* جدلية العلاقــة بين الحقوق والواجبات
في بداية نشوء الحياة على كوكبنا الجميل المـُلوّن بالتـُراب والماء والخضرة قبل أن يتوفر الوجـه الحـَسـِن ..! كان أنتماء الأنسان لـذاته فحسب ، ثم تطوّر الأمـر بزيادة عدد الناس بعد العشق الأول بين جـَدّتنا حواء وجدّنا آدم .. ليتحوّل الأنتماء من الذات الفردية الى الأنتماء للأســرة .. ولم تلبث هذه الأسرة أن تكاثرت بفعل الحـُب المـُشاع الى مجموعــة أسر كوّنت فيما بعد القبيلة .. فأصبح الأنتماء للقبيلة أقوى من سابقيه .. فهو المعوّل عليه للحفاظ على حياة الفرد من عربدات الطبيعة كالمطر والزلازل والفيضانات وتقلبات المناخ ..الخ وكذلك من مخاطر الحيوانات الضارية سواءاً من جهة صيدها أو درء شرورها .. وهنا بدأ الأنتماء يأخذ بـُعداً أعمق عندما أرتبطت حياة الفرد ومعيشته وسلامتـه بوجوده عضواً في هذه المجموعة البشرية .. وبالطبع بمرور الزمن أزداد عدد الناس و تطوّرت الحاله الى مجموعة قبائل .. وهنا بدأ التنافس على مصادر العيش وموارد الماء يتحوَل تدريجياً الى صراع بين القبائل يؤدي أما الى غـَلبة القبيلة القوية على الضعيفة .. وأما الى هجرة القبيلة الضعيفة الى أرض الله الواسعة لتجد في أماكن أخرى ما تبحث عنه من أسباب البقاء …! وهذا الحال أدى الى تعميق شعور الفرد وحاجته للأنتماء لمجموعة بشرية تحميه وتــُـعينه على مواجهة صعوبات الحياة ومخاطرها … وبالتالي أدى الى أنصهار الفرد في الجماعة وذوبان الأنتماءات الأولى ( الفردية والأسرية ) في الأنتماء الجديد بحكم الحاجة للحماية والعيش .. وهذا بالطبع يعني أن الفرد لكي ينتمي اليها تترتب عليه التزامات أمام المجموع .. وتترتــّب له حقوق على القبيلة ، فمثلما يـُعطي يجب أن يأخذ .. ومثلما يأخذ يجب أن يــُعطي … وأخذت هذه العلاقة التفاعلية تنموا وتتطوّر تدريجياً بمرور الزمن وتنامي المصالح المتبادلة بين الفرد والمجموع … فكلما أستطاع المجموع توفير متطلبات الفرد .. كلما أزداد ولاء وتـَـمسـّك الفرد بجماعته واستعداده للتضحية في سبيلها … ومن الطبيعي أن ينتج عن ذلك علاقات متشابكة بينهما عناوينها الرئيسية المعيشة المشتركة ، اللغة المشتركة ، المصلحة المشتركة والمصير المشترك .. في هذه اللحظة التاريخية بدأ تـَـشـكـّل النواة الأولى لمفهوم الشـَعب ..!
أخـذ َ مفهوم الشعب يتبلور عندما تحولـّت المجموعات البشرية ( القبائل ) من مرحلة الترحال والتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الماء والكلأ والطعام والأمان .. الى مرحلة الزراعة والتي تعني الأستقرار والأستمرار في مكان واحد مـُعيـّن تتوفر فيه أسباب الحياة …! فتطوّرت الاعتبارات العملية والمصلحية التي تربط الفرد بالجماعة بتطوّر الزراعة وكذلك تنامي الثروة الحيوانية ، حيث أن الأستقرار في مكان معين مع وجود الماء والزرع أدى الى أزدياد أعداد الحيوانات الداجنة … وهنا دخل عنصر جديد في حياة القبيلة ذلك هو عنصر الثروة والأنتاج ، والذي أدى الى تطوّر تاريخي مهم في حياة الفرد والجماعة .. أذ تحوّل الشعور بالأنتماء الى القبيلة فحسب الى الشعور بالأنتماء للقبيلة والأرض معاً … في هذه اللحظة التاريخية أيضاً بدأ مفهوم الوطن بالتبلـّور ..!
يقول أبن نظير في لسان العرب : الوطن هو المنزل تـُقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله،.. والجمع أوطان .. وأوطان الغنم والبقر: مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها،.. وَطـَنَ بالمكان وأوطن أي أقام فيه .. وأوطنه أي اتخذه وطناً. يقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها، وأوطنتُ الأرض ووطنتـُها وأستوطنـتُها أي اتخذتها وطناً …!
الوطن بهذا المعنى لا يشترط الولادة فيه ..! بل يشترط العيش والسكن والتفاعل مع المجموع بمجموعة مـُشتركات أنسانية وعاطفية ، مادية ومصلحية ( بمعنى تبادل المصلحة )..! فالوطن الذي لا يوّفر أسباب العيش والشعور بالأستقرار والأحساس بالأمان في جانبه الحياتي المباشر وفي جانبه المستقبلي .. يدفع الفرد أو القبيلة الى البحث عن وطن آخر يمنحه ما لم يمنحه له الوطن الأول ، وربما الثاني وهذا كان السبب الرئيسي و لايزال للهجرات البشرية على مر التاريخ ، سواءاً الفردية منها أو الجماعية .. وأدى البحث عن ملاذات آمنة تتوفر فيها وسائل البقاء والأستمرار مع ما صاحب ذلك من تطوّر وسائل المواصلات والأتصال ونمو الحاجات البشرية وتنوع المصالح والثقافات ، أدى الى أندماجات وانسلاخات للأفراد و المجاميع البشرية .. وفي خضم هذه الصيرورة التاريخية تشكـّلت تجمعات بشرية جديدة لتشكل كيانات أكبر .. وفي نفس الوقت تلاشت تجمعات أخرى أو أنشطرت لتذوب في التجمعات الجديدة … وهنا بدأ البـُعد السياسي والأقتصادي والأجتماعي والجغرافي لمفهوم الوطن يأخذ منحى آخر أكثر تطوراً .. أذ تطلب الأمر تحديد الحدود الجغرافية للوطن وتحديد سمات الوطن وتوجهاته ومعالمه وطبيعة نظام الحكم فيه وكذلك تحديد الحقوق والواجبات للأفراد .. فبدأت القوانين والنـُظم والتشريعات تــُسـنّ لتـُـنظـّم كل ذلك .. وعلى ضوئه اكتسب مفهوم الوطن أسم الدولة .. واكتسب مفهوم المواطن معناها الحقيقي وفق معادلة الحقوق والواجبات .. لـيـُنتج لنا مفهوم المواطنة ..!.
فالمواطنة : هي الحقوق السياسية والأقتصادية والأجتماعية للفرد الذي ينتمي للوطن بصرف النظر عن عـِرقه ودينه ومذهبه ولونه وأنتماءاته الخاصة … وفي سياق حركة المجتمع وتحوّلاته تؤدي المواطنة الى تحقيق التفاعل الأيجابي المشترك بين جميع الأفراد والجماعات .. وبناء علاقات تبادلية وتعاونية ونفعية مشتركة تكفل حرية العيش المشترك للجميع ضمن أنظمة وقوانين تـُحقق العدالة للجميع في الحقوق والواجبات والمسؤوليات .. يتوّج ذلك مسؤولية الجميع في حماية الوطن و الدفاع عنه ..!
أذن المواطنة هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماءه إلى الوطن .
بالطبع ليس هناك وطن من غير مواطنين .. أي أن مفهوم الوطن لا يأخذ معناه ألا بوجود مواطنين … وأنتماء المواطن للوطن يعني أيضاً أنتماء الوطن للمواطن … فالمواطن لا يمتلك جزء من الوطن يتحدد بالمجال الحيوي لمعيشته .. ولكنه يمتلك الوطن كله كاملاً ..! فعندما أقول مثلاً أن العراق وطني .. فلا يعني ذلك المحيط أو المكان الذي يمتد اليه أو فيه نشاطي الفردي فقط .. لكنه يعني العراق كلـّهُ بجميع مساحته ، من شماله الى جنوبه .. بأنهاره ووديانه .. بجباله وسهوله .. بمناطقه ومدنه .. وألا يصبح ليس من حق الفرد الساكن في الشمال أن يسكن ويعيش في الجنوب .. ولا من حق الفرد الساكن في شرق الوطن أن يسكن ويعيش ويعمل في غـَربــه .. وفي هذه الحالة تنتفي صفة المواطـنة عن العراقي … لتتحوّل الصفة الى سكـّان العراق .. فهذه المنطقة يسكنها مثلاً الأكراد وهذه يسكنها العرب أو يسكن المسلمين في الجزء الفلاني ويسكن المسيحيين في البقعة الفلانية … بمعنى آخر لا يوجد ما يربط بين هذه التشكيلات البشرية سوى أسم العراق ، وعندها يتحوّل الأفراد أو المجموعات البشرية الى سـكـّان وليس مواطنين ..! فالساكن أو الساكنين في بقعة ما في هذه الحالة لا تترتب لهم حقوق على المجموع .. ولا تترتب عليهم واجبات أزاء المجموع ..! ولا تجمعـُهم علاقات حياتية مشتركة ومصالح مشتركة تكون من القوة بحيث يتوّلد شعور بانتماء جــمعي يربطهم جميعاً بالكيان البشري الكبير ( الشعب العراقي ) الذي يمتلك كياناً جغرافياً محدداً هو الوطن الذي أسمه (العراق ) .. ويصبح مـَـثـَلهم كمثل تجمعـّات البدو الرُحـّل فهم مـُكتفون ذاتياً في تعملاتهم الحياتية وغير متشابكين عضوياً ومصلحياً مع باقي المجموع ، اللهّم ألا بعض عمليات البيع والشراء البسيطة ..!
الحقوق والواجبات بدأت بمعاني بسيطة في البداية كحق الحماية والعيش والسكن وواجب الدفاع عن المجموع والتفاعل معهم … لتتحول بمرور الزمن والتطور الحضاري الى معاني أعمق وأوسع .. لتشمل حقوق المشاركة بالعمل العام والأنتخاب والترشــّح وحرية الرأي والتعبير وحرية الدين والمُعتقد …! والمُلاحظ أن كلمة الحقوق دائماً ما تسبق مفردة الواجبات .. فهل يعني ذلك أن المواطن يجب أن يحصل على حقوقه أولاّ ثم يؤدي واجباته ثانياً …؟ الجواب نعم .. ولكن نعم هنا ليست مادية فقط ولكنها بالأساس معنوية أو بتعبير أصح شعورية .. فعندما يشعر الفرد أن وجوده ضمن هذه البقعة الجغرافية ( الوطن ) وضمن هذه المجموعة البشرية ( الشعب ) يــُحقق له متطلبات العيش والأمان والحرية عندها سيكون أستعداده لأداء الواجبات تلقائياً حتى وأن سبقت الواجبات الحقوق عملياً ..! أن التفاعل بين المفهومين هو تفاعل أيجابي .. والذي يـُحدد الأسبقية لأحدهما على الآخر أهمية وحاجة الحق بالنسبة للمواطن .. وأهمية وحاجة الواجب بالنسبة للوطن .. فمثلاً في حالات الحرب وتعرّض الوطن لمخاطر خارجية تتقدم الواجبات على الحقوق في بعض مفاصل الحياة .. والعكس صحيح ففي أوقات السلم والرخاء تتقدّم الحقوق على الواجبات … والعنصر الضابط لتبادل الأدوار وتحقيق التوازن الأيجابي بين المفهومين هو يـَـقين المواطن أن حقوقه مـُصانة ومضمونة حتى وأن لم يحصل عليها في لحظتها .. بمعنى آخر متى ما تيـّقن المواطن أن الوطن يؤمـّن له متطلبات حياته الأساسية في الحاضر وفي المستقبل سيشعر عندها بالأنتماء الحقيقي وسيكون عضو فعـّال وأيجابي في المجموع .. وسيـُقدّم كل ما يطلبهُ منه الوطن من واجبات والتزامات ..! فالمواطن هو الوحدة الأساسية في بناء الوطن شرط وجوده الفاعل الأيجابي .. وليس كينونته المـُنفـَعلة السلبية ..! ومن غير الأعتراف بالمواطن ودوره الفاعل لا يمكن أن يكون هناك وطن ، بل يتحوّل الى مزرعة كبيرة وربما الى سجن كبير، فالوطن في النهاية هو كما نراه وكما نصنعه وكما نعيشه، وليس وصفة جاهزة أو قراراً قسرياً ..! فالمواطنة ليست شعوراً فطرياً لدى الأنسان بل هي وليدة جـَـدل حضاري وتفاعلات أنسانية وعلاقات مادية توصل في النتيجة الى نسج منظومة أجتماعية يجمعها أحساس بالأنتماء لكيان معلوم ومـُحدد الملامح والصفات .. على الرغم من تعدد الثقافات والأنتماءات العرقية والدينية والمذهبية … ! ولدينا مثال جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، الذي لم يفلح عنف وقهر المرحلة السوفيتية في تحقيق الاندماج بين مكوناته ، وبقي الشعور بعدم الأنتماء للوطن السوفييتي كامناً في الصدور .. الى أن جاء أنهيار الأتحاد السوفييتي .. لتعود الكيانات المؤتلفة تحت خيمته الى أنتمائها السابق ، ولدينا مثال السودان كذلك .. فلم يستطع الجنوب والشمال الأندماج والتفاعل في وطن واحد رغم عشرات السنين من العيش في بلد واحد .. وعندما جاءت الظروف المناسبة أنشطر السودان الى دولتين …!!
فعندما لا يكون الوطن ( وطن حقيقي ) وفق التوصيف أعلاه … سيتحوّل الى كيان هش قابل للقسمة عند أول منعطف تاريخي حاسم يكشف الغطاء عن هشـاشتـهِ … وهذا ما يتفاعل الآن في العراق .. ولكننا نضع رؤوسنا في الرمال لكي لا نراه …!
فأذا لم نبني وطناً حقيقيا يشعر الجميع أنه مـُلكـُـهم .. ويخضع الجميع بالتساوي لمـُعادلة الحقوق والواجبات .. فكل الأحتمالات معروضــة فوق الطاولة .. وليس تحتها ..!