23 ديسمبر، 2024 12:33 ص

متى نفعل السياحة الدينية ؟

متى نفعل السياحة الدينية ؟

أن زيارة مقامات وأضرحة الأئمة والأولياء والصالحين والتوجه إليها كل عام من قبل عامة المسلمين والصلاة والدعاء وقراءة القرآن في تلك الأضرحة هي أحدى العبادات والتقاليد الإسلامية المتوارثة عبر الأجيال , ومن تلك المناسبات المهمة لدى المسلمين عموماً والشيعة خصوصاً هي زيارة الأربعين لسيد الشهداء الأمام الحسين بن علي أبن أبي طالب (ع) سليل الدوحة الهاشمية وأبن بنت النبي محمد (ص ) .

ففي العشرين من شهر صفر من كل عام وهذا العام خصوصاً توافد ما يقرب من ( 20 ) مليون زائر عراقي وعربي وأجنبي لزيارة ضريح الأمام الشهيد في كربلاء المقدسة يقدر عدد الأجانب فيهم (4) مليون زائر من ( 60 ) بلد , الأغلبية من هؤلاء قادمون من جمهورية إيران الإسلامية ( 1,5 مليون زائر ممن حصلوا على سمة الدخول الرسمية ) التي تربطها بالعراق ثلاثة منافذ حدودية برية في الجنوب العراقي هي ( منفذ الشلامجة في البصرة ومنفذ الشيب في ميسان ومنفذ زرباطية في واسط ) يدخل من خلالها سنوياً ملايين الزوار الإيرانيين من مختلف المدن الإيرانية إضافة إلى دول أخرى مثل باكستان وأفغانستان وتركمانستان وغيرها , وقد تعرضت تلك المنافذ في السنوات السابقة وهذا العام إلى دخول عشوائي للزوار الإيرانيين والأفغان وغيرهم مخترقين تلك المنافذ بموجات بشرية هائلة تقدر بعشرات الألوف من منفذ زرباطية بشكل خاص المقابل لمنفذ مهران الإيراني دون الحصول على الفيزا ( التأشيرة ) بسبب سوء التصرف من قبل الجانب الإيراني في منفذ مهران , والحكومة العراقية وتقصيرها الواضح في هذا المجال وتعاملها العاطفي مع الحدث دون الرجوع إلى الجانب الأمني والاقتصادي الذي يمر به العراق في الوقت الحاضر , وهذه واحده من منزلقات العمل الحكومي غير المبرمج مما دفعها بتحشيد أكثر من ( 300) ألف عسكري متطوع وحشد شعبي لحماية الزائرين من الاعتداءات الإرهابية المتكررة كل عام , كما أن معظم الطرق التي تربط جنوب العراق ووسطه بمدينة كربلاء المقدسة قديمة ومتهالكة ذات جانب واحد ضيق تسًببت بمقتل وجرح المئات من الزوار سنوياً , ولكثرتهم

الفائضة عن الإمكانات المتاحة تقوم الحكومات المحلية في محافظات الجنوب العراقي بنقلهم بواسطة سيارات حمل مكشوفة أو بواسطة سيارات النقل البري من المنافذ الحدودية إلى مراكز المحافظات ثم ينقلون إلى مدينة النجف أو كربلاء مرة أخرى بنفس الطريقة أحياناً , دون النظر إلى جانب السلامة والأمان والجانب الحضاري والسياحي , حتى مدينة كربلاء المقدسة غير مهيأة لوجستياً لاستقبال أعداد مليونية من الزائرين بهذا الكم الهائل بسبب ضعف البنية التحتية لتلك المدينة , فلا يوجد فيها مطار دولي ولا شوارع واسعة وطرق حولية ولا كراجيات كبيرة لاستيعاب عجلات نقل الزائرين والفنادق فيها لا تستوعب الإعداد الكبيرة منهم , ومرافقها الصحية على شكل عجلات جاهزة موزعة على شوارع المدينة , حتى العاصمة بغداد تقُطع فيها الشوارع أثناء الزيارة وتحصل حالة ازدحام واختناق مروري وتعطيل للدوام الرسمي في دوائر الدولة , مما يتطلب أيجاد شوارع بديلة لنقل ومشي الزائرين مستقبلاً .

أن من يشجع الإيرانيين وغيرهم على القدوم إلى العراق حتى وأن دفعوا مبلغ التأشيرة المخفضة البالغة (30) دولار للشخص الواحد هو كثرة المواكب المقامة على طول الطريق التي تقدم المأكولات والمشروبات للزوار مجاناً كذلك النقل من المنفذ الحدودي إلى مركز المحافظة أيضاً مجاناً والأكل على طول الطريق مجاناً والنوم والإقامة مجانية , والكثير من الزوار العرب والأجانب يبقون في العراق لحين حلول مناسبة وفاة الرسول محمد (ص) التي تصادف بعد سبعة أيام من الزيارة الأربعينية لتبدأ المسيرة مشياً على الإقدام مرة أخرى بشكل عكسي أي من كربلاء إلى النجف , وأيضا كل شيء مجاناً … هذا الكرم السخي غير موجود عند الجارة إيران وغيرها من البلدان الإسلامية الأخرى عند زيارة العتبات المقدسة فيها لأنها تطبق نظام صارم في الزيارات لديها وخاصة عند زيارة الأمام الرضا (ع) في مدينة مشهد (924 كم شرق العاصمة طهران ) وزيارة أخته فاطمة بنت موسى الكاظم الملقبة معصومة (ع ) في مدينة قم (157كم جنوب طهران ) , أنها لا تسمح للزائرين بالنوم في الشارع أو في خيمة وإنما في فنادق وشقق مؤثثة تتوفر فيها شروط الصحة العامة وبسعر مرتفع جداً يصل إلى مائة دولار لليلة الواحدة , كل شيء فيها مقابل ثمن , وهناك من ينقلك خارج المدينة لزيارة أماكن سياحية ودينية مع وجود مترجم كلها مدفوعة الثمن , في الفندق الذي نزلت فيه في مدينة مشهد زودني صاحب الفندق بكتيب صغير مكتوب باللغة العربية والانكليزية لأطباء المدينة ومواقع مستشفياتها الأهلية لغرض العلاج كلها بالعملة الصعبة (الدولار) .. نعم ينقصنا التنظيم لإدارة هكذا زيارات مليونية تبدأ من الفيزة وانتهاء بالسكن والمأكل حتى العلاج الطبي , لان – الزيارات الدينية – : عبارة عن أدارة تنظيمية مبرمجة لمرافق سياحية دينية وأثرية وليست أقامة مأتم لتناول الأكل والشرب أو دعوة شخصية لتناول وجبة طعام تنتهي بانتهاء المناسبة , أو مكان للإلقاء الخطب والشعارات الحماسية التي عفي عليها الزمن , لقد أصبحنا بحمد الله وعنايته نعيش فسحة حرية واسعة بعد سقوط النظام السابق وعودة كل القوميات والأديان والطوائف لممارسة معتقداتها الفكرية ورفع شعاراتها بكل حرية دون قيود أو ممانعة قسرية من الدولة … والجميع يعرف أن العراق اليوم يمر بأزمة مالية خانقة يجب جني ثمار الزيارات الدينية والسياحية فيها لرفد الموازنة بمبالغ طائلة ومعالجة العجز المالي بدلاً من فرض الضرائب على المواطنين وتقليص رواتب الموظفين , مع الابتعاد عن التبذير بالطعام المجاني الذي أدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وخاصةً الفواكه

والخضر في السوق العراقية نتيجة الإسراف الحكومي والأهلي بصرف الوقود والمأكولات والمشروبات والمباهاة بتوزيعها في الشوارع والطرقات وكلها مستوردة من الخارج وخاصة من الجارة إيران نفسها وبالتالي الضغط على البنك المركزي لبيع الدولار وخروجه من السوق العراقية لشراء المواد الغذائية مرة أخرى وهكذا يدور الاقتصاد العراقي في حلقة مغلقة تستنزف قدراته المناسبات الدينية غير المبرمجة , إضافة إلى الفساد المالي المستشري في عروقه الميتة … أؤكد مرة أخرى يجب أن تكون الزيارة المباركة مصدر تمويل ورفد للاقتصادي العراقي وليست مصدر إنقاص وتبذير في سوقه المتهاوي, وكما قال العالم والفيلسوف الأندلسي ابن رشد ( 1198- 1126 ) … (( التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي يعم فيها الجهل )) .

ولأغراض تنظيمية للأعوام القادمة أرى أن تُمنح الفيزة للراغبين من الإيرانيين وغيرهم بزيارة العتبات المقدسة في المناسبات الدينية الكبرى قبل ثلاثة أشهر من موعد الزيارة وبمبلغ مائة دولار للشخص الواحد , بعد توسيع أماكن منح تلك التأشيرة في عموم مدن إيران وبعض الدول الإسلامية , مع الأخذ بعين الاعتبار تأسيس شركات نقل خاصة يسمح لها باستيراد سيارات نقل ركاب كبيرة الحجم بعد إيقاف الاستيراد العشوائي للسيارات الخصوصي, وذلك لنقل الزوار من المنافذ الحدودية إلى النجف الاشرف أو كربلاء المقدسة مباشرةً , على أن تقوم تلك الشركات بمرافقة الزائرين أثناء الزيارة وأعادتهم إلى تلك المنافذ مرة أخرى , وعليها أيضا توفير الجانب الأمني لهم أثناء التنقل بواسطة شركات أمنية متخصصة بدل أشغال أجهزتنا الأمنية التي يجب أن تتفرغ لمقاتلة داعش وأخواتها مغول العصر , على أن تقوم تلك المنافذ الحدودية بالتنسيق مع وزارة الداخلية لبناء ساحات وقوف سيارات واسعة المساحة تكون ذات طابع حضاري متميز وليست ساحات في مهب الريح , وعلى تلك المنافذ توسعة قاعاتها لاستيعاب الإعداد المتزايدة من الزوار ولا بأس ببناء قاعات كبيرة وواسعة في كل منفذ حدودي وفق مواصفات حضارية ورفدها بالأجهزة الحديثة مع بناء سكة حديد تربط تلك المنافذ بمراكز محافظاتها أو بكربلاء مباشرة , كلها تنفذ بطريق الاستثمار المحلي أو الخارجي , كذلك ربط العتبات المقدسة كافة بوزارة السياحة والآثار بدلا من الوقفين الشيعي والسني يعطي دفع وتدفق مالي وتنظيمي وحضاري أكثر من ربطها بمؤسسات دينية تعتمد العاطفة الدينية في أثارة مشاعر الناس قد لا تفهم بالسياحة وما تقدمه من مردودات مالية للبلد وتشغيل العاطلين عن العمل في بلد مثل العراق يعاني ترهل وظيفي في كافة دوائره الحكومية .

أن دور الحكومات المحلية في هذا المجال محدود ولا يتعدى أخذ الرسوم من السيارات الأهلية التي تنقل الزوار في المنفذ فهي حكومات جباية وليست حكومات هداية لترفد بها – صندوق تعظيم الواردات – الخاص بها, كذلك لا يوجد دور يذكر لمديريات الوقف الشيعي في المحافظات الجنوبية وهي شبه نائمة , وكما قال المفكر الإيراني الكبير علي شريعتي ( 1977- 1933) … (( أني أعجب من أناس يرزحون تحت سياط الظلم والتعسف ويبكون حسيناُ .. الحسين عاش حرا ومات حرا )).