أن واحدة من النتاجات السيئة للأحتلال الأمريكي البغيض على العراق هو ليس أسقاط النظام السابق فحسب ، بل أسقاط دولة تأسست منذ عام 1921 وكسر هيبتها وأستباحتها واشاعة الفوضى فيها من خلال أضعاف سلطة القانون والقضاء ، فصارت العشيرة وفروضها وتقاليدها هي البديل عن القانون في بلد عرف منذ فجر التاريخ بأنه البلد الأول الذي سن القوانين الأنسانية والأجتماعية، والتي نقشت كل فصول ومفردات تلك القوانين في مسلة حمورابي (المسلة الأصلية موجودة في متحف اللوفر في باريس). وفي مقالي هذا لست بصدد توجيه النقد أو الأستهانة بالعشائر وعاداتها وتقاليدها، فللعشائر دورها الوطني والكبير والمشرف الذي لا ينكر في تاريخ العراق السياسي الحديث منذ موقفها الوطني الشجاع ضد الأحتلال البريطاني للعراق بداية القرن الماضي والمتمثل في ثورة العشرين التي قادتها جميع عشائر العراق من شماله لجنوبه ضد الأستعمار البريطاني عام 1920، كما لا يمكن أن ننسى الدور البطولي للعشائر العراقية في الحرب على داعش حيث كانوا السند القوي والأمين للقوات المسلحة في حربها ضد مجرمي داعش والذي تكلل بالنصر وبتحرير كافة المحافظات (الغربية) التي كانت تحت نير الأحتلال الداعشي. ولكننا مع كل تقديرنا لكل هذه المواقف البطولية والوطنية المشرفة لعشائرنا العربية الأصلية، ألا أننا وبنفس الوقت لا نريد أن تكون لها سطوة وسيادة على القانون والمجتمع! والذي تمثل في موضوع الفصل العشائري الذي صار كابوسا يؤرق حياة العراقيين ويخيفهم منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن بعد أن صارت (الكعدة العشائرية) تعقد لأتفه الأسباب! ، ولا بد هنا من الأشارة بأن الكثير من الزعامات العشائرية والقبلية أستنكروا مثل هذه الأفعال و(الكعدات العشائرية) وتصرفات بعض شيوخ العشائر في موضوع الفصل العشائري بعد أن صارت الكعدة العشائرية والفصل العشائري يعقد على(كسرة مرجوحة في حديقة عامة، وعلمود جريدي دخل من بيت أحد الجوارين الى بيت آخر وتسبب في موت رجل كبير من الخوف والجفلة! وغيرها من الكعدات العشائرية المخزية والمعيبة والبعيدة كل البعد عن الأصول العشائرية الأصيلة حيث الغاية منها الأبتزاز فقط لا غير!). العراقيين الان يعيشون حالة من الخوف بسبب ضعف الدولة وتراخيها تجاه تطبيق القوانين التي تحمي المواطن، ومن الطبيعي ان مثل هذا الضعف والتراخي أدى الى ألتجاء المواطن الى عشيرته وطائفته لتكون سندا ومرجعا له عوضا عن الدولة المتراخية والضعيفة ليس للحفاظ على وجوده في الحياة حسب ولكن لدرء الخطر عن نفسه من مخاطر الحياة ومشاكلها وخاصة في الوضع الحالي للعراق الذي يطفوا على كم هائل من الأزمات والمصائب والمشاكل والتحديات التي لا اول لها ولا آخر، والذي لا يوحي بوجود دولة ولا قانون ولا حتى قضاء منذ سقوط النظام السابق ولحد الان. وكلما يمر يوم في العراق كلما نشعر بضعف الدولة بكافة مؤوسساتها المدنية والعسكرية المنخورة بالفساد مقابل أستقواء العشيرة بكل فصولها وعاداتها وتقاليدها. وكيف لا تستقوي العشيرة وتكبر وتفرض أجندتها بعد أن وصل الأمر بأن يحتكم نواب في البرلمان الى العشيرة لفض نزاعاتهم وخلافاتهم ومشاكلهم!!؟ . ولربما يتذكر الكثير من العراقيين واقعة الفصل العشائري بين النائبة (حنان الفتلاوي) وبين الناطق بأسم المجلس الأعلى السلامي (بليغ أبو كلل) عام 2015 على خلفية مشكلة وقعت بينهم وأنتهى الأمر بفصل (أبو كلل) عشائريا بمبلغ 400 مليون دينار!، وحينها عرضت الكثير من الفضائيات لقطات من وقائع الجلسة العشائرية!!. وحقيقة أن استفحال وسطوة العشائر بالعراق وبروزها بشكل ملحوظ يعود الى فترة النظام السابق وتحديدا بعد أنتكاسة الكويت عام 1990 والتي قصمت ظهر النظام والعراق على حد سواء، عندما بدأت آفة الفساد تنخر بجسد كافة مؤوسسات الدولة وبان عليها الضعف، فأستفحلت العشائر بشكل قوي وملفت بسبب تغيير سياسة ونهج النظام والدولة وأنقلابها رأسا على عقب الى دولة دينية وعشائرية، حتى أن رئيس النظام السابق السابق أطلق على نفسه تسمية (عبد الله المؤمن)، كما وتم تعيين أحد مرافقي رئيس النظام السابق المدعو( روكان رزوقي) ليكون ضابط أرتباط بين العشائر والرئاسة، في دعم واضح من قبل الدولة للعشائر.والحقيقة انه رغم بروز دور للعشائر ألا أنها لم تتخطى قوة الدولة وأجهزتها الحزبية والأمنية مثلما هي عليه الآن!. أقول لقد حلمنا كثيرا وأستغرقنا ورحنا بعيدا في احلامنا من بعد سقوط النظام السابق حتى تخطت أحلامنا حدود المعقول، بأننا سنعيش تحت ظل دولة القانون والمؤوسسات وأن يعاد ترتيب البيت العراقي من جديد على أساس الحياة الحرة الكريمة وسيادة القانون والنظام ولكننا لم نكن نتصور بأن الحال سيصل بنا الى هذا الضعف والتردي والخوف والتشرد والتشرذم حتى أضطررنا بأن نحتمي بهذا (العقال) وتلك (العمامة) لضمان حياتنا ووجودنا وتمشية كافة أمورنا وأحتياجاتنا. والسؤال هنا: كيف يحمي المواطن البسيط نفسه عندما تقع له مشكلة؟ وما أكثر المشاكل والمصائب في العراق وخاصة أذا كان هذا المواطن لا ينتمي الى عشيرة قوية ونافذة؟، ثم كيف سيداري خوفه ويدرأ عن نفسه المخاطر بعد أن بات يشعر بالخوف وهو بين أحضان وطنه؟ وماذا سيفعل المثقف المؤمن بسيادة الدولة وقوانينها والذي لازال متمسكا بها والرافض لسيادة العشيرة وفصولها على سيادة الدولة وقوانينها أذا ما وقعت له مشكلة؟. وفي هذا الصدد أرى من الظريف ان أنقل هنا ما قالته السفيرة البريطانية (جين ماريوت) في مجلس العموم البريطاني عن التعليم في العالم العربي:((أن النظام التعليمي يؤدي الى مفارقات مدهشة في الخريجين: فطلاب الدرجة الأولى من الأذكياء يذهبون الى كليات الطب والهندسة، بينما خريجوا الدرجة الثانية يذهبون الى كليات أدارة الأعمال والأقتصاد وبذلك يصبحون مدراء على خريجي الدرجة الأولى!، في حين خريجوا الدرجة الثالثة يتجهون للسياسة فيصبحون ساسة البلاد ويحكمون خريجي الدرجتين الأولى والثانية!، أما الفاشلون في دراستهم فيلتحقون بالجيش والشرطة فيتحكمون بالساسة والأقتصاد ويطيحون بهم من مواقعهم أو يقتلونهم أن أرادو!، أما المدهش حقا فهو أن الذين لم يدخلوا المدارس أصلا يصبحون أعضاء في المجالس النيابية وكذلك عمد وشيوخ قبائل؟! يأتمر الجميع بأمرهم!!)). أخيرا نقول: نحن لسنا مع العشيرة وفصولها وقوانيها ولكننا بنفس الوقت لا نقف بالضد منها، لأننا نريدها أن تكون سندا قويا لسيادة الدولة وقوانينها وأن لا تكون قوتها على حساب ضعف الدولة.