تمهيد
وها نحن في مقالتي السادسة والأخيرة عن محاولة السيد “عارف عبدالرزاق” الإنقلابية الأولى (1965) لألقي ضوءاً أسطع على التأريخ الأدق لتنفيذ الحركة الإنقلابية، وقتما تلمّستُ شيئاً من التباين في تحديد الموعد الأدق للتنفيذ لدى السادة “صبحي عبدالحميد، هادي خماس، ممتاز السعدون” خلال زياراتي ولقاءاتي المتلاحقات منذ عام (1997) معهم، والتي نشر هذا الموقع الأغر شهاداتهم حولها، ناهيكم عما أورده السيد السفير المصري “أمين هويدي” في كتابه عن موضوع بحثنا.
ولـمّا كنتُ خائضاً لهذا المخاض -الذي لا أعتقد أن أحداً قد سبقني إليه من قبلُ- فكان لا بدّ أن أضع نقاطاً على جميع الحروف كي لا أترك ثغرة أُلام أو أٌنتَقَد عليها.
مناقشتي شبه المخابراتية
لذلك رأيتُ من الأنسب إجراء مناقشة ((شبه مخابراتية)) للتوصل إلى (التأريخ الأدق والأكثر إحتمالاً)… وكما يأتي:-
أولاً: حدّد السيد “صبحي عبدالحميد”-مؤسس الكتلة القومية في القوات المسلحة وواضع الخطّة المقترحة المبدئية للحركة- ضمن الصفحات التي كتبها بخط يده، أن ليلة (14-15/أيلول/سبتمبر/1965) باتت موعداً للتنفيذ بعد أن تم تقديمه يوماً واحداً عن الموعد المقترح… وأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر “بغداد” مع صحبه الى “القاهرة”
ظهر (15/أيلول)… ولكن سيادته لم يذكر أسماء الأيامó.
ثانياً: نحى السيد “هادي خماس” -مدير الإستخبارات العسكرية والعضو المهم في قيادة الكتلة القومية، والشخصية الأهم الذي كان برفقة “عارف عبدالرزاق” ليلة تنفيذ الحركة- المنحى نفسه، مُثبِّـتاً ليلة (14-15/أيلول) موعداًóó.
ثالثاً: ذهب السيد “أمين هويدي” -سفير “مصر” في “بغداد”- إلى تحديد (الخميس-15/أيلول/1965) موعداً لإنذار الوحدات العسكرية المؤيّدة للإنقلاب المزمع في “بغداد”… بينما يناقض ذاته بذكر إجتماع طارئ لتدارس الموقف عُقِدَ في منزل “عارف عبدالرزاق” صباح (15/أيلول/1965) من دون تسمية يومهóóó ، إذْ غادره -ومعه عائلته- إلى مطار “بغداد” ثم إلى “القاهرة” على متن إحدى الطائرات الحربية -حسب وصف سعادة السفير-.
رابعاً: يذكر السيد “اللواء الطيار الركن ممتاز عبدالعالي السعدون” أنه علم ظهر (الخميس-16/أيلول/1965) بقيام السيد “عارف عبدالرزاق” بحركته، وأنه أقلع من قاعدة الحبانية الجوية بطائرة قاصفة متوجّهاً الى “مصر” صبيحة (السبت-18/أيلول/1965)óóóó.
خامساً: حدّد قائد طائرة “الرف الجمهوري” الخاصة (المقدم الطيار عدنان أمين خاكي)، أن الملحق العسكري العراقي في “الرباط” قد أيقظه هاتفياً من نومه في الصباح الباكر من (الجمعة/17/أيلول) ليبلغه بالذي وقع في “بغداد”… وأن الرئيس “عبدالسلام عارف” قرّر مواصلة حضور الجلسة النهائية لمؤتمر القمة العربي الثالث حتى مساء ذلك اليوم في “الدار
البيضاء”… وأن الطائرة الخاصة قد أقلع بها “المقدم عدنان” من “الرباط” (ليلة الجمعة-السبت/17-18/أيلول) قبل أن يهبط بها في “القاهرة” ظهيرة (السبت-18/أيلول).
سادساً: أما أنا -وقد عشتُ الأحداث في فوج الحرس الجمهوري المسؤول الأوّل والأهمّ عن حماية القصر الجمهوري- فقد سجّلتُ في مفكرتي الشخصية لعام (1965) ما يأتي:-
* أننا أُدخِلنا الإنذار منذ مساء (الأربعاء-15/أيلول)… وتتابعت الأحداث أمام ناظرَيّ طيلة (ليلة الأربعاء-الخميس/15-16/أيلول).
* لم يهدأ الموقف في فوجنا ولم نُخرَج من حالة الإنذار، بل بقينا مُرابِطين حوالي القصر الجمهوري طيلة نهار (الخميس-16/أيلول).
* أننا أُبلِغنا مساء (الخميس-16/أيلول) بأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر “بغداد” بطائرة نقل عسكرية ظهر ذلك اليوم الى “القاهرة”.
* أُوفِد “الدكتور عبداللطيف البدري” -وزير الصحة والصديق الشخصي لـ”عبدالسلام عارف”- إلى “المغرب”، ووصل “الرباط” صباح (الجمعة-17/أيلول) لتوضيح الموقف -الذي هدأ نسبياً في “بغداد”- أمام شخص السيد رئيس الجمهورية.
* وصل الرئيس “عبدالسلام عارف” بطائرته الخاصة بطائرة ركاب (مدنية) مصرية عصر (السبت-18/أيلول/1965).
* ولقد تأكّدتُ -بغية قطع الشك باليقين من تلكم التواريخ وطابقتُها مع صفحات الصحف اليومية الصادرة في “بغداد”، والتي كانت محفوظة ضمن مجلّدات لدى “المكتبة الوطنية” في “الباب المُعظَّم” وسط “بغداد”ó.
* نشرت الصحف البغدادية الصادرة صباح (الأحد-19/أيلول) تفاصيل عودة الرئيس “عبدالسلام عارف” من “الرباط” الى “بغداد”، فكانت مطابقة لما سجّلتُها وسط مفكرتي الشخصية.
* أشار البيان الرسمي المقتضب، المنشور في جميع الصحف العراقية الصادرة بعدئذ، أن (الأربعاء-15/أيلول/1965) كان موعداً لتنفيذ الحركة الإنقلابية.
إستنتاج نهائي
لما أوردتُه من تفاصيل دقيقة، ومع جُلّ إحترامي وتقديري لآراء وشخوص أساتذتي السادة “صبحي عبدالحميد، أمين هويدي، وهادي خمّاس” والتي تسّببت في مفارقة (24) ساعة عن الطروحات الأخرى… فإن أكبر الظن -في رأيي المتواضع- أن التأريخ الأدقّ للحركة التي قادها السيد “عارف عبدالرزاق” قد بُوشِر بتنفيذها مع حلول (مساء الأربعاء-15/أيلول/1965)، وأن إخفاقها قد تَوَضَّحَ مع فجر (الخميس-16/أيلول)، وأن السيد “عارف عبدالرزاق” قد غادر مطار الرشيد العسكري مع عائلته وصحبه بطائرة نقل عسكرية ظهر (الخميس-16/أيلول/1965).
الإنقلاب الأغرب في التاريخ
لم يكن حديث السيد “ناجي طالب” عن المحاولة الإنقلابية ذاتها، كونه لم يطّلع على تفاصيلها ولم يكن طرفاً فيها أو قد تعايش مع أحداثها.
فإثر تقديم إستقالته من منصب “وزير الخارجية” مطلع (أيلول/1965) مع زميله “اللواء الركن محسن حسين الحبيب” وزير الدفاع من وزارة “طاهر يحيى” الثالثةó بسبب فشل تلك الوزارة في تنفيذ مهمة “الإنتخابات العامة” المُوكَلة إليهاóó
لذلك حمل جواز سفره مغادراً “بغداد” إلى “إنكلترا” لغرض الراحة والإستجمام بعد طول عناء ومهمات طالت (10) أشهر، وللقاء نجله البِكر “طالب” المُقيم بمدرسة داخلية في جزيرة “آيل أوف وايت” جنوبي ميناء “بورت سموت”، حيث جلب أنظاره صبيحة (17/أيلول/1965) عنوان رئيس ذو حجم كبير في أعلى الصفحة الأولى من صحيفة “تايمس” اللندنية:-
“The Oddest Coup in History”
أي “أغرب إنقلاب في التأريخ”
أو: الإنقلاب الأغرب في التأريخ”
وذلك في إشارة لقيام “عارف عبدالرزاق” بمحاولته الإنقلابية على نظام حكم يرأس فيه السلطة التنفيذية إلى جانب مناصبه الخطيرة الأخرى، وفشله في تحقيقها كونه قائماً بمهام رئيس الجمهورية نيابةً من جهة، ورئيساً للوزراء، ووزيراً للدفاع، وقائداً فعلياً للقوة الجوية العراقية، في وقت واحد.
**********