تزعزعت ثقة المعري، منذ نعومة اضفاره بعدالة الوجود وسخف الحياة، وذلك حينما وجد نفسه اعمى لا يبصر الحياة، فلا يرى ما يدور من حوله رأي العين، فاتهم اباه إنه هو السبب الرئيس وراء ذلك، لأنه قذف به في اتون هذه الحياة بدون روية ولم يحسب له حسابًا. يريد المعرّي أن يقول إنّ كل الذي يفعله الرجل في سبيل نزواته سيعود بالتالي سلبا على ابنائه الذين سيخلفهم، شاء أم ابى، ثم لا يعلم عن مصيرهم شيئا وما ستؤول اليه الامور!. والسبب ايضا يعود الى الطبيعة التي خدعتنا، بحسب تعبير شوبنهاور. لذلك، نجد إن المعري يعزف عن الزواج عزوفا تاما، فيعيش حياته في واقع العزوبية بعيد مدلهمات الزواج، حاله حال مئات العظماء الذين اخذوا عهدا على انفسهم بأن لا يتزوجوا، امثال افلاطون وديكارت واسبينوزا وكانت وشوبنهور ونيتشة وامثالهم.
والفيلسوف الالماني نيتشة شك بفكرة الالوهية التي بنت واقعها الديانة المسيحية، فقد كان نيتشة بداية امره ذو ميول دينية كون اباه كان قسيسًا واراد من ابنه أن يصبح كذلك، ثم فقد ذلك الايمان رويدًا رويدًا، وتزعزع عنه من خلال تصرفات رجالات الدين المسيحيون، وما يقومون به من اعمال استهجنها نيتشة، ومنها استغلالهم للدين، وعدم فهمهم الفهم الحقيقي لفكرة الدين، وفلسفة الدين، حتى اوصى اخته بأن قال لها وهو على فراش الموت: “إذا ما مُتُّ يا أختاه، فلا تجعلي أحد القساوسة يتلو علي بعض الترهات لحظتها لا استطيع أن ادافع عن نفسي”.. حتى اخيرًا قرر بموت الاله.
المعرّي كان يبغض فقهاء عصره، فهم، رغم الاختلاف فيما بينهم، الا إنهم قد لا يختلفون في استغلالهم للبسطاء من الناس، فأعدهم استغلاليون ويعتاشون على هذا الاستغلال المبني على شحن روح الجهل بين صفوف الفقراء حتى يبقون دائما تابعين لهم، حتى باتوا يكذبون عليهم متعمدين، عبر منابرهم ووسائل اعلامهم المختلفة، فيلقون بغشاوة على عقولهم وعلى ابصارهم، ليشعرونهم بأن الحلول الجذرية لكل مشاكلهم ومعاناتهم، بيدهم هُم وحدهم (رجالات الدين) لا بيد غيرهم، من العلماء والفلاسفة والحكماء. لذلك فقد صب المعرّي جام غضبه عليهم، وراح ينشر اباطيلهم وترهاتهم على الملأ من خلال قصائده الرنانة، ولا يخاف سطوتهم، ومنها الحادثة الشهيرة التي رواها بعض المؤرخين، تلك الحادثة التي وقعت للمعري مع الشريف المرتضى، والتي كان فيها المرتضى يقلل من اهمية المتنبي ويرميه بالزندقة ويستهزأ بشاعريته، وسط جموع من العامة، فكان أن رد المعرّي عليه ببيت من الشعر هو بيت مشهور للمتنبي (فاذا أتتك مذمتي..)، فأستشاط المرتضى غيضا، فأمر بسحل المعرّي من ارجله ورميه خارج المسجد، وعدم السماح له تارة اخرى من دخول المسجد. وهذا دليل واضح على بغض الفقهاء للمفكرين وللفلاسفة والشعراء، الذين قد لا تجمعهم قواسم مشتركة، فبين هؤلاء واولئك بون شاسع في المعرفة وطريقة النظر للحياة المعاشة وللواقع المحتوم، بين نظرة انسانية جليلة يتبعها الفلاسفة، وبين نظرة استغلال واستعلاء يتبعها بعض الفقهاء، خصوصًا من الذين لهم اتصال مباشر بالسلطة، الامر الذي جعل من الفقهاء أن يرموا المعري بالزندقة، واحيانا ينسبونه الى الدهرية (الدهرية هم الذين يرون أن الدهر هو الذي حتف بهم الى هذا الوجود). وظل المعرّي شاكا في مصداقية هؤلاء، وعدم اصلاحهم، كونهم بنوا نهجا خاصا بهم لا يمكن أن يحيدوا عن ذلك النهج، بعكس المفكرين والفلاسفة، بل وحتى العلماء كعلماء الفلك والفيزياء على سبيل المثال، اذ قد تتبدل افكارهم وقناعاتهم، بين الحين والحين، بل وتتطور على مدار تقدم العلم، وكثرة الغور في التجارب والبحوث التي تتوصل اليها الدراسات العلمية الرصينة، نتيجة لتطور العقل البشري، لأن العقل البشري في حالة تطور مستمر كما العلم، التطور يأتي بتطور الزمن وبتطور التجارب البحثية، والعلم التجريبي.
المعري يشك بمصداقة الاديان الثلاث، فواحدة تقرع الاجراس لإعلان وقت الصلاة، وثانية تنوه من خلال المأذنة، وثالث له اسلوب آخر في ذلك، والثلاثة يدّعون أنهم يتبعون اله واحد، فلو كان الاله واحد بحسب دعواهم، والكلام يعود للمعرّي، لما اخلفوا في عقائدهم، وطريقة عبادتهم وشعائرهم وصلواتهم!، يريد المعرّي أن يقول إنهم ليسوا من الصدق في شيء، وانما هي مصالح تربوا عليها، وقناعات ورثوها واوصلها سابقهم الى لاحقهم، الاب يورثها الى الابن، فهي عادة تنشأ بالتدريج “وينشأ ناشئ الفتيان منا…على ما كان عوّده أبوه” لأنّ هذه القضايا هي مخالفة للعقل، ولا تنسجم مع المنطق السليم، بحسب المعرّي.
وتكاد تكون قضية المعري ونيتشة، قضية واحدة مشتركة، وأن كان الاول يبعد عن الثاني عقود طويلة، الا وهي صراعهما المرير مع المتصدين للدين، فقد كان هذا الصراع قائما على قدم وساق الى يومنا هذا. فقد تعرض الفلاسفة الى التصفيات الجسدية بالقتل، وبالتكفير والرمي بالإلحاد والزندقة وبالكفر احيانا، ففي اوروبا قُتل وكُفر وهُجر العشرات من الفلاسفة على يد رجال الدين، وخصوصًا في العصر الوسيط، فضلا عما تعرض له فلاسفة الاسلام مثل ابن الراوندي والحلاج المتصوّف، الامر الذي جعل من فلاسفة اوروبا ذلك العصر(العصر الوسيط) أن يكون جُلهم قساوستهم فلاسفة، ابتداء من اوغسطين الى توما الكويني حتى انسلم. وهذه الفترة هي تكاد أن تكون احط فترة مرّت بها الفلسفة الاوروبية، حيث اختلطت الفلسفة بالدين، بل هناك من استغل الامر، اما على عمد واما لأجل منفعة شخصية. لأن قضايا العلم امور عقلية كما هو معروف، وقضايا الدين امور نقلية، ايمانية محض، والحكم هو العقل” فشاور العقل واترك غيره هدرا…فالعقلُ خيرُ مشيٍر ضمّه النادي”. هكذا كان المعري يشيد بالعقل.
ونيتشة رفض الدين، او بالأحرى رجال الدين المعاصرين له آنذاك، وراوده الشك بدين آبائه واجداده، فالتمس غيره في “الانسان الاعلى” او السوبرمان، فهو لا يريد أن يرفض الدين جملة وتفصيلا، لكن ليس الدين الذي نكون خاضعين له بتطبيق تعالين يعدها سمجة وهجينة، يريد انسان سوبرمان قوي لا يخشى الصعاب، واما اله آبائه فما عاد يصلح لمساعدة الانسان من الشدائد، فحكم عليه بالموت، وتخلص منه نهائيا، والانسان الاعلى هو ليس الانسان الخانع المطيع للسلطان، بل أن الطاعة هذه لا ترتقي وسمو نفس هذا الانسان التي تريد التخلص من ركام العبودية والماضي السحيق، بل يريد انسان عصري، رافضا الاخلاق التي تربى عليها وهي “اخلاق العبيد” معتبرا أن تلك الاخلاق هي من ضع السلاطين، الغاية منها أن تطيعهم الرعية على اعتبارهم يمتلكون اخلاق تحثهم على الطاعة العماء، والهدف منها عدم الشقاق ليبقوا هم في سدة الحكم. اخلاق العبيد هذه تريد أن يبقى الانسان يرزح تحت طائلة تلك الاخلاق المتدنية، فلا يعترض ولا يرفض، ويرى نيتشة إنّ الانسان الاعلى، الانسان القوي، موجود في الشعب الالماني.
لذلك أن هتلر استغل فلسفة نيتشة هذه فسار على نهجها، مغالطا بذلك فلسفة نيتشة الحقة، اذ لم يرد نيتشة أن تُمحى الشعوب الاخرى من اجل شعب المانيا، كما فعل هتلر في تلك الجرائم البشعة بحق اليهود، بل عنى بالإنسان السوبرمان، كما نوهنا قبل قليل.
يقول نيتشة على لسان زرادشت “لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق. إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه الأرض وروحًا لها.
أتوسل إليكم، أيها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم فلا تصدقوا مَن يمنونكم بآمال تتعالى فوقها، إنهم يعللونكم بالمحال فيدسُّون لكم السم، سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون، لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها.
لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد نظرة الاحتقار فلم يكن حينذاك من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار. لقد كانت الروح تتمنى الجسد ناحلًا قبيحًا جائعًا متوهمة أنها تتمكن بذلك من الانعتاق منه ومن الأرض التي يدبُّ عليها، وما كانت تلك الروح إلا على مثال ما تشتهي لجسدها ناحلة قبيحة جائعة، تتوهم أن أقصى لذاتها إنما يكمن في قسوتها وإرغامها”.
وثمة مقاربة نهجية بين المعري والفيلسوف الالماني نيتشة، (وأن كان نيتشة وجودي والمعري متشائم) فالاثنان رفضا القائمين على الدين آنذاك، على اعتبارهم لا يريدوا الدين لأجل الدين، بل سخروا الدين لأجل مصالحهم الشخصية. وهذا ما اتفق معهما عليه الفيلسوف الالماني كارل ماركس.