22 نوفمبر، 2024 11:39 ص
Search
Close this search box.

مباحث و قراءة في شعر عبد الكريم كاصد (8)

مباحث و قراءة في شعر عبد الكريم كاصد (8)

التشكيل النصي و مسارية التصعيد الدلالي
مدخل :
من المحاور الرئيسة التي تضمنتها مباحث دراسة كتابنا (فضاء قصيدة الفقدان) حول شعرية حساسية التشكيل النصي في فضاءات قصيدة عبد الكريم كاصد ، خصوصا ما ينطلي عليه ذلك الجانب من رؤية حالات ( الأمكنة / الزمان / حوارية الأشياء / حسية التحول ) وصولا إلى جملة تلك الاشارات الضمنية في خيارات اللامجدي في الإمساك بذلك الآخر من الوجود الكوني ، إلا في حدود دائرة شرطية المخيلة ، و تصعيد النمو الدلالي نحو مواطن و آفاق من اللازمن الحقيقي .

ـــ النص في علاماته الابهامية :
لا جدال في أهمية غاية وجود ثمة مقاربة لأفق الابهامية في قصيدة الفقدان ، لدى الشاعر الكاصد ، خاصة و أنها تسعى إلى ملامسة وجذب و ضم خلودية ذلك الدال المسمى بــ ( حذام ) في مواطن غامضة في مؤداها المترشح عن دائرة الرثاء و المرثية ، لذا ترانا نعاين موجهات النص لديه و هي تتجه نحو علامات متغيرة و ثابتة ، من تواصلية تصعيد أفق الدلالة الشعرية ، حيث لنا أن نقرأ ما جاءت به مقاطع قصيدة ( كل شيء على حاله ) :

كلّ شيءٍ على حالهِ
مذ رحلتِ
أسواقها و الضجيج
كأنكِ ما كنتِ يوماً هنا . ص75

و بهذا يصح القول منا ، بأن الشاعر يسعى إلى معاودة تضم و أحتواء ذلك الزمن الحاضر ، في حالات وجود ذلك الآخر ــ حذام ــ و الاكتفاء إليه بمثابتة معاينة الصورة الزمكانية ، بعد الفراغ من زمن حذام الشخصاني ، مما جعل دلالة التباعد و التشخيص و التعقب تنصب في حدود نتيجة لا قيمة لها ، في زمن السقوط الذواتي في دائرة الاكتفاء و التوقف عبر فاصلة الإيقاع الزمني المحفوف بذاكرة بؤرة الغياب :
تذرعين الشوارع
مشغوفةً بالمدينة و الناس
ما كنتِ يوماً
ولا كنتِ يوما. / ص75

توافينا لازمة تكرارية المفردات الأحوالية ، في المقاطع النصية ، تأكيدا من الشاعر على نمط حسية إشعاعات قذف الزمن عبر مناطق الذاكرة و المخيلة ، لا لكونها محوريات مستعادة فحسب ، بل لأنها رؤى اخآذة ، جعلت تحدد عضوية تشكلاتها في معنى حاضرية و غائبية ذلك الآخر بعدا و قربا ، و تبعا لهذا أخذت تواجهنا علامة النص الشعري تحققا في مسار الاستطراد و الاحتدام و التصادم في محاور قصيدة ( لو رجعت ) ولا شك أن الشاعر من خلال دوالها راح يقدم لنا رؤية (التشكيل النصي ) عبر جملة خاصة من المثال و الحلم إلى حد بعيد ، من نزعة المتأرجح بين البدء و شفافية المنتهى :

لو رجعتِ إليّ
ـــ و هذا محال ـــ
لكنتُ أنا الميْت
هيهات !
هيهات !
عيناك مغمضتان
و وجهكِ فوق الوسادة
و وجهكِ ذاك الحبيب
أ أنكره ؟ . / ص74

نلاحظ مديات التدفق الحسي وهو يراوح و يستحيل ، من لدن الشاعر إلى أحياز حوارية تعجبية و استفهامية ، جعلت مكتفية برسم جملة تحولات التركيز و الترابط في سياق مواضع الرؤية المتوسلة بذلك البعد التشكيلي المرهون بأفق الانتهاء و العودة قبل فوات الأوان ، وصولا منها إلى مواطن ذاتية استدعائية ، تصل إلى أقصى محاور بلاغة فكرة التصوير و المغايرة المونتاجية حلما و وهما و رجاء :

أم تراهُ سينكرني
لو رجعتِ إليّ
وهذا محالُ. / ص74

نجد الحالة الختامية من تشكيلات النص ، قد ظلت صورة غيابية في مجمل مكوناتها الشكلية و البنيوية و السيميائية و الدلالية ، تأكيدا لذلك الشجن الملحمي المستغرق في مناجاة الذات الشعرية ، في قصيدتها المستحكمة في فضاء و بنية أزمة الذات الانوية داخل و خارج متن النص .

ـــ تحولات الشاعر بين زمنين .
أن قراءة قصيدة ( نحن لم نفترق ) للشاعر الكاصد ، تنقلنا إلى الأحساس بأن الشاعر ذاته ، كان في نصه يحيا بين زمنين ، الأول هو ذلك الزمن القريب الظاهر ، أما الثان فهو المتكفل في معنى الرحيل عبر مسافة المجاورة الخفية في حافزية دلالة الموت ، إنه صراع الحلم و الواقع ، الوهم و الحقيقة ، بين من يرى و من لا يرى :

نحن لم نفترق
حين قلتِ : وداعاً
وقد أشرع الموت أبوابهُ
كنتُ في أرضهِ تائهاً
أقتفي أثراً منك ضاع . / ص88

يولد من هذه الأوضاع الشعرية ، جملة تماثلات جهاتية متوغلة بين تقابل حضور و جهة غياب ، وإذا وافقنا المعنى المقترح في متن النص ، علنا نتجاوز منطقة الحلم تماهيا مع دلالات المرفقة ، بفاعلية الانشطار الدلالي ، و ذلك استجابة للكيفية التشكيلية في محفز سياق الوظيفة الترتيبة في دلالة النص ، بمعنى ما أن المستوى الحصولي ، في وساطة رؤية النص ، يبقى دليلها حافلا بمقصودية المستند ، من محمولات المعنى الرابط بين صوت الشاعر ، و حدود منطقة المحتمل المستجب في سياق خاصية الموت بذاته ، كحال جملة الشاعر استهلالا ( نحن لم نفترق ) و على هذا النحو أخذت تحيل جملة ( حين قلت : وداعا ) تثويرا في مستوى التعددي أو خطية الصورة الانشطارية المتداخلة بين شعاب ثنائية ( الأنا / الآخر ) الزمن أو اللازمن الموت أو اللاموت الحس أو اللاحس ، و إنتهاء بشبكة طاقة حضورية جديدة على فاعل الموت و ممارسة أشكال المعدود في منطقة التصور الشعري المخالف : ( وقد أشرع الموت أبوابه + كنت في أرضه تائها = متدرج و متعدد = إكتساب احتمالية منشطرة = فاعلية معادلة ) بمعنى ما أن المستوى التصوري الأول ، راح يخضع لقيمة ترتيبية مضافة إلى جانب حقيقة جملة ( تخشين ظلي يجتاز مملكة الموت .. و أنا الحي ) هكذا تستمر آلية الاستجابة إلى طموحاتها في ملكوت التشكيل و التمظهر في عالم الموت و التشعرن بكل كيفيات الإثارة و التأثير و التأثر حتى يستلطف فيها حضور الأنا في صميم الآخر ( أسأل أعرافها : أين ؟ .. ثم أراك .. كأني أنا الميت ) و على هذا النحو تستمر قابلية إحالة الأنا في فاعلية الآخر على تجسيد العلاقة الدلالية في رؤى متحققة ، بما يعجز القارىء عن فك حدود مشروعية ذلك الموت المرسوم سياقا منفتحا على محورية الخفاء و تداخل الأنا بظليل الآخر :

تبكين
لا . .
نحن لم نفترقْ
حين قلتِ : وداعاً
وقد أوشك الموتُ أن يختفي خلف تلك الظلال . / ص89

تنتهي اللقطات الشعرية هنا ، بالكشف عن فاعلية صوت الأنا ، وصولا إلى تسخير تشكلات مشروع الرؤية القصدية ، بالرغبة إلى تحرير ذلك الآخر من جسد أفق التحطم في منصات مضامين الغياب و الزوال .

ـــ الذات الشعرية بين انطباعاتها الداخلية و الخارجية .
الذات الشعرية في عوالم تجربة دراسة كتابنا ( فضاء قصيدة الفقدان ) لا تعد معيارا نسبيا في نزوعات أعمال الشاعر الأخرى ، بل أننا وجدنا ( معادلة الفقدان ) راسخة حتى في جل أعماله الشعرية الكاملة ، لذا فأننا أخذنا نربط ثيمة الفقدان بمواطن مشروعه الشعري كاملا ـــ باستثناء ما وجدناه في مجموعته الرثائية الجميلة (حذام) وعلاقاتها المحورية الكبرى في مجرى ذاكرة الكاصد المؤثرة حقا ، ما أضحى الأمر يفسر لنا ، بأن أجواء شعرية ( عبد الكريم كاصد ) ما هي إلا مقترحات خصوصية ، في أشد اللحظات فقدانا و غيابا ، بيد إنها من جهة هامة ، أضحت لنا كسياقات إمعانية في علاقة الذات الشعرية ، التي تتغنى بتراتيب مفردات و محاور : ( غياب الزوجة / غياب الوطن / غياب الاستقرار النفسي و العاطفي / غياب الأنا في آتون الأنا ) وصولا إلى أنطباعاته و تصوراته في بناءاته الأقتراحية لعالمه الداخلي و الخارجي . وهذه التنظيرات من شأنها جعل قصيدة الشاعر كمحصلة تركيزية ، اجتهدت في دعم صياغة لغة الذات الشعرية بموضوعة المشروع الفقداني الذي من الممكن أن نحيط ببعض فقراته من خلال قصائد مجموعة (وردة البيكاجي ) و مجموعة ( الحقائب ) و مجموعة ( النقر على أبواب الطفولة ) و مجموعة ( الشاهد ) و مجموعة ( دقات / يبلغها الضوء ) و مجموعة ( نزهة الآلام) ومجموعة ( سراباد ) . و نحن إزاء كل هذه الاعمال الشعرية للشاعر الكاصد ، لاحظنا بأن تشكلات حالات و مواقف ( فضاء قصيدة الفقدان ) لم تبارح جل بناءات مشروعية هذا الشاعر الكبير ، فيما وظل تركيزنا بالنتيجة الأولى منصبا حول وقائع و تصورات حياة الشاعر الصميمية بحقيقة الفقد الكبير لزوجته حذام ، و ذلك ما نقرأه الآن في معرض قصيدة ( طائر ) :

سألتُ عنكِ طائراً
فدلّني عليكِ
غير أنّني أضعتُ في انشداهيَ الطريق
قلتُ : هل أعود
لأسألَ الطائرَ عنكِ
أم تُرى أمضي ؟ .
لعلّني أراكِ تقبلين من بعيدْ . / ص94

هنا لعلنا نصطدم بمستويات مذهلة و مثيرة في عرض الشاعر لتمفصلات اتجاهات مرجعيته في( قصيدة النص ) اعتمادا على أحداث مرجعية الحكاية القرآنية التي تعتمد على عرش بلقيس و طائر الهدهد ، فرمزية الطائر هنا في خلجات قصيدة الشاعر ، أضحت لنا تحمل تنويعات علائقية منفتحة على مجليات قصة النص القرآني و منها ذلك الطائر الذي راح يبث في تفاصيل صياغة الحالة التصويرية ، عشرات من الإمثولات التي تفسر لنا لقاء أرواح الأموات تقمصا على هيئة و أشكال الطيور .. على أية حال ، بقيت تحولات حاسمة و إيحائية في موجهات دليل جملة (سألت عنك طائرا ) فيما يكون لاحقا الركون إلى ترجيحات جملة ( فدلني عليك ) مثلما بدت ضلالة التيه مفتاحا مؤولا نحو العودة ( قلت : هل أعود ) ليصلنا صوت الأنا على أثر تخاذلها في الوصول : ( لأسأل الطائر عنك / أم ترى أمضي ؟ ) تبلغ الصورة الاستفهامية مبلغها في إثارة إشكالية التكوين العلائقي في أحوال النص ، و بكل ما تنطوي عليه تناوبية مغايرة في استيعاب جدل فاعلية ( الخارج / الداخل ) و على النحو الذي راح يزيد و يضاعف من معالجة رؤى الفقدان الاحوالية ، لدى ضمير الشاعر بدلالة صفة اللازمنية و اللامكانية في موجهات عين الكاميرا في لقطة جملة ( لعلني أراك من بعيد ) و هذه المشاهدة تعبر عن عين كاميرا الشاعر الحلمية ، التي من شأنها تكثيف بؤرة مساحة اللايقين أو اللاتحديد في صورة جملة الاستفهام ( و أنت تبسمين : ما الذي جاء بك ؟ ) و هذا القد من المتخيل الاستفهامي ، راح يقودنا نحو لفظ الأنفاس التحققية الأخيرة من معارج النص :

النهارمرّ
والظلامْ
هنا الظلام غابةٌ
لا مَكَثّ فيها و لا رجوعْ . / ص95

و ينفتح الدليل القصدي هنا على معادلة تحويل الحال من ذواتية الأنا الواصفة ، إلى صوت برقيات ذلك الآخر مخاطبا ، وهو يقترح على الشاعر كيفيات حيواته البرزخية حيث ( لا مكث فيها و لا رجوع )

ـــ تعليق القراءة ـــ
دون شك لاحظنا في مباحث دراستنا ثمة خطوات ، حاولنا من خلالها تقديم محاور ( التشكيل النصي ) في جل أرتباطاته صوريا عن مخيلة الشاعر و صورها و مشاهداتها ، فيما ظل عرضنا لمعطياتها الذات الشعرية و انطباعاتها الداخلية و الخارجية إسهاما مركزا في مسار تحولات الأنا بدلالة و صفة ضميرها الغائب الراصد لعتبة و خاتمة استجابتها التفصيلية لحلقات المعنى الغيابي في حوارية عدسة كاميرا ( فضاء قصيدة الفقدان ) .

أحدث المقالات