18 ديسمبر، 2024 7:51 م

نحن لسنا ضد الذين، والمثقف الحقيقي لم يكن في يوم من الايام، وقف يكافح ازاء الدين، ومن قال غير هذا هو من يريد زرع فجوة بين المثقف والدين، فجوة لا يمكن ردمها، اما: لغاية في نفسه، أو لكسب منفعة، أو هو ذاته لم يفقه فلسفة الدين ولا يدرك مغزى وهدف الدين؛ اليس الدين هو اخلاق الهية يطبقها صاحب الدين على نفسه ويتعامل بها مع الآخرين؟. اليس الدين يدعو الى الخير والسعادة والقيم النبيلة؟، وحث الناس على العمل الذي ينجي الناس من براثن الكسل والتكاسل وعدم الافراط بحياة ومصالح جميع الناس على حد سواء، الا ما يخدم مصالحهم المشتركة، التي يفضي بالتالي الى انبثاق روح المحبة والاخلاص والتفاني من اجل الكل، بغض النظر عن صالحهم وطالحهم، ابيضهم واسودهم، وهو ما تدعوه الاديان جميعها، وتشهد عليه فلسفتها وقيمها التي قامت هي نفسها بنفسها؟. هذا ما يعلمه المثقف، والمثقف المطلع، الذي يدرك الهدف السامي لقيم الدين، وما يفهمه كذلك من فلسفة نادى بها الدين، وبيّن رسالتها الانسانية منذ تاريخها، يوم كان الانسان هو اقرب الى الحيوان الاعجم منه الى الانسان العاقل، أي قبل اكتشاف النار، وتحديدا، يوم كان يسكن الكهوف ولا يعرف كيف يبني له منزلا يقيه من القر ومن الزمهرير، ورويدا رويدا حتى وصل الى ما وصل اليه اليوم من تقيات العصور الحديثة وهذا التطور العظيم. كان قد استنجد بالدين ولاذ به كما يلوذ الوليد الصغير بأمه، حينما يشعر بمخاطر جسيمة تحف به.
هذا هو الدين، بتعبير آخر، الدين ملاذ الانسان الذي يصد به المخاطر الخارجية، وبالخصوص المخاطر غير المعلنة، المخاطر المتوقعة، والمجهولة والتي لا يدرك كنهها، ومنها الموت وما بعد الموت والحياة الاخرى التي سيؤول اليها، وما يصاحبها من قضايا يجهلها، ولم يستطع عقله أن يدركها، لأنها فوق مستوى عقله ويعجز عن تفسيرها لبه.
لكن ما هو الدين الذي يريده المثقف، أو بالأحرى الدين الذي هو كان قد فهمه وغاص في اعماق فلسفته؟. هذا هو السؤال.
يرى البير كامو، الفيلسوف والكاتب الروائي “إن طريق الحياة وعرٌ وشاق بدون مساعدة الدين والفن والحب”. اذن ثمة ثلاث ركائز رئيسية يمكن لنا من خلالها أن نضع اقدام النجاح في حياتنا ومسقبلنا، هي هذه المعان الثلاث، وقد جعل كامو اول ركيزة هي الدين. وأن فقدنا ركيزة واحد من هذه الركائز سوف يُكتب لنا الفشل، وما بعد الفشل الا الخسران المبين، وعلى وجه الخصوص الركيزة الاولى، التي هي الدين. لكن المشكلة هي في من يستغل الدين ويتخذه مطية يمتطيها في تحقيق مآربه واهدافه. ومثل هؤلاء هم من عناهم شوبنهاور بقوله “الطبيب يشاهد كل الضعف البشري، والمحامي كل الشر، ورجل الدين كل الغباء”. يصبح غبيا، رجل الدين، بحسب الفلسفة الشوبنهاورية، حينما يستغل الآخرين ويستفزهم واحيانا يسرق اموالهم ويحتال عليهم، بل وطورا يكذب عليهم بنصوص ينسبها الى الاله وربما الى الانبياء، فلا يخجل من هذا الكذب والتدليس والمراوغة، كل ذلك من اجل مصالحه واهدافه، فهو يجعل المبررات منساقه لخدمته، لا تهمه مصلحة الناس بقدر ما تهمه مصلحة نفسه، اذ يعد نفسه أنه يتصف بالأخلاق، لكن الاخلاق بعيدة عنه كل البعد، فالذي يدلس لا يفقه قيمة الاخلاق، اليس الاخلاق هي رسالة الانبياء؟، اليس هي من دعا اليها بعد الانبياء هم الفلاسفة والعلماء واهل الاصلاح من الخيرين؟. فأين هم من اولئك. وكأن سقراط هو الطبيب الماهر وعالم النفس المتحذلق حينما كان يرى إن” قلة الدين وقلة الأدب وقلة الندم عند الخطأ وقلة قبول العتاب أمراض لا دواء لها”. فهذه كالسرطان القاتل لا دواء ينفعه ولا طريقة تجدي به، لأن حالته وصلت الى ادمان الجهل، وركوب المخاطر التي لا يمكن المحيص عنها.
واذا كان بعضهم يصف هذه بـ “الاخطاء” أي هذه الامور التي يرتكبها، بقصد، معظم رجال الدين، وبمرور التاريخ، فهي اخطاء كارثية، ففيها زهق ارواح، وسلب اموال، ومصادرة حقوق، وتضييق حريات، واتهام المفكرين بالهرطقة، والفلاسفة بالزندقة. فمن يعيد لكل هؤلاء الذين وقع عليهم الحيف، ويعيد اليهم حقوقهم، الحقوق المعنوية والعينية معا. وبحسب تعبير ديفيد هيوم ” بشكل عام، الأخطاء في الدين خطيرة، بينما التي في الفلسفة سخيفة فقط”. وهيوم هنا لا يعني بعبارة “سخيفة” المعنى المستهجن او يريد الانتقاص من قيمة الفلسفة، بقدر ما يريد القول: إن الاخطاء الفلسفية يمكن اصلاحها والرد على مدلولاتها كأن يكون قد التبس على الفيلسوف الامر، أو عصت عليه مسألة من المسائل ففهمها كما فهما هو. وكانت معظم الفلسفات تقوم على نقض الفلسفات التي سبقتها، بمعنى آخر إن الفيلسوف ينتقد الفيلسوف الذي سبقه كأن يبطل فلسفته ويأت بعكسها، أو يقوضها فمثلا أن فلسفة كارل ماركس هي جاءت نقيض من فلسفة هيجل، وبالتالي ظلت فلسفة هيجل كما هي وكذلك ظلت فلسفة ماركس قائمة بذاتها، بل جاءت مدارس أخرى كثيرة بعد ماركس انتقدته وحاولت ابطال فلسفته، حتى حينما كان يرى ماركس “إن الدين افيون الشعوب” فقد جاءت دراسات وبحوث واقوال كثيرة تثبت عدم صحة هذه العبارة واعتبرتها مقولة مبالغ بها وغير دقيقة.
ثم اليس فرانسيس بيكون، كان يعتقد ” إن قليلا من الفلسفة يجعل الإنسان يميل إلى الإلحاد، أما التعمق والتبحر فيها فيجعلان عقل الإنسان يميل إلى الدين”. وكأن بيكون هنا ينتقد ماركس على مقولته هذه، فيعتبره غير متعمق بالفلسفة، وأن هذه المقولة فيها قسوة مفرطة على المتدينين، علما أن بيكون كان فيلسوف متدينا، بعكس ماركس الموغل بالمادية، والمادية الجدلية. والفلاسفة بحسب تقييم بعض مؤرخي الفلسفة ينقسمون الى ثلاث فئات: ماديون، ملحدون، لاأدريون. ولكل من هذه الفئات الثلاثة مدارسها واتباعها، منذ الفلسفة اليونانية والى يومنها هذا، هي مدارس قائمة بذاتها.
الدين، إذن، لا يمكن الاستغناء عنه بأي حال من الاحول، ولا يمكن تبديله، اذ هو والعلم صنوان لا يفترقان، فكما نحتاج للعلم كذلك نحتاج للدين، وافضل من عبر عن هذا هو مارتن لوثر كينج بمقولته “العلم يبحث؛ الدين يفسر.. العلم يعطي الإنسان المعرفة والتي هي قوة؛ الدين يعطي الإنسان الحكمة والتي هي ضبط.. العلم يتعامل أولاً مع الحقائق؛ الدين يتعامل أولاً مع القيم.. الاثنان ليسا متضادين، بل مكملان لبعضهما البعض”. فالعلم نكسب به الاولى ونعمّر به الثانية (الدنيا- الآخرة) كما الابدان تحتاج الى تقويمها وديمومتها ومقاومتها للأمراض وما يعتريها من خطوب واهوال، كذلك تحتاج النفس الى ما يقيم أودها لكي تستقر وتمعن بالأمان.
الانسان يحتاج الى قوة ودافع، على اعتباره كيان ضعيف، حتى يقاوم ما يلاقيه من صعوبات الحياة، كي يستمر ولا يتمزق شراعه بأول عاصفة تعتري طريقه في لجة الابحار، فيستسلم لها كالغريق الذي تلقفته موجة البحر فقذفته في الاعماق. هنا سيكون مصيره الغرق لا محالة، فلا من مُنجي ولا من منقذ، بعكس الذي يمتلك قوة، وقوة جبارة، لا تداهن ولا تستسلم، فهو المنتصر، هو القائد الباسل الذي تحوطه جيوش جرارة، وعساكر كثيرة، لكنه يمتلك إرادة صلبة وتحت امرته جنود كماة لا تهاب الموت، ولا تخشى العدو، فسُيكتب له النصر، وسيعود ظافرا مرفوع الهام. وهذا الذي عبّر عنه جورج برنارد شو، الكاتب المسرحي الكبير ” الدين قوة عظمى.. انه القوة الدافعة الحقيقية الوحيدة في العالم”.