23 ديسمبر، 2024 1:38 ص

كانت البهجة تسبقه وهو يُطل علينا من موعدٍ مهم جداً ،  لقد أبْلغتْه بلديةُ العاصمة البريطانية خبراً سعيداً فوق العادة ، إنّه صديقي  قداسة المطران اثناسيوس توما داوود رئيس الطائفة السوريانية في بريطانيا، الأبُ الذي أعشق الاستماع له والحديث معه بحرية تامة ، يذكّرني باستاذ لي في الجامعة ايام الثمانينات وهو يتحدث في الدين والسياسة والتاريخ والدنيا والآخرة والنازحين والهوية والمجتمع، وكأنّه المسؤول المباشرعن البشر جميعهم .
 منذ اكثر من عام والمطران يحاول شراء كنيسة قديمة في منطقة (أكتِن) شمال غرب لندن  وقد بذل الرجل مافي وسعه كي يتمكن من شراء الكنيسة وتجديدها وتحويلها الى مركز عبادة للجالية السوريانية في بريطانيا ، وبفضل الله وبركات سيدنا  المسيح آلت الكنيسة المهجورة الى  سيدنا توما والجالية التي وراءه ليبدأ العمل ببنائها بعد استحصال إجازات البناء والاجراءت اللازمة ، باستثناء إجازة واحدةرفضت بلدية لندن باديء الامر منحها اياه ،ومع الالحاح اخضعتها للدراسة  ، حتى اتخذت قرارها الذي اعتبره أبونا الرحمةَ كاملة ًبعينها.
لقد وافقت البلدية أخيرا على طلبه أن يدفن داخل الكنيسة نفسها ، وليس في المقابر الخارجية . وهذه الموافقة الثمينة ليست بسيطة في بريطانيا ، لكنها بالنسبة للاب توما تعني الحياة الابدية . 
حتى الآن الخبر اعتيادي في سياق الإيمان باليوم الآخر ، وعمل الخير خوفا من نار الله أو طَمَعا في جنته ،  وكثير من الروايات والحكم والنصوص المختلف حول كونها حقيقة أو افتراضا ،  لكنّمستوى الفرح الذي اشتعل في صدر ومحيا المطران يجعله محط حسدي له فعلا .. حسدي..وانا العبد الفقير البسيط الذي لم أحسدْ شخصا في حياتي،  لكوني ارى  أيّ كائنٍ مصيره الزوال في النهاية مثيرا للشفقة ، لايصح معه الحسد مهما تمتع به من جاه او مال أوامتياز أو نفوذ. فرحُ الأب توما يعني بالضبط اليقين التام ، اليقين غير المتردد بانه سيدخل القبر معززا مكرما معطراً بأبهى ملابسه وصولجانه ، يودّعه أحباؤه وهو يصغي الى أدعيتهم ، ويستقبله الملائكة ُالذين طالما حدّث الناسَ عنهم ، والقديسون الذي خدمهم و نقل الى البشر تعاليمهم ، دافئا آمنا داخل الكنيسة التي بناها بنفسه ، وخارطة  القبر التي صممها بيده وأشرف على تنفيذها. فَرَحُ من ينتظر المكافأة على صبره، وحرمان جسده من الشهوات، ونفسِه من المُتعِ واللذائذ ،  شعور تام ينعدم معه الهلع من فكرة الموت والفناء ، يقين لايحسد إبنُ آدم على شيء الاّه ، ولايبارَك الا ّ عليه ،طاقةٌ فريدةٌ من الاطمئنان والسكينة ، لاتستطيع ان تقلدَها او تتدربَ عليها، طالما كنتَ أسيراً للشك بما يقال والتردد في اتخاذ القرار . فالايمان رحمة ،الايمان أهم من الوعي والمال والثقافة بل أهم من الصحة وأهم من الحرية .. لانّ بالايمان واليقين تصغر في عينك عظائم الدنيا ، وتتغير تعاريف المرض والحاجة والموت والأسف واليأس ، لكن المعضلة الكبرى : كيف يتحقق في روحك ذلك اليقين النهائي الفذ .. ذلك هو السؤال؟
أحييك أخي نيافة المطران ، وأهنئك على  قرار بلدية لندن بدفنك بعد موتك داخل الكنيسة، ومباركٌ لك يقينُك.