضوها، وقالوا كلمة الحق المغيبة القائلة بأن ما يجري ليس حربا علوية سنية ولا يحزنون، بل هي معارك شعب كامل ضد أسرة بشار الأسد وحدها، وضد حكمها القائم على الظلم والفساد والاستغلال والاحتكار.
والذي يقوله البيان بطريقة ذكية ومنصفة وعاقلة هو أن أبناء االطائفة العلوية السورية ظـُـلموا من قبل الأسد الأب، وظلموا من قبل الأسد الإبن، بمثل ما ظـُـلمَ به غيرُهم من المواطنين.
فأوائل المعدومين على يد الأسد الأب علويون، وأوائل السجناء المؤبدين علويون، وأغلب المبعدين عن السلطة، والمُطاردين في سوريا، والهاربين إلى لبنان والأردن ومصر وأوربا، علويون. بل إن بعضا منهم، ممن احتضن حافظ الأسد، في أول حياته السياسية والعسكرية، وسعى إلى ترقيته وتوزيره، دخل سجن الحركة التصحيحية ومات فيه، فلم تشفع له لا علويته ولا أفضاله السابقة على الديكتاتور.
ومثلما يحدث عندنا في العراق اليوم، حيث يتستر حكامُنا الجدد بالطائفية أو العنصرية أو القبلية، لتبرير حروبهم الهمجية الأنانية البغيضة من أجل مواقعهم ومكاسبهم، فيُنصِّبون أنفسَهم ممثلين وحيدين لهذه أو تلك من الطوائف أو القوميات أو المناطق، فقد تسلط حافظ الأسد، ومن بعده وريثه بشار، على الطائفة العلوية السورية، قبل أن يتسلط على غيرها. واحتكر لنفسه ولأبنائه وأخوالهم وأبناء أخوالهم وحدهم حق التصرف بالطائفة والحديث باسمها.
ثم جاءت البينة أخيرا من داخل الطائفة ذاتها لتفضح الأكذوبة وتعلن الحقيقة الغائبة عن كثيرين. فقد أصدرت مجموعة من المثقفين العلويين بيانا خطيرا وجريئا فضحوا فيه محاولات النظام السوري ربط الطائفة العلوية به وبنظامه.
ودعوا المواطنين السوريين العلويين وأبناء الأقليات الدينية والقومية المتخوفين مما سيلي انهيار النظام الى المشاركة في إسقاط النظام القمعي، والمساهمة في بناء الجمهورية السورية الجديدة، دولة القانون والمواطنة.
كما أكدوا على وحدة الشعب السوري بكل أطيافه الدينية والقومية، والعمل على بناء دولة حرة ديموقراطية تحفظ حقوق مواطنيها بالتساوي، وهذا لا يتم إلا باسقاط النظام الاستبدادي الحالي.
وطالب الموقعون الجيش السوري بالتوقف عن تنفيذ أوامر القتل ضد المتظاهرين السلميين”، مستنكرين بشدة ” أعمال القمع الوحشية التي يقوم بها أزلام النظام أيا كانوا ولأي ٍ من الجماعات الدينية أو القومية ينتمون.
إن هذا البيان الشجاع وضع النقاط على الحروف. فمثلما كانت الشلة الضيقة المحيطة بصدام حسين تضم كثيرا من الانتهازيين العراقيين من جميع الطوائف والقوميات والأديان، وقلة من أهل العوجا والتكارتة، فنظام بشار الأسد اليوم يدك منازل المدنيين في حماة ودير الزور ودرعا واللاذقية بدبابات يقودها سوريون انتهازيون قتلة محترفون من جميع الطوائف السورية وقومياتها وأديانها. فيهم سنة من درعا ومن دير الزور، وعلويون ومسيحيون، جنبا إلى جنب مع شبيحة حسن نصرالله وجواسيس الولي الفقيه.
وهذا البيان من زاوية أخرى، دليلٌ على عافية الشعب السوري، وعلى وطنية الطائفة العلوية منه، بشكل أخص. لا يملك المرء منا إلا أن ينحني احتراما وتقديرا لهذا الشعب العظيم الذي ضرب، ويضرب كل يوم، مثلا رائعا وندادرا في الرقي والتحضر والشجاعة والصمود والتمسك بالحرية والكرامة، إلى أبعد الحدود.
بكل ثقة ويقين، سينتصر وسيخرج أعداؤه بسواد الوجوه. إيران والطائفيون العراقيون واللبنانيون، و(شبيحة) الكرملين أولُ وأكبر الخاسرين.