بدايةً ، يمكن إعتبار العراق دولة ضمن التعريف العام للدول في العالم وذلك بتوفر عدة عناصر أساسية وهي الأرض ( أي البقعة الجغرافية المعترف بها ) والأفراد ( أي المجتمع أو الشعب بمكوناته المختلفة ) والحاكم ( أي السلطة التي تدير شئون المجتمع ) ، أما بقية العناصر الأخرى مثل الإعتراف الدولي أو وجود دستور أو قوانين وغير ذلك فما هي إلا عناصر مكملة لا تؤثر على وجود مفهوم الدولة من عدمه. فلا يمكن تسمية دولة دون بقعة جغرافية أو دون وجود شعب أو دون وجود حاكم ، ولكن يمكن إيجاد دول بدون إعتراف دولي أو بدون دستور أو قوانين. هذا من ناحية التعريف العام للدولة ، أما هل يمكن إعتبار العراق في المرحلة الحالية دولة بالمفهوم المعاصر للدول وفق المقاييس الحديثة للعالم الحر والمتحضر فهذه مسألة أخرى . والمفهوم المعاصر للدولة يتضمن عدة عوامل يشترط توافرها الى جانب العناصر الأساسية الثلاث المذكورة سابقاً) أرض ، شعب وسلطة ) . في مقدمة هذه العوامل هي التطبيق والإحترام المطلق للدستور والقوانين بدون تمييز وفي كل الظروف مهما كانت إلا في الحالات الإستثنائية جداً كحالات الحروب وتهديد الأمن ، بعبارة أخرى أن تكون دولة مؤسسات لا يتغير واقعها بتغير الأفراد . ومن العوامل الأخرى المهمة هي وجود مستوى متطور ومستمر من التقدم والتعلم والتحضر لعموم المجتمع مع ضمان تطويرالمعرفة الذاتية وإرساء القاعدة العلمية والتكنولوجية ليفتخر المواطن بإنتمائه لوطنه. يضاف الى ذلك توفر العناصر الأساسية للسيادة ، أي سيادة الدولة في إتخاذ قراراتها . وأخيراً ينبغي أن تُرَسَخ المفاهيم والعادات والتقاليد المتحضرة والإنسانية في المجتمع عموماً وجعلها سلوكاً إجتماعياً يُربى الفرد عليها منذ ولادته وخلال مراحل تكوينه وحياته وبالأخص المفاهيم المتعلقة بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة وإحترام القوانين وغيرها من المفاهيم الإنسانية المتعارف عليهابحيث تُخْلَق أجيال واعية ومدركة ومسؤولة عن الإستمرار بتطبيق حزمة المبادئ والقيم الإنسانية المتحضرة في ظل نظام ديموقراطي صحيح.
في ضوء المبادئ العامة والبديهية أعلاه ، والتي لا يختلف عليها إثنان إلا إذا كان يفتقد الى العقل والإدراك ، هل يمكن إعتبار العراق ضمن المرحلة الحالية دولة بالمفهوم المعاصر للدول وفق الحقائق والأحداث والظروف والممارسات اليومية التالية التي تعبر عن كيفية إدارة شئون هذا البلد الذي إسمه ” العراق ” :
١- نظام الحكم في العراق حسب الدستور العراقي هو نظام ديموقراطي فيدرالي في حين إن الممارسة الفعلية تعكس نظام غريب غير مطروق على مستوى العالم ألا وهو نظام المحاصصة والمشاركة ونظام الأخ الولي الفقيه ونظام المرجعية . فنظام الحكم في العراق هو نظام إستثنائي وتجربة فريدة من نوعها في تجارب دول العالم .
٢- دول العالم المتحضر والمعاصر هي دول مؤسسات بالمطلق لها أركان وأسس ثابتة ومنطقية لا يمكن الحياد عنها في المجالات الحيوية والمصيرية يأتي في مقدمتها وحدة المؤسسات العسكرية والأمنية والإستخباراتية في مواقفها وإجراءاتها لضمان حماية البلد ، وكذلك وحدة المواقف التي تُعَبِر عن السياسة الخارجية للدولة وعلاقاتها بدول العالم والتي تضفي إحتراماً للدولة بين دول العالم. إلا إن الواقع العراقي هو عكس ذلك ، فهناك أكثر من مؤسسة عسكرية وأمنية وإستخباراتية ومؤسسات إعلامية شبه رسمية منها ما يتبع لسلطة الدولة ومنها ما يتبع لسلطة الأحزاب والمكونات ومنها ما يتبع لفصائل عشائرية أو قبلية أو مجموعات مسلحة لها إرتباطات خارجية . وعلى هذا الأساس هناك عدة مواقف مصيرية متناقضة تصدر من تلك الجهات العراقية وهي جميعها جهات رسمية حسب القوانين والقرارات ” المضحكة ” . الراسخون في العلم فقط من يستطيعون إستنباط وتحديد الموقف الموحد والصحيح للحكومة العراقية الذي يُعّبَر عن موقفها من الأحداث المحلية والخارجية أمام التناقضات والتضارب في التصريحات ” الغبية ” بوجود مؤسسات دولة ومؤسسات الحشد الشعبي وتشكيلات أحزاب السلطة ذات الطابع الإسلامي ووجود شخوص مؤثرة ذات إرتباطات خارجية . بعبارة أخرى تعدد مصادر القرارات وهي مصادر متضاربة ومتناقضة.
٣- جميع دول العالم تخضع لنتائج الإنتخابات لإختيار قيادات المجتمع ( شرط أن تكون الإنتخابات نزيهة بمعناها المطلق ) وأن يتم تشكيل الحكومة من قبل الكتلة الأكبر أو تشكيل الإئتلافات وعلى الآخرين حرية إختيار جانب المعارضة السياسية أو المشاركة . أما في العراق فالهدف هو ليس تشكيل حكومة كما يريدها الشعب وإنما كيفية تقاسم المنافع على حساب إرادة المجتمع بالرغم من غباء معظم الناخبين عند إعطاء أصواتهم على أساس القبيلة أو العشيرة أو المنطقة أو الحزب أو رجل الدين أو المرجع أو المذهب أو القومية وغيرها ( عدا صفة الوطنية أي الإنتماء الوطني ) .
٤- وجود موارد خيالية في العراق سواء من مصادر طبيعية كالنفط والزراعة أو الموارد الطبيعية الأخرى كالسياحة الدينية والتأريخية والتي بإمكان إستغلالها بشكل صحيح أن تجعل العراق في قمة الدول ذات الرفاه الإقتصادي العالي . ولو توفرت مثل هذه الإمكانات في دول أخرى لخلقت أرقى دول العالم رفاهاً وتنميةًاً . إلا إن الواقع هو عكس ذلك مما يعكس مدى تخلف وفشل من تولوا إدارة العراق وتحكموا بمستقبله البائس .
٥- العراق من كبار الدول المنتجة للنفط والغاز مع ذلك فهو يستورد الكهرباء والغاز لتشغيل بعض طاقاته من دول الجوار . والعراق تتوفر فيه الكثير من الموارد الطبيعية والبشرية وهو أكثر الدول تخلفاً صناعياً وتكنولوجياً.
٦- في معظم دول العالم يكون ممثلي الشعب في المؤسسات التشريعية التي تفرزها الإنتخابات على درجة كبيرة من الثقافة والتعلم والمعرفة والتحضر والوعي والإدراك والمسؤولية إلا في العراق فمعظم ممثلي الشعب المنتخبون لا يملكون حتى الحد الإدنى من الثقافة والتعلم والتحضر والشعور بالمسؤولية ويكفي لأي شخص أن يراجع السيرة الذاتية والمستوى الحقيقي الثقافي والتعليمي لممثلي الشعب في مجلس النواب ليقيم مستواهم ومؤهلاتهم ، ومن البساطة جداً إكتشاف مستوى العديد منهم من خلال متابعة البرامج الحوارية التي تستضيفهم القنوات التلفزيونية. وليس هناك في أي دولة في العالم إلا في العراق جميع أعضاء مجلس النواب فيه بدون إستثناء يُتهم بعضهم بعضاً بالفساد وكل عضو ماسك ملفات فساد على بقية الأعضاء وكأنها مسرحية فكاهية .
يكفي الآن ما ذُكِرَ أعلاه وعلى القارئ أن يجد الجواب على التساؤل : متى يصبح العراق دولة بمعنى الدولة ؟