هكذا خسرت عملي الذي حصلت عليه بعد عناء طويل دام ثلاث سنوات امضيتها في تنقل مستمر بين الاماكن والدوائر والمعامل مذ تخرجي من الجامعة حيث اصبح لي رقم في تسلسل طويل تزداد اعداده يوما بعد آخر ذلك هو الرقم الذي يبين عدد العاطلين عن العمل.
لكنني اليوم خسرت عملي وعدت ثانية ليدرج اسمي تحت رقم جديد في تسلسل العاطلين عن العمل.
قد تبادروني السؤال عن السبب وهذا من حقكم واجد من المفيد ان اذكر ذلك فتعرفون انني لم افقد عملي لتقصيري او تهاوني في اداء العمل ,بل والامر بيني وبينكم لأنني فقط اخلص في اداء العمل.
لا…لا تستغربوا ولا تصيبكم الدهشة فقط استمعوا وتابعوا الاحداث التي سأسردها عليكم وبالتفصيل الممل مع توضيح بعض الأمور الخاصة بالعمل الذي انيط بي وهو بطبيعة الحال لم يكن الا عملا خاصا بجرد بعض محلات ومخازن الاغذية الخاصة بالشركة التي اعمل فيها وهو ليس له اي صلة تذكر بدراستي الجامعية التي امضيت السنوات بتحصيلها فقاعدة الانسان المناسب في المكان المناسب لا تدخل ضمن قواعد التعيين او التنسيب للعمل , لهذا كان لابد لي ان ابذل قصارى جهدي واتعلم قوانين العمل الجديد من الالف الى الياء كما يقولون واتقان العمل والاخلاص فيه واجب شرعي وقانوني فلم اترك صغيرة ولا كبيرة الا وبحثت فيها ولا كابينة او مكتبا او شعبة الا واستقصيت موجوداتها ووقفت على مسارات مدخلاتها ومخرجاتها ,وحرصت على بناء اجمل العلاقات الصادقة في العمل سوآءا منهم الزملاء او الرؤساء ولا اخفيكم انني وجدت الكثير من العناء بادئ ذي بدء, لكن الامور ضمن معادلة تتضمن (اسوء – سيئ – افضل من سيئ – لابأس- حسن- حسن جدا-
امتياز) نعم هكذا سارت الامور وهذا الامتياز الذي حصلت عليه في مجال عملي لم انله الا بعد جهد جهيد وتعب ونصب فقد كنت اؤثر الالتزام بمواعيد العمل ومباشرة العمل عند الدقائق الاولى لبدء الدوام وآثرت في اغلب الاحيان عدم الانغماس في النقاشات التي كانت تثار لشعوري بتأثيرها على وقت العمل حتى انني اعمد الى غلق جهاز الموبايل ولا افتحه الا نهاية الدوام.
ربما ستقولون انني ابالغ في هذا الشأن ولا يوجد كهذا الالتزام ليس في بلدنا فحسب بل في ارقى دول العالم ,واقول ان هذه هي الحقيقة ولم اضف اليها صورة من الخيال وكنت دائما اواجه الاعتراض على نهجي العملي خاصة ممن لا يريدون تحري الدقة في ما بحوزتهم من ملفات او سجلات على اني كنت انجح في اقناعهم بان عملي لا يشكل خطرا ولا يلحق بمكانتهم ضرر وتمكنت من كسب ثقتهم من خلال الكلمة الطيبة واتباع التعامل الاخلاقي الحسن .
دامت فترة عملي ثلاث سنوات تماما كما هي الفترة الزمنية التي امضيتها بحثا عن العمل فقد ذهبت صباح يوم الاثنين الماضي الى دائرتي ومنها توجهت الى احد مخازن الاغذية وقمت بمراجعة التسلسلات الخاصة بالأغذية المستلمة من قبل ادارة المخزن باسم احد التجار المرموقين المؤتمنين في بلدتي الصغيرة وكان من واجبي ان اقرأ اولا وقبل كل شيء تاريخ الانتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية وكتبت ذلك في الكراسة الخاصة وفي حقل انتهاء الصلاحية توقفت …نعم توقفت اذ كانت القراءة تدل على انتهاء صلاحية هذه الصناديق منذ عشرة ايام مضت ..اعدت النظر الى التاريخ فتأكد لي انتهاء صلاحية (100) صندوق على التمام والكمال وهي مجمل البضاعة المسلمة من قبل التاجر المذكور. فما كان مني الا ان عمدت الى حقل الملاحظات وكتبت العبارة التي يجب ان تكتب في هذه الحالة وهي يجب اتلاف الصناديق ورفض تسلمها فهي ستتحول الى سموم ضارة تقتل المجتمع وطلبت من مسؤول المخزن ان يبادر الى رفع التقرير المذكور الى الادارة الا انه رفض القيام بهذا الامر معتذرا بعدم امكانيته
نظرا للمكانة الكبيرة للتاجر المؤتمن صاحب البضاعة وهتف بعبارة لم اعتبرها حقيقية حين قال ..يا رجل ربما فقدت عملي لو عملت بأمر تقريرك هذا…
استغربت امر مسؤول المخزن وقلت محتجا ان الامر يتعلق بالصحة العامة وعلينا الحرص على سلامة الناس فأشار علي ان اتم انجاز التقرير واحصل على موافقة الدائرة بنفسي وبهذا سيتجنب مسؤول المخزن الحرج والمسائلة على حد قوله .
وتكلم بصوت اشبه بالهمس مالك ولهذا الامر ..لا تدخل نفسك في امر اكبر منك ..ثارت حماستي واجبته ..لا ..لا.. انني اخالفك الرأي وسترى ان الكلمة الفصل ستكون للقانون والانظمة التي تحمي حياة الافراد لا للذين يتاجرون بها (اقصد الحياة البشرية التي كرمها الله تعالى وامرنا بالحفاظ عليها) وازددت حماسا وانا اتلو الآية القرآنية الشريفة (من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا) والعمل امانة في اعناقنا والاخلاص فيه هو واجبنا الشرعي والقانوني والانساني ..هنا استدار مسؤول المخزن الى الجهة الاخرى متواريا عني خلف اكداس الصناديق وقبل ان اخطو الى خارج المخزن كانت عبارته تلاحقني بنبرة الناصح المحذر:(هل تعلم ان ثمن هذه الصناديق يعادل رواتبك مجتمعة لعدة سنوات ).
ازددت حماسا وتحديا فمثل هذه الاقاويل الجاهلة ينبغي ان لا تفت في عضدي ولا تثنيني عن اداء عملي فحياة الناس اثمن بكثير من بضع مئات او الالاف اوقل ملايين من الدولارات وقصدت الدائرة الرئيسية وقدمت تقريري بادئ ذي بدء الى الاستعلامات ثم الى الادارة ثم الى الشعبة القانونية ثم الى وكيل المدير ثم الى المدير وكنت احصل على نفس النظرة الشزراء في جميع المواقع التي ذكرت .
ماذا هناك …؟هل يحتاج الأمر الى كل تلك الهوامش والتواقيع ..هكذا تكلمت امام مدير الدائرة العام في بلدتي الصغيرة نظر اليَّ غاضبا وقد علت وجهه حمرة اوشكت ان تتوقد نارا وتسمرت عيناه على ملامحي وكأنني جئت بأمر عظيم او اقترفت كبائر الآثام وسألني كمن يستوجب متهما …هل مازلت مصرا على رفع تقريرك .. ؟ نظر الي شزرا كما الاخرين فما ازددت الا حماسا وتأكيدا ان الامر يتعلق بحياة الناس وهذا لامجال للتهاون به امسك القلم بين يديه ونظر الى الفراغ كمن يطلب الاذن ممن هو اعلى منه مسؤولية لكنه رمى بالقلم جانبا وواجهني بكلمة اغاضتني كانت عبارة عن سؤال .. لاي جهة تنتمي ..؟؟؟؟ كلمته تلك تعني اتهام صريح بانني ازيف الحقائق وان عملي غير صحيح وان جهة ما اعمل لحسابها فأوشكت ان افلت زمام رباطة جأشي ولهذا لم ارد عليه فقد اختنق صوتي الما وحرقة وبعد لحظات هتفت بغضب كلامك واتهامك لن يردني ان امر اعتقد
صحته بل وواثق تمام الثقة به …قال بهدوء هذه المرة وما المطلوب ..؟اجبت ان توقع التقرير ويتم اتلاف الصناديق .قال سأفعل على اني سأذكر انك من كتبت التقرير وعليك ان توقع على هذه العبارة ..قلت نعم وفعلا وقعت على الهامش الذي يذكر انني انا الموظف المسؤول عن كتابة التقرير وانني اطالب بإتلاف الصناديق وقبل ان ابادر الى الخروج قال لي المدير كمن يشفق على مسكين او مريض ..ذنبك على جنبك .. سمعت عبارته ولم ارد عليه فانا بدوري اعتبره مريضا وعليلا يستحق الشفقة.
في اليوم التالي المصادف الثلاثاء ذهبت لعملي فكان بانتظاري امرا رسميا بإقالتي من عملي وسحب يدي ويذكر الامر الاداري الرسمي السبب بعبارة منمقة وملمعة تقول (ذلك لارتكابه اخطاءا متكررة وتقديمه تقارير تعوزها الدقة ولهذا يجب ان يقدم الى المحكمة الادارية ويعتبر مفصولا من العمل) ..قلت محتجا لا ليس الأمر كما ذكرتم ولكن ذنبي الذي لا يغتفر هو أنني تطاولت على صاحب الجلالة التاجر المؤتمن.
لم اتألم لفقدان عملي كما تألمت لبلدي وتساءلت متى سيكون بلدي يابان اخرى التي نهضت باعتمادها معادلة بسيطة هي (علم+ اخلاق + عمل = نهضة )
متى تنهض يا بلد…؟