18 نوفمبر، 2024 3:24 ص
Search
Close this search box.

مبدأ المصلحة وتابو الضمير الجمعي

مبدأ المصلحة وتابو الضمير الجمعي

 لطالما أسهمت أسطوريات الفكر القوموي وطوباويات الايديولوجيا الماركسوية ، بتحريم الكثير من المفاهيم والمصطلحات ، وتجريم العديد من المواقف والسلوكيات ؛ لا من باب الجهل بمضامين الأولى والتشكيك بدلالات الثانية ، وإنما انصياعا”لنزعة التحزب السياسي الكامنة فيها ، واستجابة لرغبة التنميط الفكري المجبولة عليها . ولعل مفهوم (المصلحة) كان الأبرز في مجال تعرضه للتشهير السياسي والاستهجان الأخلاقي ، فضلا”عن حملات الإدانة للمتعاطين بمبادئه ودعوات التخوين للآخذين بقيمه . من منطلق كونه سليل الفلسفة الليبرالية وربيب الممارسة الرأسمالية ؛ المعنيتان بتعظيم شأن الفرد على حساب شؤون المجتمع ، وتغليب حقوق المواطن على حساب مصالح الدولة ، ورفع قيمة المشروع الخاص على حساب أهمية القطاع العام . وفي الواقع لا يوجد كائن عضوي على وجه البسيطة ، لا تسري عليه أحكام مبدأ المصلحة هذا ، سواء تعلق الأمر بمعنى المردود المادي المباشر ، وما ينطوي عليه من نزعة مطلبية وتطلع مكسبي ، أو بمغزى المدلول المعنوي غير المباشر وما يشتمل عليه من تسامي روحي وإيثار وجداني . مع ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار إن هناك استثناء واحد لهذه القاعدة ، يترتب على طبيعة النوع المعني بالمصلحة المراد تحصيلها ، لاسيما لجهة الاختلاف في الاستجابة والتباين في المقاصد والتنوع في الأهداف . ففي حال تعلق الأمر بالرئيسيات التي تختلف عن الإنسان ، من حيث تدني سلّم مراتبها في سلسلة التطور البيولوجي / العقلي ، فان مفهوم (المصلحة) يتحدد بالنسبة لها باشباع الاحتياجات الغريزية الملحة ، وتأمين فرص الحفاظ على أفراد النوع من تهديدات البيئة الايكولوجية المحيطة بها ، بالإضافة إلى الدفاع عن فضاءات مواطنها والذود عن مجالها الحيوي . هذا في حين إن المفهوم ذاته بالنسبة للإنسان ، لا يقتصر على مجرد إشباع تلك الاحتياجات المادية الصرفة والضروريات الوجودية المحضة ، ومن ثم الانتحاء صوب المعطيات الايجابية للاستفادة منها والانخراط بالوقائع الملائمة للتفاعل معها ، تلك التي تهيئ له سبل البقاء والاستمرار كموجود بيولوجي فحسب ، إنما تستدعيه ، بالإضافة إلى ذلك ، للتحرر من الاكراهات الاجتماعية التي قد تتعارض مع إرهاصاته الفردية ، والانعتاق من الالزامات العرفية التي قد تتقاطع مع قناعاته الشخصية ، والتفلت من الضغوطات النفسية التي قد تتصادم مع تواضعاته الوجدانية . ولذلك فليس بمقدور المرء الاستغناء عن دافع المصلحة ، حتى وان كان من أنصار ومؤيدي الأفكار والعقائد ذات المنزع الجماعي (الاشتراكية والماركسية) ، التي غالبا”ما تشيع في أوساط مريديها ومشايعيها ؛ إن كل موقف أو سلوك يتمخض عن إيحاءات المنزع الفردي / الذاتي ، لابد من تصنيفه ضمن خانة الإيديولوجية البرجوازية ، وبالتالي وصم صاحبه بتهمة الاثرة الشخصية والأنانية المصلحية . بحيث تخلق لدى المرء انطباع خاطئ مفاده ؛ إن كل من ينظر إلى مصلحته الشخصية بعين من التعاطف الوجداني ، واعتباراها حق مشروع غير قابل للتسويف ، ينبغي أن يدان اجتماعيا”ويستهجن أخلاقيا”ويرفض إنسانيا”. إذ إن ((الوعي الأخلاقي – كما يكتب أحد الماركسيين الروس – يكون بالضرورة مضادا”للأنانية ، لأن الأنانية والأخلاق على طرفي نقيض إيديولوجيا”، بل إن (الخلق الأناني) ليس خلقا”أو هو (خلق غير أخلاقي) إن صح التغبير)) . وهكذا فقد خلص الكثير من كتاب اليسار المتمركسين ، إلى إسقاط مبدأ (المصلحة) الفردية من حساباتهم ، لاسيما أثناء بحثهم في معطيات الجدل الاجتماعي ، وما ينطوي عليه من تفاعل وتواصل بين الفرد والمجتمع ، وبين الخاص والعام ، وبين الذات والموضوع . متمسكين بالصيغة التقليدية التي تقول إن ((الفردية أساس الأخلاق البرجوازية)) ، للحدّ الذي لم يعد للفرد من قيمة اعتبارية ينظر إليه من خلالها ، إلاّ بمقدار ما يتوحد مع سيرورة المجتمع الكلي حتى وان كان شموليا”في توجهاته ، ويتماهى ، بالتالي ، مع ضميره الجمعي حتى وان كان متعصبا”في تطلعاته . متجاهلين حقيقة ما أوحت به المنطلقات الماركسية ذاتها حين أكدت على واقعة انه ((لا يمكن لنزع الشخصية الذي يرتبط دائما”بتقليل شأن الفردية الخلاقة للناس العاديين إلاّ أن يتناقض مع حرية الفرد)) . وعليه فان ألأهمية التي تسبغ على المصلحة العامة باعتبارها قيمة عليا ، والاعتبار الذي يمحض للشؤون الجماعية باعتبارها مرجعية رمزية ، لا تتأتى لمجرد أنها نتاج تشريع القوانين الملزمة وإصدار القرارات الإجبارية ، من لدن صاحب السيادة (الدولة) أو سلطان العرف (المجتمع) . بقدر ما تتجسّد كحصيلة لمراعاة رغبات الفرد ومستحقات المواطن ، عبر احترام ارادة الأول وتأمين حقوق الثاني . إذ إن تلك القوانين والقرارات لا يمكن لها أن تحظى بالاعتبار وتنال التوقير ، من لدن أفراد غربوا عن ذواتهم تحت وطأة الطغيان السياسي ، وجردوا من حقوقهم نتيجة للحرمان الاقتصادي ، وسلخوا عن هويتهم بسبب الارتهان الإيديولوجي ؛ من منطلق أن  للكل أفضلية على الأجزاء المكونة له ، وأن للمجتمع أسبقية على الأفراد المنضوين فيه ، وأن للعام أولوية على الخصوصيات المعبرة عنه . بمعنى إن حرص المجتمع على صيانة مصالحه العليا من التضرر بفعل الأزمات ، والمنافحة في الذود عن وعيه الجمعي من التذرر بفعل الصراعات ، والسعي لحفظ كيانه الوجودي من التبعثر بفعل الانقسامات ، لا تتحقق على أشلاء مصلحة الفرد وبالضد من حقوقه وخلافا”لإرادته . واعتباره كبش المحرقة الذي يسهل التضحية به على مذبح الجماعة المأزومة ؛ لتخطي أزماتها المزمنة وتجاوز صراعاتها المتوطنة وتلافي انقساماتها المتجذرة ، أو الرصيد الذي يمكن التصرف فيه لحساب الدولة المخترقة ؛ لتغطية مظاهر عجزها المتقادمة ، وتدارك أسباب إخفاقاتها المتراكمة ، والتعتيم على عيوبها المتفاقمة ، أو الثمن الذي يمكن التنازل عنه لصالح السلطة المستتبعة ؛ لتغطية مفاسدها والتمويه على انحرافاتها والتستر على جرائمها . وإذا كنا قد ناقشنا فيما تقدم بعض مساوئ (التفريط) بدوافع الفرد / الإنسان ، لجهة اعتباره الذاتي وتوقيره الشخصي ، فضلا”عن نوازع اهتمامه بمصالحه الأنانية ومراعاته لحقوقه الخاصة ، فان تفاصيل الصورة لهذه الحالة سوف لن تكتمل بغير الحديث عن عواقب (الإفراط) بالدعوة لمأسسة تلك الدوافع والمطالبة بشرعنة تلك المنافع . لاسيما وان وطأة مثالبها لا تقل ضررا”عما لمسناه في الحالة الأولى ؛ سواء تعلق الأمر بالفرد الحريص على نيل مطالبه تحت أي ظرف كان ، وبلوغ مآربه بأي وسيلة ممكنة ، أو اتصل بالمجتمع المدفوع بهواجس ؛ تعليب الوعي وتنميط الشخصية ونمذجة السلوك وتأطير الرؤى وتقنين الحقوق وضبط الواجبات ، حتى  ولو اضطره الأمر إلى ذلك تبرير اللجوء إلى الإكراه لكبح جماح ما يراه تطرفا”غير مباح في تصورات أفراده ، وتسويغ استخدام القوة لردع ما يعتقده عنفا”غير مسموح في تصرفات جماعاته ، خصوصا”في الحالات التي يبلغ فيها إسراف الفرد في تسييد ذاته وتمجيد شأنه ، منحا”يتخطى حدود المعترف به ويتجاوز تخوم المتواضع عليه . وكمثال على هذا النمط من التهويل والتبجيل ، نقتبس من  كتاب (الذاتي وعالمه) للفيلسوف الألماني (ماكس شتيرنر) ، الذي عبر فيه ومن خلاله عن أقصى نوازع الهوس بالذات وتعالي الأنا ، دون أن تخالجه أية اعتبارات تتعلق بالروابط الاجتماعية والضوابط الأخلاقية ، لكي تحد من غلواء تلك النزعة المتضخمة والنفاجية حسب مفردات علم النفس . فقد كتب يقول على سبيل المثال ((إنني أرغب أن أكون كل شيء في هذا العالم ، وأن أمتلك أي شيء نافع لي ، ويكون لي أن أمتلكه ، فما عسى أن يهمني ما يكون حال الآخرين أو ما يقتنونه)) . ويضيف في مكان آخر ليتوج نزعته الفوضوية قائلا”((أنا والدولة عدوان لدودان … أنا الفرد ، لا آبه إطلاقا”بمصالح الجماعة ، وأنا لا أضحي من أجلها بشيء ، ولكني أستغلها)) . وبالرغم من توافق هذه الأفكار وتجانس تلك الطروحات مع جوهر النظرية الليبرالية حيال مبدأ المصلحة ، وما ينطوي عليه من مآخذ سياسية واقتصادية واجتماعية ، لاسيما في أوج تجلي ممارسات النظرية الرأسمالية في بعديها الداخلي والخارجي . فقد جرت محاولات عديدة ومساهمات متنوعة استهدفت في مجملها مدماك ذلك المبدأ الإشكالي ؛ من حيث عقلنة أساليبه وأنسنة تطبيقاته وشرعنة تصوراته ، عبر الشروع بإعادة النظر بالكثير من مسلماته النظرية وبديهياته الإجرائية ، التي انبثقت عنه وترتبت عليه وتحايثت معه ، بما يتجاوب والمعطيات الواقعية أو يتناسب والسياقات التاريخية ، الناجمة عن احتكاك المبدأ بالواقع والتحام الفكر بالممارسة . مما استتبع القيام بعمليات تشذيب نتوءاته الحادة ، وتهذيب تخريجاته القاسية ، وتصويب طروحاته الفجة . ولهذا فقد وجد أحد أبرز رواد الليبرالية الغربية (جون ستيوارت مل) إن ((الشخص الذي لديه رغبات ونزعات خاصة به – الذي تكون رغباته ونزعاته تعبيرا”عن طبيعته الخاصة ، كما نمت وتعدلت بواسطة ثقافته هو – يقال أن له شخصية . أما الشخص الذي لا تكون نزعاته ورغباته خاصة به ، فليس له شخصية أكثر مما لآلة بخارية من شخصية)) . والملاحظ هنا إن المناقشة التي يستعرضها هنا الفيلسوف البريطاني المذكور ، لم تجري على نسق التعارض المألوف بين المصلحة الخاصة للفرد مع المصلحة العامة للمجتمع ، أو الانطلاق من التناقض المفترض بين إرادة المواطن وإرادة الدولة – كما فهمت وروجت لحد الآن – الأمر الذي يعطي المسوغ المنطقي لأصحاب المعتقدات الجماعية ، لكي يشهروا أسلحة النقد الأخلاقي والتجريم السياسي ضد خصومهم الذين لم يفتأوا ينافحون عن حق الفرد في التعبير عن ذاته دون خوف أو تردد ، والإفصاح عن تميزه دون ارتهان أو استتباع ، والإعلان عن رغباته دون وصاية أو منّة . نقول إن المناقشة المذكورة لم تتمسك بذلك المنحى التقليدي الذي يصنف مبدأ المصلحة وفقا” لمنظور الخير والشر أو الحق والباطل ، وإنما اتجهت صوب التذكير بحقيقة إن المجتمع الذي يسعى لقمع ذاتية أفراده بحجة الحفاظ على وحدته المتخيلة ، ويصادر حق جماعاته في الإشهار عن طموحاتها بزعم ضمان استقراره المصطنع ، سوف لن يطول الأولى مثلما لن ينال الثاني ، بقدر ما سيحصد الكثير من الأزمات والكثير من خيبات الأمل . إذ إن الحكومة – كما يضيف مل – ((لا يمكن أن  تزيد على الحد في نشاطها الذي لا يعوق المجهود والنمو الفردي بل يساعده ويحفزه . فالشر لا يبدأ إلاّ عندما تحل بنشاطها محل نشاط الأفراد بدلا”من أن تحثهم على النشاط وبذل قواهم ، عندما تحيطهم بالأغلال في عملهم أو تطلب إليهم الابتعاد وتقوم بعملهم بدلا”من أن تزودهم بالمعلومات والنصيحة ، وتكشف أمرهم عندما يخطئون . إن قيمة الدولة ، في المدى الطويل ، هي قيمة الأفراد الذين تتألف منهم ، و الدولة التي تؤجل مصلحة نحو عقولهم ورقيهم من أجل بعض الزيادة في المهارة الإدارية ، أو ما يبدو في العمل أنه كذلك ، في تفاصيل الأعمال ، والدولة التي تجعل رجالها أفرادا”ليكونوا أدوات طيعة في يدها حتى لأغراض طيبة – ستجد أن الرجال الصغار لا يحققون بكل شيء انجازات كبرى ، وأن كمال الجهاز الذي ضحت من أجله لن يفيدها بشيء في النهاية ، بسبب الافتقار للقوة الحيوية التي فضلت إقصائها لكي يعمل الجهاز بصورة مرضية أكثر)) .
[email protected]

أحدث المقالات