خطاطة الأسى بين مفكرة التدوين و معطيات شعرية النموذج
توطئة :
من المصادفات أن نعثر على حقيقة موضوعية المصدر و الذاكرة في شريط دواع محتملات المقولة الشعرية المفترضة . غير أننا عندما نقرأ دفاتر شعرية مدونة (تأريخ الأسى ) للشاعر الكبير طالب عبد العزيز ، تواجهنا علائق استبصارية من حقيقة المرجع و حيثيات التشاكلات النموذجية في ألواح الروح الشعرية المتحولة بانوراميا في وجوه جدارية الذاكرة ، الأكثر تأثيرا في مصوغات و آنوية محققات إيقاع مستحدثات الشاعر الفردية المؤثرة في مجال توالداتها لمسوغات مرجعية آتون الحالات الشعرية في معطى زمنها و مكانها و ذاتها المؤسطرة على أفق تجربة القصيدة مقولاتها الجادة و الجديدة . و تبعا لهذه الأسباب النادرة في موجبات تجربة مجموعة طالب عبد العزيز سالفة الذكر ، ارتأينا أن نتناول مكوناتها ضمن عدة مباحث فرعية ، حتى يكون بإمكاننا الإحاطة لما لهذه المجموعة من صدى كبير فيما تعنيه علاقة الذات الشعرية في منظومة رؤيتها إلى بنى و جوهرية و حوارية الأنا الواصفة في تفاصيل مختزلاتها الإمعانية لرقعة محسوسات و بواطن خفايا دلالات صوت الأنا الراصد إلى هوية ذلك الآخر المحجوب خلف محاور تواريخ الأشياء المتأسية . نقرأ ما جاءت به قصيدة ( تأريخ الأسى ) انموذجا :
الطاعنونَ في المحبّة ، سدنةُ النَّخل
الشيوخُ الصِّغار ،
ذوو الجبهاتِ المنخفضة . / ص11 قصيدة : تأريخ الأسى
إن متابعة مناصات و خلفية العنونة ( تأريخ = الأسى ) توفر لنا جانبا هاما من رسومية المعنى في جمل و علامة الإحالة القصدية في موجهات العلاقة الدلالية . فالجملة ( الطاعنون في المحبة / سدنة النخل ) ترتبط ارتباطا مرجعيا نحو ذلك المتن الذاكراتي من مفردات قاموس الطفولة لدى حلم الشاعر ، و الذي يزداد حجما و حساسية في دليل جهات : ( تخطيط جهة النص : جهة المصدر ـــ تأريخ = الطاعنون = النخل = الأسى ) و يوافق هذه الترسيمة ذلك البعد العلائقي لكينونة ميلاد جملة الدوال الفاعلة في ناصية جهة الموضوعة : ( الشيوخ ـــ الصغار ـــ الجهات ـــ تأريخ = تحول جهاتي = فاعل جهاتي = منفذ ادائي ) و يوغل خطاب النص بالتقاط محاور التلفظ الشعري نحو مواطن من البدائل الإحتمالية المتصلة و متن مسار النص :
الّذين حَنت الصباحاتُ ظهورَهم
و حرثت خصورَهم الحبالُ ،
سليلو الأنهار العميقة ، و فصيحو الأنساب
بائعو الشَّهْدِ على مَرّ الأزمنة
ضاربو الدّفوف ، و حاملوا المشاعل
أوّلَ الرتل . / ص 11
لا شك إن خصائص ومظاهر مشاهد النص ، تلامس معالم ( ذاكرة شعرية مرايا المدينة ) إذ إنها راحت كاميرا الشاعر تقوم بالتقاط تواريخ مدونة معطى الخارج و الداخل من مبأر القسمات الاحوالية التي من خلالها نعاين شواهد حسية تصويرات الشاعر ، التي راح من خلالها يحدد ملامح و سمات فاعلية الدال التصويري و المتخيل معا ، بقدر ما راح يستهدف كشوفات الطبيعة التكوينية لواقعية مدينته الموغلة في محكي ـــ الأنا الراوي ـــ و على هذا النحو تتابع دوال النص انفرادا تشكيليا ، لتؤسس عمق دلالاتها في ذلك الفضاء من التواصل الواقع ما بين التوافق و اللاتوافق في لعبة جملة المعنى المفارق في دلالة تأريخ الأسى .
ـــ شعرية المكان و مساحة فضاء النص .
يتجول الشاعر داخل أرجاء أمكنة قصيدته ، بما راح يمكن قراءة دلالاتها ، من أعقاد و أصفاد حكاية السيد و العبيد و بنى شعرية رؤية المكان ، ضمن رؤى متناوبة و متقاطعة و متلاحمة غالبا ، في تأسيس بلاغة التشكيل المكاني ، داخل علاقة خاصة من مستدعى آفاق المستعاد الذاكراتي ، و ذلك التركيز نحو ماضوية التشكل ( المغنون المسنون … عازفو النايات الحزينة ) و ينطوي هذا الشكل من التوليد ، لأجل إتمام عملية البدء بفعل قولي ينقل لسان حال الراوي إلى ذلك البعد الأساس من إحالة واصفية التصوير ( الآتون من الجهات ) من هنا نعاين كيفية التعامد داخل مفاصل القول المرجعي في متن النص ، إلى جانب كشف هوية و طبيعة فعل الإستعادة الذاكراتية المتصلة و مجالات مساحة ( فضاء النص ) الذي من شأنه راح داخليا يتبين منه مدى العلاقة الحافة و المماثلة لتوصيفية توخي الدقة في معاينة الشاعر :
الذين أتخمَهم السَّويقُ دهوراً
و الذين لا تفارقُ الابتسامةُ وجوهَ أسيادِهم
صانعو أمجادَ غيرِهم ..
سحبوا المراكبَ الى الشواطئِ مبكّرين ،
و أقاما لياليَ غادينَ ورائحينَ
على القناطرِ التي أنهكها الماءُ . / ص12
لاشك أن مساحة فضاء النص ، كانت بمثابة الأيقونة الاستدعائية من رحم (فضاء طفولة ) طالب عبد العزيز ، خصوصا و أن النظرة التفارقية أخذت تتضح جذورها ما بين جملة ( أتخمهم السويق دهورا ) ـــ السويق : التمر بالطحين طعام الفقير / على حد تعبير إحالات الشاعر نفسه في هوامش المجموعة ـــ بالمقابل المتخيل من جملة ( لا تفارق الابتسامة وجوه أسيادهم ) أو جملة لغة التشخيص اللاحقة (صانعوا أمجاد غيرهم ) لعلنا نواجه سيرة المكان في مرسومية دوال أفعال هذه الجمل ، حيث ذلك الإفضاء الحميم في حساسية رؤية الأمكنة و الذوات في فضاء النص ، و الى حدود مؤشرات غاية في الذروة في خطاطة الأسى و تلاءم مدونة شعرية صور الذاكرة ومواطن أصوات زمن الأشياء في حيز محاورها .
1ــ المجاورة الدلالية بين قراءة الذات و تشاركية الزمن :
يستعين الرصد الشعري في قصيدة ( تأريخ الأسى ) بين رؤى الذات و المتدفق من أعماق مرجعية ( المكان = التأريخ = وقائع الصور المفترضة ) و حتى آخر إضافات منطقة المجاورة الدلالية عبر سياق جمل القصيدة :
الذين ملأوا العنابَر بالتمرِ و السَّمنِ
و غلّقوا الأبوابَ ،
و ساروا بالسفائنِ ، تظلّلهم غمامةُ الربِّ الرمادّية
ومن أوّلِ النَّخلِ حتى آخرِةِ البَّحر
كانت تُسمعُ لهم رنّة مِجدافٍ واحدٍ
فيما يمخرُ أجسادَهم نحيبٌ خفي . / ص12
تتوحد مجاورات الظاهرة الدلالية في سياق دوال المتن ، بذلك الاستبصار الإيحائي الذي يربط بين جهة ( قراءة الذات ) و بين ( تشاركية الزمن ) فالذوات الشعرية في دلالة جملة ( الذين ملأوا العنابر ) و جملة ( غلقوا الأبواب ) ما يصور لنا تجاور مستوى الدلالة الجمعية ذاتها ، إلحاقا بتجليات قراءة الشاعر للذات الواصفة ذاتها في قيد أحوال الذات الشعرية المتفاعلة في الحكي ، و كأنها تكتب عن ذاتها شواهد تواريخ الإحباط و اللاجدوى من صعود أعاصير الزمن و الأمواج المادية (وساروا بالسفائن ) وصولا إلى حاصلية تشابه بؤرة الذوات في إستجابتها لذلك الزمن من الحس المتحقق في تشاركية معادلة تراصف الخطوط و الأحوال في مساحة الأنا العاملية من التلفظ القولي ( تسمع لهم رنة مجذاف واحد ) و على هذا الأساس من التشارك ، تبقى محورية الذات التصويرية ، بمثابة التفاعلية الحسية ذاتها من هوية الإحساس و التماثل في مواطن أفئدة ( يمخر أجسادهم نحيب خفي ) تقوم شعرية تواريخ الأسى في إستعادة مختزل جزئيات الأواصر و مفردات أطوار الذات الخفية ، ضمن تلك الأفضية من حبكة استجابة المشهد الشعري الواحد و المتعدد في الآن نفسه ، فحالات انعكاسية العلاقة الأحوالية و الزمنية و المكانية في رؤى القصيدة ، تظل تردد ذات الإيقاع من الاختيار في ملهمات استدعاء ذاكرة الشاعر الظلية إلى جانب استنزاف هوية معنى الذوات و مصائر المدينة ، وصولا إلى شيفرة ذلك الزمن المثقل بأقصى درجات العبودية و الاقطاعية الاستعمارية المتسلطة في ظل الحياة الزاهية لهم :
يأخذونَ قاربَك كأخذِهم يدَك
ثم يوثقونهُ إلى اعزِّ أشجارِهم .. / ص16
تنفتح آليات التصوير و علامات الاشارة و البوح حول المشهد الشعري المكتظ بأسمى آيات التصنيف و التماهي في مستشرف المستعاد ، ليتوقف الشاعر عبر لغة المخاطبة ، حتى تتكثف للقارىء تمظهرات دليل موقع المخاطبة ، لذلك الغائب حضورا : ( يأخذون قاربك ــ جهة نظر حالة المشار إليه / المرسل = التفعيل الذاتي / كأخذهم يدك ـــ الإقناع قصد ـــ اللافعل / يوثقونه ـــ صورة التفعيل / أعز أشجارهم ـــ علاقة انتقائية ــــ مرسل التفعيل ــــ مرسل المنفذ إليه = تفعيل جهة الموضوعة ) .
2ـــ الإحياء و الأداء في بنية التشكيل القصدي :
إن عملية إستشراف اللحظات الأحوالية في قيمة رؤية دلالات قصيدة ( تأريخ الأسى ) تكمن في تجليات المعطى الإحيائي في تصوير شعرية جملة السياق القصدي من دلالة النص . فالشاعر و منذ منتصف مساحة النص ، راح يطرح دواله ضمن فضاء ثنائية ( الإحياء = الأداء ) أي أن القارىء لموجهات نصه ، أخذ يعاين مخصوصية و خاصية رؤية النص ، كأبعاد رسومية = صورية ، لاسيما فيما يتعلق و جمل سياق النص ( السراجاتُ معلقاتٌ في السقوف / أبوابُهم على البحرِ ، و أحذيتُهم الرِّيح ../ في أثوابِهم رائحةُ الماء / على الألواحِ النَّديّة ، وظلّ الموجُ / يحفرُ بها أياماً وليالي / و صرختْ بأفئدتِهم السُّفنُ العِملاقةُ / فطافت المدنّ و الأمصارَ/ أكلَ الزمنُ أكتافَهم / وكانت رايتَهُ قمصانُهم . / ص12 ص13 ) .
ــــ تعليق القراءة :
إن قراءة كل هذه العلامات من شواهد النص ، ما راح يشغل في ذائقتنا القرائية كل تلك المعاودات الإحيائية من قديم كاميرا مخيلة الواصف الشعري ، أي إنها تلك الدلالات الصارخة في معطى صفحات التأريخ المدون في مكونات فضاء رؤية الشاعر الاستدعائية القادمة من خلال مفاصل وظيفة الأدائية في مكنون السياق الإنتاجي للقصيدة . فالقصيدة في جميع أفعالها ، أخذت تباشر فيها الذات الشاعرة وصفا تشكيليا ، يقارب خطوط و متعرجات و مفاصل اللوحة الملحمية المعلقة على صفحة الجدار ، فالشاعر و في كل أجزاء نصه ، يلوح نحو مرحلة الفعل الإيحائي المنجدل في أفعال أو وصف و حبكة سياق تفعيل دلالات الأحوال الشعرية ، أو ربما أراد الشاعر تعطيل زمن التحديد أو اللاتحديد في مرجعية تواريخ النص الحاضرية ، لتتبين لنا أدوات الخطاب ، و كأنها مدونة ملحمية في أسطرة تواريخ (ومنذ إن كان السحاب رصاصا .. كانت أبدانهم تركض في العراء . / ص15 ) فالمعادلة إذ ذاتية و موضوعية عميقة ، أخذت تتكرس من خلالها محصلات الذات الشعرية و حسابات معطى تفاعلها إلى جانب تمويل خطاطة تأريخ الأسى الذاكراتية إلى أفعال التدوين و التعويضية و الاشتغال في منطقة مفكرة التدوين إلى معطيات حافزية التخييل في مساحة أفعال الآخر المضافة إلى هوية شعرية مرايا تأريخ الأنا الواصفة :
حفاةٌ إلّا من ضوءٍ ، أقصى الرّوح
وعلى ظهورِهم شموسٌ مُطفأة . ؟ ص17
هكذا نجد الفاعلية الإيحائية في شعر ( طالب عبد العزيز ) مصورات أيقونية ما بين ثنائية ( ذات = موضوع ) و على النحو الذي يجعلنا نقرأ في قصيدته ، موجهات المرآة الشعرية الناقلة إلينا كل الإثارة في انعكاسات صور القصيدة المستحدثة في أفق مكاشفاتها الدلالية و المخيالية أروع المكونات الشعرية .