23 ديسمبر، 2024 7:07 ص

ما هو أقوى من العنف

ما هو أقوى من العنف

طغى خبر إرهاب المسجديْن في نيوزيلندا في الآفاق، – وهو بلا أدنى شك، كارثة في تأريخ التعايش بين الأديان والشعوب-، على التسامح العظيم في بلاد الغرب، الذي تفخر به البلدان، ويعتز به المهاجرون.

هذه المفارقة، جسّدها المفكر المعروف كارليل‏ بالقول، إنّ “سقوط الشجرة في الغابة له دوي عظيم، فيما الفراشات الهائمة طوال النهار والتي تنقل اللقاح من زهرة إلي زهرة، لا صوت لها‏..‏ ولا أحد يسأل عنها، إنْ عاشت أو ماتت”‏.

مؤكدٌ، أنّ هذا درس مهم يجب تعلّمه من الإرهاب، الذي يسعى الى الدعاية، عبر أشكال من التعبيرات التي تحرّض، أو تعزّز، أو تبرّر الكراهية، والعنف، والتمييز، وتأكيد الوجود، والتأثير عبر وسائل الاعلام، على طريقة “الأكشن” السينمائية، فيما اللين، والتسامح العظيم، يفتقد في الكثير من الأوقات، الى المنبر الذي يُظهر قوته وبأسه أمام الناس، لأسباب متنوعة.

والمؤكد أيضاً، انّ العنفَ حالة طارئة، في مجرى الأحداث، مهما طال زمناً، وتمدّد مكاناً، لأنّ الطبيعة جُبِلت على السلام والحياة، لا الدماء والموت.

المسلم في الغرب، يتمتّع بحرية واسعة، ربما لا تجاريها مثيلتها في البلد الأصلي، والمساجد تُموَّل من البلديات، والاغلبية من أبناء الغرب، تُظهر الاحترام والتوقير للديانات والمعتقدات الأخرى، من اسلام، وبوذية، ويهودية، وغير ذلك.

المسلم العاطل عن العمل في الغرب، يتلقى راتب الرعاية الاجتماعية المجزي، ويتوفّر له التأمين الصحي، والسكن اللائق، والخدمات الصحية والمنافع الاجتماعية، أسوة بابن البلد الأصلي، بشكل تام.

الكنائس في بلاد الغرب تفتح أبوابها للمسلمين، وغير المسلمين، وتدعوهم الى الفعاليات الاجتماعية والثقافية، في احترام كبير لمعتقد الشخص، دون التدخل في تفاصيل معتقده.

وقف شاب مسلم على سبيل التجربة والاختبار في ساحة في ألمانيا، وهو يحمل لافتة، كُتب عليها، “انا مسلم، احتاج الى العناق”.

لم تكن المفاجأة، في أنّ الفتيات والفتيان والرجال والنساء، اصطفوا بالعشرات لعناقه، بل الامر الغريب الذي كان سيحصل، هو فيما لو تجاهله الناس، وهو ما لم يتحقّق في مجتمع، يتّقن العيش بانسجام في سياقات متعددة الثقافات.

إنّ حوادث إرهابية، هنا وهناك، حصلت، وربما ستحصل في المستقبل، سوف تكون خارج السياق الذي يمضي بقوة في الغرب، نحو التراحم والتسامح والاعتراف بالحقوق وتفهّم الاخر، وهو الأمر الذي يجذب الكثير من الناس الى تلك البقعة من الأرض.

الهندوسي يأتي من الهند، فيجد في البلد المضيف، ما لم يلمسه في بلده. والبوذي يستثمر في الحرية، والمسلم يجد نفسه

في بلد تحترم خياراته، والمسيحي يفتخر بعقيدته التي لا يحوُل دونها، تعصّب أو انغلاق.

في هذه المجتمعات التي تغيب عنها المسدسات، وملابس العسكر، ويمارسها فيها الشرطي وظيفته بكل مهنية، وهدوء،

لا يُعتقد انها سوف تسقط في حبائل العنف والإرهاب بسبب تماسك المجتمع الديمقراطي الحامي لحقوق الإنسان، والمحترم للقانون، والنظام.

الحادث الإرهابي في هذه البلدان، يمكن تصويره كرغوة تنطفأ بسرعة، لانّ الأغلبية الساحقة لن تسمح لها بالترسّب في النفوس، بسبب الوعي والتربية على الاعتدال وفهم الآخر.

يكفي هذه الدول المتسامحة فخرا، انها تحرص حتى في أوقات الهجمات الإرهابية، على التوازن بين محاربة خطاب الكراهية من جهة، وحماية حرية التعبير من ناحية أخرى.

في الضفة الأخرى، حيث المجتمعات الضيقة التي لا تجيد لمسة التسامح في الكثير من المواقف، وتنتعش العدائية فيها عبر التعبيرات والأنساق، ثمة حاجة ملحة الى تنظيم المؤسسات ووسائل الإعلام وصناعة الإنترنت، والنظام القضائي و مدونات قواعد السلوك والتربية والتعليم، باتجاه محاربة المفاهيم الخاطئة التي تشكل أساس خطاب الكراهية، وتعلّم التعددية من دروس “التسامح الديني”، وأنْ تتجاوز الدعائية والتنظيرية وافتراضاتها المفاهيمية الى واقع ملموس في الوعي والسلوك.