23 ديسمبر، 2024 6:40 ص

ما يجهله أصحاب العقول عن المجانين وحقوقهم

ما يجهله أصحاب العقول عن المجانين وحقوقهم

من السمات البارزة في المدن السياحية وبخاصة الدينية، أنها تستقطب الناس كل الناس من كل حدب وصوب، من عامّهم وسيِّدهم، من غنيِّهم وفقيرهم، من كبيرهم وصغيرهم، يزيد في قدوم الزائرين الصدور المفتوحة لأهلها، وقد شهدت هذه الميزة العالية لمدينة كربلاء المقدسة حيث مسقط رأسي، والتي ربما زادت في بعض الأحيان عن حدّها الى مستوى الفوضى التي أضرت بالمدينة نفسها كعمران وإنسان.

ومن هذه الفوضى أن عددا غير قليل من الأسر من خارج المدينة والتي نشأ فيها أناس فقدوا نعمة العقل، يرمون بمرضاهم في شوارع المدينة وأزقتها ويرجعون الى مدنهم وكأن شيئاً لم يكن، مما يجعل هؤلاء المساكين أسرى بين يدي هذا وذاك، وبعضهم فيه من الجنون ما يؤذي نفسه والمحيطين به، وبعضهم من يسيء الى نفسه فحسب، منهم من يدور في الأزقة والشوارع ومنهم من يعتكف في زاوية، ومنهم من يتقمم الزبالة، ولكنهم في المحصلة النهائية، من حيث لا يشعرون وأنى لهم ذلك، يسيئون الى مظهر المدينة المقدسة، وبدلاً من أن تأخذهم أسرهم الى المصحات النفسية والعقلية رمتهم طعمة للشوارع، ربما تخلصاً من (العار) وفق الثقافة الشعبية الخاطئة التي لا تنظر الى المريض نفسيا او المجنون كإنسان أصابه المرض كأي مرض آخر وهو بحاجة الى علاج، بل تتعامل معه كسبّة عليهم التخلص من أذيالها فيرمونه في مستشفى الأمراض العقلية ولا يسألون عنهم أو يدفعون به إلى الأزقة في مدن بعيدة عن سكناهم، وربما كانت المدن المقدسة أضعف الخواصر التي تستقبل الجميع.

والمشكلة ليست في المريض العقلي الذي تيه به في المدينة المقدسة عن قصد وسابق إصرار، ولكن المشكلة الأساس في طريقة التعامل معه كحالة مرضية، وقد شهدت وللأسف الشديد، أن التعامل المجتمعي مع المجنون تعاملاً أكثر مرضا من المريض نفسه، فهم يحرّضون الأطفال على رميهم بالحجارة والحصى ويضطجعون على قفاهم من الضحك والسخرية، وإن أنسى فلا أنسى شاباً مجنوناً غير مؤذ رماه أهله بين الزائرين، كان دأبه التجول في الأزقة والنوم في آخر الليل في أية زاوية، وبعد مدة من الزمن رأيت شقيقه معه وهو في حالة سليمة يتردد عليه ربما كان يتحايل عليه ليعيده الى مسكنه، لكن الشاب السليم رأيته بعد أيام وهو مدمي القدمين، فصار صغار القوم وكبارهم من الجهلة لا يفرقون بينه وبين أخيه فيرمونهما بالحجارة في مشاهد تعكس الحالة المرضية التي عليها المجتمع الذي لا يرحم

المريض نفسيا وعقليا، ولا أخفيكم أن الدموع حينها انهمرت مني عندما رأيته في تلك الحالة، فجهلة المجتمع لا يرحمون حتى السليم فكيف بالمجنون! وانهمرت ثانية بعد أربعة عقود من تلك الحادثة المتكررة، وأنا أخط هذه الكلمات التي أرجعتني الى تلك الصور المؤلمة والمظلمة معاً.

تحرك أمام عيني شريط الذكرى وأنا أقرأ كتيب “شريعة العقل” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة، ضم 76 مسألة فقهية و25 تعليقة لآية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للمعلق وتمهيد للمصنِّف، فالكتيب في كثير من مسائله يتناول المجنون وحقوقه وكيفية التعامل معه من بوابة العقل، ولو أمكن لكل إنسان الوقوف على حقوق المجنون بما وضعته الشريعة السمحاء لما عمد رعاع المجتمع إلى ممارسة التعذيب معه عبر تحريك الأطفال للإعتداء عليه وهم يركضون خلفه بإهزوجتهم المريضة: “هَيْ هَيْ إمْخَبَّل”، التي ربما أخرجت العاقل عن طوره، ورغم أن المجنون لا يعي ولكنه يملك فطرة وبقية عقل توحيان له بأن الهرب هو أقصر الطرق لتجنب الحجارة، وإن وقف صادوه بها، مجتمع فيه جهلة العقول ومرضى النفوس وما أكثرهم من غوغاء!

العقل ومستوياته

لا يحتاج المرء الى مزيد تفكير ليكتشف أن عقول الناس على مستويات ودرجات مختلفة، فعقل الإنسان دال على ذلك فهو حجة بذاته، ولكن بالتأكيد هناك العاقل والسفيه والمعتوه والمجنون، ولكلٍ درجته ومستواه، وهذا ما جعل الناس متمايزين ومختلفين، وانسحب التمايز والتفاضل معاً الى المجتمعات والمدنيات والحضارات، فمن أمكن التحكم بعقله والاستفادة من طاقته بالاتجاه الصحيح بلغ مراحل الرقي والتطور والعكس صحيح، فالعقل من حيث اللغة كما يعرفه الفقيه الكرباسي: (القوة المدركة للأشياء مما لا تُدركه الحواس الخمس الظاهرة)، وفقهيا: (القوة التي يُدرك بها الإنسان ويحكم من خلالها، أو على إثرها يكلف الله عباده بالأحكام)، فهي إذن: (القوة التي تُلجم المرء عن أي تصرف غير لائق)، ووفق تعليق الشيخ الغديري: (القوة الجاذبة الى الحق والدافعة عن الباطل، أو الآمرة باتباع الرحمان والناهية عن طاعة الشيطان)، مستوحيا ذلك من جواب الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) عندما سئل عن العقل، فقال(ع): (ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسب به الجنان).

وهذا الاختلاف في مراتب العقل يرجعه الفقيه الكرباسي في التمهيد الى أمرين:

الأول: يعود الى الخِلقة وتركيب الأجهزة المولدة للعقل، ومنها المخ بما فيه من الأجهزة الدقيقة.

الثاني: يرتبط بالبيئة التي ينمو فيها العقل.

والعقل على مستويين فطري وعصموي، فالأول يشترك فيه كل الناس، والثاني خاص بالأنبياء والأوصياء المعصومين، وبين العقل الفطري والعقل العصموي تتحرك عقول البشر.

فالعقل كما يذهب إليه الكرباسي هو جزء من حلقة في جسم الإنسان، ولكنها حلقة مهمة: (فالقلب يغذي كل شيء حتى المخ، والمخ يوجه كل شيء حتى القلب، وهما آخر ما يموتان في الإنسان، والنفس مركز الاختيار ومكمنها أطراف القلب، والمخ مكمنه الرأس، والعقل من نتائج أجهزته، والروح لاصقة بالجسم، لا تنفكّ عنه إلا بالموت، إذ تنسلخ عنه)، وفي هذا الإطار يشرح الإمام علي(ع) وظائف كل جهاز بقوله: (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب (النفوس)، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء)، وبهذا يكون العقل هو الذي يسوق الإنسان الى حيث الخير أو الشر، وفي الحديث القدسي: (إن الله تعالى خلق العقل ثم قال له: أدبِرْ فأدبَر، ثم قال له: أقبِلْ فأقبَل، فقال الربّ: وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أحسنَ منك ولا أشرفَ منكَ، ولا أعزَّ منك، بك أُوَحَّد، وبك أُعبَد، وبك أُدْعَى، وبك أُلتَجَى، وبك أُبتَغَى، وبك أُخاف، وبكَ أُحذَّر، وبك الثواب، وبك العقاب).

وللعلماء والفقهاء والفلاسفة مسمياتهم للعقل الذي هو مدار التعامل اليومي، وهي حسب ما يراه الفقيه الكرباسي: العقل السليم وهو حجة في الحوار والإحتجاج، والعقل المتشرع وهو الحكم في المناقشة، والعقل الفطري وهو حجة في البديهيات والعقل العلمي وهو حجة في المعارف العلمية.

ومن العقل وتعريفاته يأتي مفهوم العاقل الذي يضع الأمور في نصابها، وقد: (قيل للإمام علي(ع) صف لنا العاقل؟ فقال: هو الذي يضع الشيء مواضعه. فقيل: صف لنا الجاهل؟ قال: قد قلت). ومن العقل ينبثق مفهوم العقلية وهو حسبما يقول الكرباسي: (الطريقة التي يفكر بها الإنسان والفلسفة التي يعتمد عليها، والتعقل هو تطبيق ما يرشد إليه العقل)، ولهذا باستطاعة العقل السليم أن يشير الى فعل أو قول أن هذا عقلائي وذاك غير عقلائي.

وللمجنون حقوقه

لما كان “شريعة العقل” يخوض في المسائل الفقهية المتعلقة بالعقل ومستوياته ودرجاته، فإنه بالملازمة يخوض بمسائل فقهية على علاقة مباشرة بالذين فقدوا العقل منذ الولادة أو بحادث عارض، بصورة دائمة أو مؤقتة أو إدوارية (من الدور، بين فترة وأخرى).

وإذا كان مع العاقل لزوم تحقق التوازن بين الواجبات والحقوق، فإن مع المجنون تنحسر الكفة لصالح الحقوق دون الواجبات، لأن القلم مرفوع عن المجنون في الكثير من الواجبات في مجال العبادة والمعاملات، ولكن حقوقه لا تسقط في الكثير منها، صحيح أنه يعجز عقليا عن مباشرتها بنفسه، لكن الإسلام قرر له الحق بواسطة الولي أو حاكم الشرع، فالحق حق لا يسقط بالجنون، وهذا ما يميز قوانين الإسلام عن الكثير من القوانين في شرق الأرض وغربها، فعلى سبيل المثال أعطى الإسلام للمجنون الفاقد حق الانتخابات كما أعطاها للعاقل الراشد، فالثاني يباشر بنفسه لأنه ولي نفسه، والأول من خلال وليّه الأب أو الجد أو حاكم الشرع، وهنا يؤكد الفقيه الكرباسي: (يحق للمجنون أن يشترك في الانتخابات عبر وليّه، لأن للمجنون أيضا مصالح في هذه الدولة وفي الحياة، فإنّ القوانين العامة تطبق عليه، فقد

يتضرر منها أو ينتفع)، وليس هذا فحسب، بل على الولي من حيث الأمانة الشرعية والعرفية أن يتحرى مصلحة من هو تحت ولايته، وفي هذا يزيد الفقيه الغديري معلقاً على المسألة: (ويجب حينئذ أن يراعي الولي مصالحه –المجنون- لا مصالح شخصه هو، وذلك نسباً وديناً ولساناً وملّةً ونحوها من الأمور التي لها دور في الحياة الاجتماعية، فقد يكون للولي مصلحة غير ما للمجنون وكذلك بالعكس، فيرعى ويُلاحظ جانب مصلحة المجنون في جميع الجهات حقاً وحكماً).

ولأن الإنسان محترم من رحم الأم (جنيناً) الى رحم الأرض (فقيداً)، فإنه: (لا يجوز للأم الحامل أن تتناول عقاراً أو تعمل شيئاً بحيث يتأثر جنينها في عقله) وإلا أثمت، وكذلك: (لا يجوز إزالة عقل الإنسان، سواء كان بشكل مؤقت أو دائم، فالأول كشرب عقار مزيل للعقل كالخمر مثلاً، والثاني كإيقاع ضربة على المخ تستوجب إجراء عملية لذلك) ويلحق بالفاعل الجاني العقوبة. كما: (لا يجوز تعيير أهل المجنون بجنون مَن يقرب إليهم)، كما: (لا يجوز استغلال المجانين ولا إيذاؤهم ولا التلاعب بمشاعرهم أو الاستهزاء بهم)، وعمليا: (يجب منع الأطفال من إيذائهم وإزعاجهم في الطرقات والأزقة)، وفعليا واجتماعيا وصحياً: (يجب على القادرين أو المسؤولين ايجاد مراكز لذوي العقول الناقصة إنْ كان ذلك ينفعهم، شرط أن تتم رعايتهم، ويجوز صرف المال على ذلك من الحقوق الشرعية حسب مواردها إذا لم يكن للمجنون مال، أو لم يتولّ وليه أمره، أو لم يتبرع متبرع بذلك)، ويزيد الفقيه الغديري فيما يتعلق بالحقوق الشرعية أنَّ: (صرف الأموال الشرعية لا يحتاج الى إذن أو إجازة من حاكم الشرع).

في الواقع وكما دلّت تجارب الشعوب المتحضرة في التعامل مع أصحاب الأمراض النفسية والعقلية، أن المصحات النفسية والطبية قادرة وبشكل فعال على تأهيل المرضى بما يجعلهم أكثر انسجاماً مع المجتمع ويقلل من المخاطر، وما نرى من مناظر مؤلمة ومزعجة في آن واحد لمرضى عقليين تزدحم بهم بعض المدن المقدسة وعواصم دول، إنّما مردّها الى الثقافة المغلوطة في التعامل معهم كمرضى بحاجة الى رعاية وعناية، والكثير من هؤلاء يمكن تأهيلهم والتقليل من تدهور عقولهم أو التأخير وإبطاء عجلته، ولكن غياب الوعي المجتمعي وضعف الوازع النفسي رغم كثرة النصوص المقدسة، جعلهم أسرى الضياع ولقمة سائغة لعصابات التسول، وربما أصبحوا أدواة طيعة لعصابات الإرهاب.

ويأتي المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي عبر “شريعة العقل” وغيرها من الشرائع، ليضع النقاط على الحروف ويؤشّر بإصبع المعرفة الفقهية على الجرح لعل الجهات المعنية تأخذ بها من أجل صالح المجتمع، في حاضره ومستقبله، في أولاه وأخراه.