22 نوفمبر، 2024 8:57 م
Search
Close this search box.

مبين خشاني… قصة شاعر عراقي شاكس الموت

مبين خشاني… قصة شاعر عراقي شاكس الموت

لعل من المصادفات الجميلة أن تتعرف على شخص ما على ورق الصحف والمجلات، قبل أن تعرفه على أرض الواقع، هذه قصة معرفتي بالشاعر والكاتب مبين خشاني، أتذكر بالضبط النص الذي نشرتهُ صحيفة “بين نهرين” بعنوان جنة العميان، والذي قرأته ومررت بسكرة تشبه سكرة الصوفي الغائصُ في حالة التبصرُ العميقة.
يقول النص:
في جنةِ العميان،
تحت قدميكَ
دمُ شابٍ يضيءُ
قتلهُ سؤاله
وخلفكَ سيرةُ المفقودِ، سيرتكَ،
فإلى الأمامِ توغل حين يتعذر الخروجُ،
انطفأت جمرةُ خلاصكَ
وبردتْ قبضتكَ
فإلى الأمامِ ليس لديكَ ما تخسرُ،
أحرِق كومةَ القشِ
ومرّ على شارعِ الغانيات
حيطانهُ طرشاءُ
فأطلق صرختك.

وهذه القصيدة كانت كفيلة بأن تقودني إلى الدخول في عوالم هذا الشاعر والتعرف عليه عن كثب.

جائزة الرافدين.. فرصة للعودة الى الوراء

قبل مدة أعلنت جائز الرافدين للكتاب الأول، دورة الشاعر فوزي كريم، وكان من بين الفائزين الشاعر مبين خشاني، حيث حصد الجائزة الأولى عن فئة الشعر، وعلى الرغم من أنَّ هذا الخبر جعل يومي سعيدًا، ألا أنني كنتُ على يقين من أنَّ الخشاني سوف يحصد الجائزة؛ لثقتي بمشروعه الشعري، وباللجنة التي حكمت على الاعمال.

فاز مبين عن ديوانه الذي حمل عنوان (مخطوفٌ من يد الراحة) وقالت لجنةُ التحكيم إنّها “تبشِّر بميلاد شاعرٍ يستحقُّ الرعايةَ والاهتمام”، مضيفةً أنّه أظهر تمكُّناً عالياً من أدوات فنّه الشعري وابتعد عن الحلول المُبسَّطة الجاهزة في خلق عوالمِه الشعرية، وبأنَّ المجموعة تتميّز بكونها “لا تتخلّى عن منطقها الشعري أو تدفُّقها المسترسل مهما تنوّعت الهواجس والمخاوف وصعُبت الحقائق التي تطاردها”، مضيفةً أنّها “تصدرُ من موقع جيلٍ شابٍ مَأزومٍ وَرِثَ شيخوخةَ أسلافِهِ المعذبّةَ”.

ينتمي مبين خشاني إلى جيل جديد ليس لديه ما يفخر به، متحررًا من عقدة الأيديولوجيات، بينه وبين السلطة جدرانٌ من العزلة، والغربة والحوار المفقود، ليس لديه عقدة الخوف ولا عاش أجواء التنشأة التي نحتها النظام السابق بإزميل الرعب في عقول العراقيين وقتذاك، تنبع قرارات هذا الجيل فرديةٌ نابعةٍ من الإحساس بالقهر والظلم، لم “تتلوّث” اقلامهم بمديح السلطة وما يتصل بها، وليس لديهم عارٌ يتطلب منهم انتهاز الفرصة وغسل وجوههم بدماء الثوار، لذلك على هذا الجيل ان يدفع الثمن هكذا رأت السلطة وحركات الإسلام السياسي، التي تحكم قبضتها على الأوضاع في العراق.

ردت الفعل على هذا الجيل تمثلت من إنه جعلها تفقد جميع أدواتها وصارت تتنبأ بزوال عروشها التي شيدتها بالخديعة، بعد أن صارت الساحات هي التي تقرر جدول اعمال الحكومة، ولذلك لم يجدوا حلًا غير استخدام العنف بأقصى مدياته (قتل واغتيال، وخطف، وابتزاز، وسحل وحرق) ولأن كل هذا يحتاج الى غطاء شرعي؛ سارع رموز هذه الحركات بصناعة هذا الغطاء واتهموا المتظاهرين بالمروق عن الدين، ، والعمالة والخيانة وتلقي الأموال من الخارج.
، فالعنف يحتاج الى شرعية لكي يأخذ مجراه.

وصفَ الشاعر الفلسطيني فخري رطروط شعراء هذا الجيل أبان ثورة تشرين بأدق وصف: “إنها الثورة العربية الوحيدة الحديثة التي يتقدم فيها الشعراء الشباب، والمثقفين الشباب الصفوف الأولى”
إذ إن معظم الشعراء الشباب هم كانوا في الواجهة، فمنهم من يسعف الجرحى ومنهم من يقدم الدعم اللوجستي، ومنهم من يوثق أحداث الثورة ويتلقى الرصاص في صدره، فضلًا عن كتابة القصائد التي سوف تخلّد مع خلود هذه الثورة، وتتمكن من خلق المشاعر والاحاسيس، بالشكل الذي يجعل أرواح القراء تطوف في الساحات، التي تنزُ منها دماء الشهداء.
شاعر في الميدان..
من القصائد التي كتبها مبين خشاني، ونالت شهرة واسعة حتى إنَّ صحيفة “الاحتجاج” التابعة إلى المدى نشرتها في وقتها بالإضافة إلى صحيفة تكتك.
تقول قصيدة خشاني:
أنَّ حياتي المنزوعة منِّي لم تكن حياةً

كانتْ وفاةً مؤجَّلةً

وموعدًا مع عدمٍ آخرَ

لا أسمع فيه نداءَ قلبي

حين يخنقه تلٌّ من جثثِ إخوتي،

بقىيَ أن أفقد نبضيَ وقد فقدتُه

وحقّقت كمال الموت وبهجتَه،

أنا مغدورٌ

واسمُ قاتلي ينموَ في لافتات الشَّوارعِ.

ويقول في موضع اخر من النص:
أيُّ يومٍ من التقويم هذا؟

إنَّه اليوم الذي سأموت فيه،

إنَّه اليوم الذي يتكرَّر كلَّ يوم

وأموت فيه.

بم قايضني العالمُ لكي أحمل كلَّ هذا الألم؟
تحاكي قصيدة مبين ما يعرف بالخوف السائل المنتشر على جسد المحتجين الذي يجهلون تلك اللحظة التي تنهي حياتهم، وهو أكثر أنواع الخوف انهاكًا؛ فالخوف يأتي في أفظع صورة عندما يكون متفرقًا، ومنتشرًا، وغامضًا، مشتتًا ومتقلبىًا، وعائمًا، من دون عنوان واضح ومن دون سبب واضح. بحسب تعبير باومان.

(قصيدة مبين خشاني في أحد أعداد صحيفة الاحتجاج اليومية)

الشاعر يعيش قصيدته..
اقترب مبين من كماشة السلطة ورجالها، فهو في البداية كان على يقينٍ بانتصار الثورة لذلك ذاب فيها دون انتظار كلمة شكر أو ثناء من أحد، بتاريخ 23، أكتوبر، 2019، أي قبل بدأ الموجة الثانية للاحتجاجات بيومين، كتبَ خشاني مطالب الثورة والتي كان منها: اسقاط الحكومة واستبدالها بحكومة تصريف اعمال، ابطال العمل بالدستور الحالي وصياغة دستور جديد، وإلغاء قانون الانتخابات، وقف كافة الانتهاكات التي تمس حياة المواطن وسلامته.. لقيت هذه المطالب والرؤية الاستشرافية رواجًا منقطع النظير على الفيسبوك العراقي اذ أصبحت بمثابة الدستور للثورة، الامر الذي جعل اسمه في صدارة الحراك.
بالإضافة الى دور مبين في كتابة المقالات عن الاحتجاج في الصحف، والمجلات والمواقع، ودوره ايضًا في نشر وتوزيع جريدة الثورة “تكتك” وسط بغداد.

 

 

 

(مبين خشاني وهو يقوم بتوزيع صحيفة التكتك على المحتجين)
لا تكمن خطورة خشاني في انه يغطي اخبار الحراك الاحتجاجي فقط بل لكونه يجيد اللغة الإنجليزية وهذا ما مكنه من أن يكسر عزلة الحراك الاحتجاجي عن العالم الخارجي؛ فأصبحت تقاريره وتغطياته تصل إلى وكالات وقنوات إخبارية مهمة تجعل العراق في صدارة المشهد العالمي. لذلك صار اسم مبين ينمو فيقوائم الموت المؤجل، دون شعور منه، بتلك اللحظة التي يضع فيها أحدهم فوهة المسدس خلف راسه وينهي حياته على الفور.
شعور مبين استيقظ بعد أن ضعفت روح الاحتجاج والتي صاحبها هجوم القبعات الزرق والفصائل الولائية على الساحات، بالإضافة الى تلقيه رسائل تهدده بالتصفية الجسدية، وهنا استيقظت خلايا خشاني بعد ان كانت ثملة وسط الجماهير، وصار يرى الخطر ماثلًا أمامه ومنكشف تحت الضوء.
هناك رسالة من قبل احد افراد الميليشيات يدعى لواء العقابي تخبر خشاني: “إننا إذا وصلنا اليك، لا تبكِ مثل النساء.”

ورسالة أخرى استقبلها صندوق رسائل خشاني من شخص يدعى أبو محمد صادق، تمطره بوابل من الشتائم والكلمات غير الأخلاقية، الامر الذي يفسر أن خلفها غضب يستدعي عدة خيارات من بينها قد يكون الاغتيال، خصوصًا إذا عرفنا ان أصحاب الرسائل، ينتمون إلى ميليشيات، تعد عملية الاغتيال مثل شربة ماء.

 

 

 

 

لذلك لم يكن غريبًا في بيئة لا توفر الحماية للصحفيين والناشطّين، أن يتعرض خشاني إلى تهديدات بالقتل والتصفية الجسدية من قبل جهات ميليشاوية يخشى حتى البوح باسمها؛ فقرر إيقاف نشاطه وان يعيش في عزلة تامة في بلد اخر؛ لأن جميع الجهات التي تدعي حمايتها للصحفيين والناشطين جمدت نشاطها خلال الاحتجاجات.
وبحسب مرصد الحريات الصحفية، فإن “العراق يعد أكثر بلدان العالم خطورة بالنسبة للصحفيين”.
ومع انطلاق تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر في العام الماضي، تعرض الكثير من الإعلاميين والصحفيين والناشطين إلى التصفية الجسدية، وكان مثل الناشطة رهام يعقوب والتي أسكت صوتها بواسطة سلاح كاتم، و الناشط تحسين أسامة بعد حملات التحريض التي تتهمهم بالعمالة لواشنطن والتعامل مع القنصلية الأمريكية فضلا عن اخر عملية التي طالت الناشط الكربلائي إيهاب الوزني، خلال العام المنصرم والذي اثره، قرر الناشطون في الحراك التشريني وبعض الجهات السياسي الفاعلة مقاطعة الانتخابات المزمع إجراؤها في العاشر من تشرين القادم.

أحدث المقالات