قبل ان تغيب الشمس يلاحظ المارة من بعيد شاباً ممتلى على الجسر ، دائري الوجه قليل الشعر قد افترش احد مدرجات نهر دجلة فارشاً احد الصحف اليومية واضع عليها رغيف خبز وخيارة …وبجانبها كتاب قد اصطحبه لمدة من الزمن حتى تهزأ غلافة …
وهذا كتاب شاهده المارة كان يحمله (مبخوت) كان (لابن سينا) والغريب كيف لصاحب محل لبيع الملابس ان يقرأ التتمة والاشارات (لابن سينا) … وكان (مبخوت) … كعادته حين تغيب الشمس يهمس بأذن ملائكته مخاطباً ربه ، انا العابد : أنا اشُبه روحي رغم ان روحي في الدنيا غريبة ، نعم انا العارف …لايختر مع الدنيا فأنا موقن انها لا تنفعه ولاينفعها …
(مبخوت) كان لايبيع في يومه شيئ كان يصف حاله كما يقول محمود درويش:-
(أذا فرغت اكياس الطحين يصبح البدر رغيفاً في عينه…)
وكان حين تفر منه همته يزور احد اولياء الله الصالحين كان يوزع (خرقة خضراء) على زائريهم …فهو يعتقد ان الشارة او (العلگ)
كما يسميه الجنوبيون … ويضعها على كتفه ان ساءت الامور …(مبخوت)كان شعاره او سلوتهُ في نهاره وليله (أذا ماكنت ذا قلبٌ قنوع، فأنت ومالك الدُنيا سواءُ)، وكان يلجأ الى الدعاء حين تخذله الحظوظ … وان فطرتهُ السليمة تذُله على الفرج وقد روى حالات التوفيق واللطف لأحد جليسيه : انه عندما ذهب ذات يوم حاملاً بضاعته الى مدينة (الكوت)مركز محافظة واسط …قرر ان يمارس فنه البغدادي فأخذ ماجادت بهِ يده ليرمم بطنه فجلس قرب (سدة الكوت) على نهر دجلة …بعد ان خيم الليل عليه اجتمعت عليه جماعة فأوسعته ضرباً …فأوسعته ضرباً فذهب راكضاً محشماً الناس وأهله في الصوب الثاني من النهر …فسار على الماء من حرقة قلبهِ…(مبخوت) يدعوا ويولول …ويلكم من غضب الله …فحين رأو سيره على الماء العميق…وهي بركة قلّ من يحصل عليها إلا (المبخوتون ) مثلهُ وهي كرامة …حينها
قرروا ان يبحثوا عنه واعتذروا منه فيما بعد لانه (مبخووت) السائر على الماء…
(مبخوت) كان عند البعض من اصدقاءه (ملول) حتى وصفه احدهم انهُ كان (احد الهاربين من الحياة والداخلين في دهاليز الوهم ).
حيث غَير طقس جلوسه على ضفتي النهر ، ليذهب لطقس اخر …لقد وجد ظالته عند جدارية (فائق حسن) في ساحة التحرير …فحين يغمره الحزن يختار حيزاً …فيجلس متكئاً على احد اضلاع الجداريه فيتغطى ببطانية خضراء …وبجواره قطعة كارتون مكتوب عليها (لا راحة في الدنيا)…
كان (مبخوت)حين تغادره وحشته يلفلف بطانيته وينهض لعمله فقد سمعَ من بعيد
أحد العجايز …توجه له كلماتها…
قم ياولد …انهض يمة…كن سَبع…ولاتجعل المرض والوحشة…تأخذ من همتكَ..قم ياسبع …فالأرزاق تنتظرك (يامبخوت)ولاتستبدل الهمة بالتسول … ولا الدراية بالغباء …أنهض….
كان اقصى مايتمناه هو ان يحقق حلمه البسيط …الذي يشبه احلام جميع الناس الفقراء …وان لايكون لحلمه أية صلة بمطامعه وخلافاته مع الاخرين ….واختلافه معهم بكل حشدهم وأمانيهم غير المفعمة …ووعودهم المثكلون بها ….
أي فيض رباني نشرته في روحه هذه الامرأة العجوز …واي الأماني حملها (مبخوت)والتي هي غاية مايتمناه …الشباب مثلهُ ….
المُهم (مبخوت)…قد فرط بين عينه الرزق الحلال …فقد خسر في محلاته العديدة التي في باب المعظم و الرشيد والسعدون … وهو في كل خساراته …كان حين يحل الليل يتقاسم ماجادت به الحياة من رزق بين اصدقاءه فقراء وصعاليك ومهمشون المناطق العديدة التي استقر فيها …كان حين يلتقي بأحد اصدقاءه الفقراء يقول لهم :-
وهم اليگول ام العُلى ناخذها بالصلاه…
حينها انبرى له صاحبه (جودة )ماذا تقصد ب (ام العُلا) ..قال (مبخوت)هي الدنيا،الوجود ،الحظوالبخت…
قال لهُ صاحبه الثاني :يعني قصدك مثل ماقالت ام كلثوم…
لاتشغل البال …بماضي الزمان
ولا يأتي العيش …قبل الأوان
وأغنم من الحاضر لذاتهُ…
فليس في طبع الليالي الامان …
بعد عدة سنوات ….وأنا وصديقي نتسكع ضجراً من محاصرة (كورونا) …وقريباً من بيوتنا في منطقة الكرادة …يقرأ صديقي لافتة لأحد محلات الملابس مكتوب عليها (مبخوت أنيق)… التفت لي صاحبي وقال: هل هذا محل (مبخوت)صاحبك ؟ قلت ماأدراني؟…
قال :لندخل المحل لنتفرج على شيئ يفيدنا …وما إن دخلنا محل بيع الملابس … حتى وجدنا شيء مدهش !!
مجموعة من الباعة المتجولين …بائعة المناديل…بائعي قناني الماء …عامل بيع الشاي …ومجموعة من الاطفال الاخرين …
وهم يجلسون على مائدة بسيطة … وشاب اربعيني يخدمهم وهو يرتدي قبعة رأس …
وقبل ان نُسلم ..صاح أحدهم تفضلوا …ما أن رفع رأسه حتى صرخت بوجهه …(مبخوت)
قال : نعم استاذ
قلت : كيف الدنيا
قال: الحمدلله …انا وأياها نتصارع ، تاخذني مرة .. ومرة أخذها ….
الحمدلله أني بخير …
وأردفت :(مبخوت) هل أرتاحت روحك … وتحسنت نفسيتك …
أطرق قليلاً …ثم تناول قنينة ماء…واجابني بصوته الخافت …
أحس گلبي الفظي متعوب حد الويل …
وأدعيلة الصبر عن مايفشلني ….
يلتمن علية مشتتات البال …
وانفضهن نفض وانهض ولاچني …
كفاني أفرح مَرع …والتذ بحب الناس …
وعملات الگبح مايوم خاوني …
وأضحك بالوجوه بغير راحة بال …
وأصبر لو ليالي العسر ضكني….
مبخوت …مبخوت…سرح مبخوت طويلاً …
ثم أجابني بكلام كأنه هلوسات (مبخوت): قد تشعر بالوحدة بين كثير من البشر وفيهم اهلك …وقد تشعر بالفرح بشخصً واحد …
والأمر لايتعلق بمن هم من حولك ،بل بقلب من هو بجانبك ….
والحمدلله انا اشعر بالفرح مع فقراء الله …
وأدير ظهري لأغنياء الدنيا وأن كانوا ابناء جلدَتي …
قلت (مبخوت) …لقد خَسِرت كثيراً ياأخي..
قال:أستاذ انا لا أحزن على شيء فقدته ، فربما لو ملكتهُ لكان الحزن أكبر ….
أستاذ …كولشي مقدر ومكتوب ..
حينها تفرست في وجه صديقي ، مغتنماً ذهاب مبخوت ليقدم لنا ضيافتهُ…
وقلت له…مَن صَدقت لهجتهُ …قَويت حجتهُ…
جاء مبخوت حاملاً قنينتي ماء …معتذراً عن ضيق المكان وفوضى المناسبة …
مفاجئنا بالقول : أستاذ الفقراء (احباب الله) وانا من فقراءه الذين اغناهم رب العباد كثيراً…العمر ،الصحة ، الستر والعافية )…
أستاذ …الفلوس وسخ دنيا …والفقراء قلوب نظيفة …وأيادي بيض…
وأردف بعد ان رفع قبعته السوداء وضهرت (صلعتهُ)…يقول احد العارفين :-
سياتيك حلمك …من حيث لاتدري …
كدعوة قلتها ونسيتها فخبأها الله لك…
حين يحين موعدها ….
لقد بدأ ضيوف (مبخوت)من الفقراء يغادرون، بعد ان أنتهوا من زاد المحبة …
وأبو ان يسلموا علينا واحداً واحداً…
كل منهم مقدماً نفسه ..
احمد : خريج اكاديمية فنون
نبيل:مهندس فرع زلعة
سعد::طالب قانون
بعد سماعي لأسماء شهادات هؤلاء الشباب الفقراء ، دارت الدنيا بي…وذُهلت بصبر وجَلد وإقبال هؤلاء الشباب على العمل أياً كان وكنت اتمنى ان أخرج مسرعاً…فقد قطع ( مبخوت ) قلبي …بكرمه الشجاع …وحزنت على هذه الوجوه …من الشباب الطيبين الفقراء …وهممت مغادراً مُسرعاً لأصدح بقول أحد الشعراء :
الحرب ضحاياها البسطاء …
والجوع ضحاياه البسطاء…
والتاج ضحاياه البسطاء…
والحب ضحاياه البسطاء…
نحن الأرض ونحن الزرع ونحن الماء…
من أنتم لولا البسطاء…
حفنة اشياءٌ جوفاء…
أشياء تخلفُ أشياء…
واعباءٌ نتجت أعباء
نحن التاريخ …من أنتم …
نحن الناس …نحن الرحمة و(العباس)
خرج (مبخوت) محاولاً اللحاق بي مصبراً عليَّ دمعتي التي استمالت الى نشيج بكاءٌ متصاعد ..قائلاً لي :-
أستاذ .. هذهِ الحياة جمالها بفقرائها…وزرعها نحن …نحتاج فقط أن نصبر …فالخير آت …
قلت مبخوت : تقول لي أصبر …منين أجيبك ياصبر…