23 ديسمبر، 2024 9:36 ص

متطلبات وطن – رسالة المكونات إلى رئيس الوزراء المكلف

متطلبات وطن – رسالة المكونات إلى رئيس الوزراء المكلف

من أصدق الشعارات التي رفعها المتظاهرون في سوح انتفاضة تشرين وأبلغها شعار (نريد وطن) اختصر فيه طالبوا التغيير مأساة الوطن العراقي التي ابتدأت مع النظام الجمهوري لا لعيب أصيل في الجمهورية وإنما لعقليات العسكر المتأثرين بموجة الزعامات والأنقلابات الشائعة في حينه وأعقبها الحكم القومي الضيق ومن ثم العملية السياسية بعد 2003 بهندستها التجزيئية المقصودة التي رسخت الطائفية السياسية (بألوانها المتعددة القومية والدينية والمذهبية) وفوتت الفرصة التاريخية لإعادة المشروع العراقي في بناء الأمة.
استخدام كلمة الوطن بمفهومه الحداثي الذي تبلور في نهايات القرن التاسع عشر جاء كناية عن شيء آخر سبقته زمانياً وفي إطارها تطور هذا المفهوم ولكنه غير مطروق الإستخدام في كلام رجل الشارع لذا لا يصلح شعاراً في تظاهرة جماهيرية ألا وهي الأمة (ضمن الدولة القومية).
لا شك أن لملمة الشتات الشعوري في المجتمع العراقي الحالي للوصول إلى حالة أمة تحتاج رافعات إجتماعية وإقتصادية وسياسية وأن تلعب قياداتها أدواراً فاعلة في كل من المجالات المتقدمة فماذا يمكن لرئيس وزراء تقديمه في هذا الإطار؟!
يذكر إرنست رينان المؤرخ الفرنسي في محاضرته التي ألقاها في السوربون في عام 1882بعنوان ((ما هي الأمة)) أن الأمة تضامن واسع النطاق، ويورد بعض العناصر التي بها قوامها مثل الماضي البطولي المشترك والنسيان الجمعي حيث يقول ((لا يوجد مواطن فرنسي يعلم هل هو بورغندي أم ألاني، أم تيفاليني أم فيسيغوثي، لكن كل مواطن فرنسي يجب أن ينسى مذبحة سان – بارثولوميو)) وعنصر آخر متعلق بموضوعنا وهو ((الموافقة، الرغبة التي تجد التعبير عنها بوضوح في الإستمرار بحياة مشتركة. وجود الأمة استفتاء مستمر متكرر بشكل يومي)). فما الذي يحقق هذا الرضى أو الموافقة التي يتكلم عنها رينان؟
إن الذي خرب مشروع تشكل الأمة العراقية وأوقف تفاعلات الإندماج وصهر المكونات المختلفة لسبك الأمة هو استئثار مجموعة صغيرة بالسلطة والثروة وخصوصاً بعد ظهور النفط وتحول الإقتصاد العراقي إلى إقتصاد ريعي يرتبط فيه المواطن بالدولة بشكل رأسي ويخفت أو يضمحل العلاقة الأفقية بين أفراد المجتمع المختلفين بهوياتهم الجزئية حيث المصلحة والتجارة تفتح القنوات البينية وتزيد من حالة الترابط والرغبة في العيش المشترك وتقلل من الاتكال على وظائف الدولة، هذا أدى إلى نوع من العبودية لجهاز الدولة وأدى بوليسية الدولة وإفراط استخدام القسوة بالاضافة إلى سياسات الإقصاء إلى الشعور بالعزلة لدى المكونات الأخرى، وما زاد الحالة سوءاً هو غياب العدالة (للفرد عند تسييس القضية في إطار منظومة القضاء الذي يساوي بين المتخاصمين ويوفر الطمئنينة بوجود مرجعية قانونية قادرة على الانصاف عندما تسوء الأحوال، أو للجماعات في الإطار السياسي والإداري في توفير فرص المشاركة في إدارة الدولة) كل ذلك تسبب في انحسار الهوية الوطنية عن الهويات الجزئية التي قد تكون إغناء للمجتمع في حالة وجود الجامعة الوطنية، أو تكون اسفين تقسيم يؤدي إلى تهدم بنية المجتمع والدولة عند غلبة الطائفية السياسية.
ما الدور المطلوب؟ كما أسلفنا أن عمل محركات المجتمع وأدوات الدولة جميعها بالإتجاه الصحيح قد يفسح المجال لمشروع الأمة العراقية مع مرور الوقت إن لم تكن الفرصة قد فاتت فعلاً! إذن لماذا الطلب موجه إلى حكومة لها في أحسن الأحوال نصف عمر الحكومات الإعتيادية! ذلك لأن التخريب على مر السنين قد نال من جميع أدوات التغيير المفترضة والحكومة مالكة بطبيعتها (خارج مصلحة الأطراف الإقليمية) بالأوراق!
إن الدستور الموجود بين أيدينا دستور مكوناتي أي يصف بناء المجتمع السياسي العراقي بلبنات مكوناتية، والديمقراطية التوافقية لا بأس بها للحالة العراقية، لكن عمليا استئثار الأطراف القوية بالسلطة والثروة وأدوات الدولة الحصرية مثل العنف، أنتج البلاء الذي نحن فيه ويمنع أي فرصة للتعافي، ومن أجل تحقيق الرضى الذي اشترطها رينان للوصول إلى حالة القبول ينبغي إشراك المكونات جميعها في إدارة الدولة في جميع مفاصلها وفي مقدمتها الكابينة الوزارية حيث أن مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية يجب أن يضم التركمان والمسيحيين في أقل تقدير، لما لقراراته من مساس في صميم مصالح هذه المكونات. نحن نتكلم هنا في إطار ظرف زمني لتشكيل حكومة تعسرت ولادتها وزمن صعب تحتدم فيه الصراعات الدولية والإقليمية على أرض العراق ولأسباب داخلية وخارجية تم التوافق الاستثنائي على شخص يمتلك العلاقات الجيدة مع الأطراف جميعها ويمتلك ثقافة تمكنه من استيعاب حراجة الوضع ليس فقط بالنسبة للعملية السياسية العرجاء بل بالنسبة للجامعة العراقية المتزعزعة والمعرضة للإنهيار المفاجئ والمدوي! هذا الخطاب للسلطة التفيذية لا يعفي مؤسسة رئاسة الجمهورية التي هي بالتعريف ممثلة للعراق وضامنة للدستور من المسؤولية الأخلاقية في ضم ممثلين من المكونات كنواب رئيس بالدرجة الأولى فضلاً عن مستشارين (حقيقيين) للمساهمة في عملية رأب الصدع بين مكونات الشعب العراقي. ولا يعفي الجهاز التشريعي من وجود مجلس للأعيان الذي ألغي مع الإنقلاب الجمهوري وأن يتشكل من المناطق والمكونات العراقية لنفس الغرض. ولا يعفي النخبة العراقية في الداخل والخارج من الانخراط في النقد والتوجيه رغم فرق المسؤولية، فالمثقف مقصي ومستبعد بقصد من (أصحاب المصالح).
هنالك آفة تكاد تجهز على ما تبقى من جسد الضحية وهي أخطر من الجماعات الإرهابية التي تدفع غالباً على التوحد لدرء الخطر المحدق، وهذه الآفة هو الفساد لأنه أكثر أثرة من الطائفية السياسية في حيازة المال والسلطة وإقصاء الآخر لأنه في مضمار الاستكثار ولا يلتفت للمصلحة العامة، وتسلسل اكتناز السحت من الجماعات الطائفية إلى جيوب الأفراد يترك حتى مجتمعاتهم الداخلية في فقر مدقع، ومصداق هذا القول حال المجتمعات العراقية البائس الذي يدّعي الخطاب الطائفي تمثيلها! ولو صدقوا في تمثيل مجتمعاتهم لأغنوهم ولآمنوهم؛ بالمصالحة والسلوك العادل مع المكونات التي تساكنهم، وبتعزيز الإستقرار في المجتمع الذي يدفع بدوره على النمو والتطور والقوة، وهذا هو طريق السيادة الحقيقية للشعب ومن ثم الدولة.
من أجل بقاء العراق لابد من حصر السلاح بيد الدولة وإشراك المكونات في مرافق الدولة المختلفة الأمنية والسياسية والإدارية وتوزيع الثروة بشكل عادل وخروج رموز في القضاء تحارب الفساد بروحية المقاتل كما حصل في بعض دول امريكا اللاتينية لكارتيلات المخدرات والجريمة المنظمة حتى من دون مؤسسات ولجان عليا وغيرها.