18 ديسمبر، 2024 6:56 م

نص من كتاب “متلازمة ديسمبر”
مقاربة أوليّة بين جولييت شكسبير و(فاء نون) وأنا
هذه هي المقاربة الثالثة التي أبحث فيها عن أشباهي في الحبّ، بعد أن قاربتُ سابقا بيني وبين باريس ومحبوبته أثينا المتزوجة التي اختطفها باريس لتكون معشوقته، وأدى ذلك إلى إشعال حرب. هذه الأمثولة الأسطورية كادت تنطبق عليّ وعلى (فاء نون) لولا اشتعال الحروب التي لم تكن لتحدث. ومع ذلك تبقى هي المقاربة الأقرب شبهاً بحالتي.

المقاربة الثانية هي مقاربة غسان كنفاني وغادة السمان، وهي مقاربة لها ما يبررها في عالمَيِ الحب والكتابة بالنسبة إليّ. تجمع هذه المقاربة الزواج والكتابة معاً، و(فاء نون) وأنا تجمعنا هاتان الصفتان الزواج والكتابة. إننا لم نلتقِ كثيرا على صعيد الكتابة، كما أننا لم نلتقِ قطّ، ولن نلتقي أبداً، على صعيد التقارب الحسيّ (الجنسي) بحكم الزواج؛ فأنا لا أضعُ قلمي في محبرة غيري، هذا المانع الأعظم، لكنّ هذه المقاربة أكثر واقعية من أسطورة باريس وأثينا، لارتباطها بأشخاص حقيقيين واقعيين، نعرف طرفيِ العلاقة، أو على الأقل نعرف واحدا منهما، وما زال حيّا، يشعّ رمزية لهذه العلاقة الملتبسة.

المقاربة الثالثة؛ مقاربة جولييت شكسبير وأنا، وأظن أن المقاربة فيها شيء من التشابه، ويأتي هذا التشابه من أن جولييت لم تتزوج بروميو، وأصبحت مثالا على كلّ محبوبة لن تنال، كما هي (فاء نون)، محبوبة موجودة، تعيش وتتنفس الهواء نفسه، وتسير تحت السماء ذاتها، وترى النجوم التي أراها، وتنظر إلى القمر الذي أنظر إليه، أراها وتراني، تعاندني وأعاندها، أشتهيها، وتشتهيني، إلا أنها امرأة لا تنال، وهي وأنا شقيّان بهذا القدر، فلا هي باقية لترويني وأرويها، ولا هي راحلة لأنساها. إنها ما زلت تعيش في تلك المنطقة التي وصفتْها هي؛ منطقة “البين بين”. الفارق الوحيد بيننا وبين روميو وجولييت أننا لم نمت إلى الآن بفعل هذا الحب القاتل.

هذا وجه من وجوه المقاربة، أما الوجه الثاني فشكسبير شاعر، وأنا أكتب الشعر، بل إنني و(فاء نون) نكتب الشعر، هل يكفي أن نكون شاعرين ليحدث هذا الحب الذي لا يُنال له ثمرة. في صباي المبكر قرأت واحدة من مسرحيات شكسبير، لست أذكر اسمها، ولا أظن أنها روميو وجولييت، كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري الشقيّ. ثم قرأت بعد التورّط في هذا الحب شكسبير شاعراً مترجماً في مجموعة السونيتات، قرأته عرَضاً غير قاصدٍ أن أقرأه لغير هدف المتعة في القراءة، واكتشفت مقاربة أخرى لي معه.

كان الاكتشاف مذهلاً في الحقيقة، تحدث شكسبير عن الكذب في إحدى قصائده، وأنا تحدثت عن الكذب في واحدة من قصائد العتاب القاسية لـــ (فاء نون)، لم أكن قد قرأت ما قاله شكسبير عن الكذب، عدت إلى المقارنة بين النصين، تشابه غريب بيني وبين شكسبير في التعامل مع “الحبيبة الكاذبة”.

يؤكد نص شكسبير أن العشاق يتشابهون في التجربة. (فاء نون) مكثت زمنا طويلا تكذب عليّ، لكنني كنت مغفّلاً وصدقت تلك الكذبات- شكسبير كان يعلم ذلك- كانت كذبات صغيرة كثيرة، وثمة كذبة كبيرة جارحة وصادمة. لقد خلّفت فيّ (فاء نون) وجعا أسطوريا لن يموت، حاولت أن أقتله في هذه الكتابة التي فيها الكثير من “التشفي” من الذات وممّا حدث لها، ولكن على ما يبدو أنه لا شفاء من ألم هذا الحبّ الذي هو من نوع هذا الحبّ السامّ، الخطير جداً.

أحاول كثيراً أن أنسى، لكنّ شكسبير يذكّرني فأكتبُ شعراً، وباريس يذكّرني فأكتب سرداً، وغادة السمان تذكرني فتوجعني جمرة الاشتياق الخبيثة، وفي كل الحالات أحاول أن أفلت من فخّ الكذب والحبّ والحرب. فأين منها المهربُ؟ يهجم عليّ قول أحد الشعراء الساذجين أمثالي: “أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل”. إنّها ليلايَ التي لا تنقطع عن التعرّض لي في كل حرف كتبته أو سأكتبه. يا له من وجعٍ يا إلهي!

أعتقد أن المسألة بحاجة إلى كثير من الشجاعة، وأنا جبان جدا في هذا الحبّ الذي أفقدني توازني، أو كاد.