23 ديسمبر، 2024 9:44 ص

ما لديكارت وما على الديكارتية

ما لديكارت وما على الديكارتية

استهلال:

“انك في الحقيقة الإنسان الوحيد الذي أيقظني من خمولي وأعاد إلى نفسي علما كاد يمحي من ذاكرتي وارجع عقلي إلى جيل الأعمال بعد أن كان قد نبذها”
رسالة من ديكارت إلى إسحاق بيكمان

ربما غطت الفلسفة الديكارتية التي تأسست في فترة متأخرة فكر ديكارت وربما الكتابات العديدة والمتضاربة التي تناولت هذا الفكر بالنقد والتعليق حجبت روحها وأهملت جوهرها ولعل التأويلات التي خضعت له النصوص الديكارتية غطت حقيقتها وتناست المرتكزات الثيولوجية والميتافيزيقية التي استندت عليها وطمست الخلفية الثقافية والحضارية التي تتخفى وراءها وأوقعتها في التمركز على الذات.
والحق أنه لم ينظر إلى رينيه ديكارت إلا كمفكر أسطوري قام بثورة معرفية أخرجت أوروبا من الظلام إلى النور أي من بربرية وهمجية العصور الوسطى إلى العلم والحداثة والتقدم. كما لم يفهم الكوجيتو إلا بوصفه نقطة ثابتة وأرض صلبة يمكن أن يقف عليها الإنسان الوحيد والتائه في كون مفتوح ولامتناهي.
إن ما عرض إلى حد الآن من طرف مؤرخي الفلسفة من فهم وتأويل لديكارت والديكارتية ليس سوى طريقة متطورة لإهمالها والإعراض عنها عنها، وبعبارة أكثر عمق هو ابتعاد عن الجوهر وتعلق بالسطحي وطمس للتناقضات التي تخترقها وإخفاء للاحراجات التي وقعت فيها ولم تتخلص منها.
إن الفكر الحاذق هو الباحث عن طريقة لتجاوز كل هذه التشويهات وتفادي الوقوع في التحريفات والتأويلات المضللة وبالتالي فهو لن يواصل التراث المفسر للديكارتية ولن يدعي ابتكار طريقة جديدة في التأمل والمعرفة وإنما هو تفكير في الفلسفة التي شيدها ديكارت بطريقة مغايرة للتأمل الديكارتي ومحاولة لتقصي فلسفة الذاتية التي أرساها من خارج قلعة الكوجيتو التي اتخذها مبدأ أولا لهذه الفلسفة. إنها تجربة إعمال العقل خارج تربة العقلانية الفطرية دون أن يكون الموجود فكرة تعطى للذات ودون أن تكون الفكرة موضوعا للتمثل والذاتية أساس الوجود . انه محاولة لخلخلة ثنائيات الديكارتية مثل نفس/جسم، عقل/تجربة، الله/إنسان، وجود/عدم، جوهر/عرض، في سبيل الكشف عن لبس وغموض مفاهيم مثل البداهة والشك واليقين والوضوح والذات وتسليط الضوء على المسكوت عنه فيها وقراءة بصوت عال المعاني التي لم يصرح بها ديكارت رغم تعويله عليها كبديهيات في بناء نسقه المعرفي والعملي.
فمن هو ديكارت؟ بمن تأثر؟ ومن أين استقى فلسفته؟ وكيف اهتدى إلى فكرة الكوجيتو؟ وماهو المنهج الذي اعتمده؟ ماهي الاكتشافات العلمية التي قام بها؟ ماهي الاستتباعات التي انجرت عن هذه الاكتشافات؟ ماذا تمثل تجربة الشك في مشروعه؟ بأي معنى يمكن أن نقول أنه تحرر من التراث الفلسفي الوسيط؟ هل غادر الميتافيزيقا القديمة وساهم في تفجير الثورة العلمية؟ كيف وقع اعتباره أب للعديد من الفلاسفة المحدثين مثل مالبرانش اسبينوزا ولايبنتز؟ هل ساهم في تشييد مفهوم الحداثة في الفلسفة الغربية أم أنه مهد الطريق نحو نزعة إنسانية أزهرت مع حلول عصر التنوير؟
ما نراهن علية هو الكشف عن وجهه المستور في تاريخ الفلسفة من أجل تنسيب آرائه ومعرفة أسباب تشكلها والتوقف عند وجهه المضيء وتتبع طرق الحجاج التي أسند بها مشروعها وجعله يعانق الكونية.
1- منزلة ديكارت في تاريخ الفلسفة:
“لن تجدينا الدراسات التي لا نكسب من ورائها إلا آراء محتملة…فالجهل التام خير من المعرفة المزعزعة المضطربة ولا يكون العلم علما إلا إذا كان يقينيا…” مقال عن المنهج
ينظر عادة إلى رينيه ديكارت في تاريخ الفلسفة كمؤسس حقيقي للفلسفة الحديثة بما أنه انطلق من التفكير كمبدأ بعد فصله عن اللاهوت وجعله أصل الوجود والخاصية الأساسية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات، وبهذا أراد مؤسس العقلانية الحديثة أن يتحرر من فلسفة أرسطو ثائرا على الفلسفة المدرسية التي تعلمها في المدار س المسيحية ومبشرا بولادة شيء جديد في مجال العلم والفكر والحضارة. إننا لا نستطيع في الحقيقة أن نقيس درجة التأثيرات التي أحدثها ديكارت في الفكر الحديث وفي عصره لاسيما أنه اعتبر من طرف البعض الرائد الذي أسس من جديد الأرض الصلبة للفلسفة بعد سنوات من الجمود. لكن التأثير الأهم في تشكل الفلسفة يتعلق في الكيفية الحرة والسهلة والشعبية التي تنطلق منها وتنبني عليها كما يرى هيجل، آذ لأول مرة في تاريخ الفكر ومع ديكارت أصبحت الفلسفة تكتب بلغة شعبية هي الفرنسية وتنطلق من الرأي العام وتتفق مع الحس السليم وتعتمد على قضايا واضحة وبديهية بالنسبة إلى الحس المشترك. هكذا قام ديكارت بعملية دمقرطة للمعرفة محطما بذلك الوصاية والاحتكار والأستذة المعرفية التي كانت تمارسها الكنيسة والنخبة العارفة باللغة اللاتينية على بقية الشعب.
كان مشروع هذا العالم الرياضي والفيزيائي والفيلسوف الفرنسي في البداية مجرد حلم صامت في سنة 1619ميلادي حول وضع علم عام يكون مفتاحا لجميع العلوم الأخرى يوحد المعرفة الإنسانية ويساهم في تشكيل منهج علمي يعصم العقل من الزلل ويمنعه من الوقوع في الوهم. هذا العلم العام ليس فلسفة بل هو مشروع مرتبط بالعلم ويكون أساسا للعمل والصناعة ويجعل الإنسان غير خاضع لأوهام الحواس والمخيلة وغير منتظر لرحمة الآلهة لينقذ نفسه من الضياع في الكون بل ليصبح سيدا ومالكا للطبيعة يتحكم في خطابه ويبلغ الحقيقة في العلوم بواسطة منهج عقلي يستند إلى يقين وبداهة الرياضيات.
على هذا النحو يمثل ديكارت نقطة تحول جذري في تاريخ الفلسفة والعلم خاصة في ميادين الرياضيات والفيزياء والفيزيولوجيا والبيولوجيا والبصريات. ولا يعود هذا التحول إلى مجرد إصلاح أو ترقيع للعلوم المعاصرة له بل هو في رأي معظم المؤرخين قطيعة جذرية مع العلم القديم وكل التراث المعرفي السكولاستيكي.
هذا العمل الفلسفي التطهيري عبر عنه ديكارت بواسطة الشك المنهجي في العمل العلمي السابق له وخاصة كل التراث الأرسطي الذي هيمن طوال قرنين من الزمن وذلك بأن وضع كل المعارف والحقائق المتحصل عليها من الماضي بين قوسين وانطلق من الأنا أفكر فقط كبداية حقيقية وصافية للمعرفة والوجود معا وقد أراد الفيلسوف بهذا الانطلاق من الصفر المعرفي والوجودي تجديدا للفلسفة والعلم وبعثا للحضارة الأوروبية التي مزقتها الحروب وكثرت فيها النعرات المذهبية والفرق الاثنية.
هذا يعني أن ديكارت لم يكتفي بتطوير الفلسفة والعلم فقط بل اقتحم المجال المحظور وفكر في جوهر الحضارة الغربية نفسها وأعاد ربط الأنا بالعالم والذات بالمطلق وجعل الحقيقة تغير مقر سكناها من السماء إلى الأرض ومن الأشياء الخارجية إلى الباطنية الإنسانية وأعاد أيضا تسمية الكائنات معوضا الطريقة القديمة في التفكير بأخرى جديدة قوامها الأنا أفكر إذن أنا موجود.
يقوم المشروع الديكارتي على إثبات التعالي الوجودي للإنسان والذات البشرية على حساب بقية الكائنات الأخرى وعلى أولوية التفكير على الوجود والكائن على الكائنات بعدما كان الفكر المدرسي يبدأ من الوجود إلى الفكر ويقدم عالم الأشياء على عالم الأشخاص وينظر إلى الإنسان ككائن مثل بقية الكائنات. من هذا المنطلق يمثل المشروع الديكارتي مشروعا إنسانيا بشكل جذري وتعتبر الديكارتية فلسفة عقلانية ونسقا علميا يهدف إلى معرفة الأشياء بواسطة منهج عام لقيادة العقل والبحث عن الحقيقة الموضوعية بعيدا عن التحيز والرأي والأحكام المسبقة.
يتكون النسق الديكارتي من جملة من الفروع التي تربط بينها وحدة عضوية وشجرة المعرفة التي يتحدث عنها ديكارت في كتاب المبادئ تمثل جذورها الميتافيزيقا وجذعها الرياضيات وتشير الفروع إلى العلوم الأخرى مثل الميكانيكا والطب والأخلاق. إن وحدة المعرفة العقلانية عند ديكارت تتأسس على وحدة المنهج وليس عن طريق وحدة الموضوع أو لغة البحث. إذا ما رمنا التمييز بين ديكارت والديكارتية فانه من الضروري بالنسبة إلينا أن ندرس قضايا المنهج والفكرة الميتافيزيقية الجيدة التي تبلورت مع ديكارت وكذلك الاهتمام بالفيزياء والأخلاق حتى يتسنى لنا فهم قيمة وحدود التجديد الذي قام به ديكارت في تاريخ الأفكار والصنائع.
2- المنهج الديكارتي:
” إن العقل هو الوحيد الذي يمكنه تصور الحقيقة” القاعدة السادسة
يعني المنهج الطريقة التي توضع لتمنع الفكر من الوقوع في الخطأ وتضمن بلوغ اليقين وحسن التصرف في القدرات الذاتية والملكات المعرفية. إن المنهج يتكون من قواعد صحيحة ومبادئ سهلة بمساعدتها لا يستطيع الفكر الذي يرى الحقيقة أن يفترض أنها خطأ. انه بحث منظم للفكر عن الأشياء الضرورية لحل مشكلة ما وللوصول إلى الحقيقة. إن الإنسان الذي يتبع منهجا صارما يستطيع أن يعرف كل الأشياء التي بإمكان العقل البشري أن يعرفها. إن حديث ديكارت عن المنهج وتأكيده عليه لا يعني أن الفلسفة التي سبقته أو العلم القديم لا يتبعان منهجا بل لقد عرف الفكر البشري منذ أرسطو القياس البرهاني ومنهج الاستنباط أي الانطلاق من الكلي إلى الجزئي وعرف أيضا منهج الاستقراء الذي ينطلق من الجزئي إلى الكلي.
إن الحافز الذي حرك ديكارت نحو التجديد المنهجي كان قويا إلى درجة أنه دفع به إلى الانطلاق من نقطة بعيدة كل البعد عن المنهجين الاستنباطي والاستقرائي وأني عمل على الجمع بين المنطق والرياضيات في الحدس والاستنباط. يعرض ديكارت فكرته عن المنطق الجيد في التفكير في الجزء الثاني من كتابه:” مقال عن المنهج” وفي كتابه:” قواعد من أجل حسن قيادة العقل” ويصفه بكونه يعوض المنطق السكولاستيكي الأرسطي ويمثل منهجا “يمكن الإنسان من حسن قيادة العقل لاكتشاف الحقائق التي يجهلها” وهو مستمد من الرياضيات لسهولة وبساطة المبادئ التي يستند إليها.
غير أن ديكارت يعتبر الرياضيات نتيجة نصل إليها بعد تطبيق المنهج وليست هي المنهج ذاته على الرغم من انبهاره بها وذلك لصرامتها ولضمانها بلوغ اليقين. من هذا المنطلق فإنه يقترح منهجا عاما تكون الطريقة الهندسية أولى تطبيقاته يسميه في كتاب القواعد رياضيات كلية Mathesis universalis وهي لا تهتم بالمواضيع الجزئية مثل الأعداد والأشكال والمقادير والأبعاد بل بالنظامordre والقياسmesure وتكون لها القدرة الإبداعية الخلاقة على اكتشاف ماهو مجهول بواسطة الأمكنة التي تحتلها والأزمنة التي تستغرقها والعلاقات المنطقية التي تربط بينها.
اللافت للنظر أن ديكارت قد أسس ما يسمى الهندسة التحليلية التي ترى أن معرفة كيفيات وخصائص المنحنياتcourbes تعود إلى عملية إبداع الإحداثيات coordonnées بواسطة حساب الجبر. على هذا النحو كان المنهج الديكارتي بمثابة وعي العقل بشروط عمل الطبيعة بعيدا عما تقوله المخيلة أو الذاكرة أو الحواس. وينطلق العقل من ملكتين هما الحدس والاستنباط. أولا “الحدس هو تصور من عقل خالص منتبه إلى موضوع ما بحيث لا يبقى لدى المتصور أي شك بشأنه” أي أنه يمتاز بصفاء الذهن وتحرر العقل من سلطان الحس وإيهام الخيال والانطباق الكامل على الموضوع لإدراك ما يبدو بديهيا. إن الحدس هو حضور لدى الفكر لطبائع ثابتة وحقائق أولية ، الطبائع البسيطة ( الحركة والامتداد والشكل) ليست مفاهيم بل موضوعات مدركة بشكل مباشر عن طريق النور الفطري للعقل وبداهة حضور الفكر لدى مواضيعه واتساقه مع أفكاره الفطرية.
علاوة على ذلك يجب الالتجاء إلى الاستنباط لحل الموضوعات المركبة والانتقال من المعلوم إلى المجهول، أما الحقائق الأولية مثل شيئان متساويان مع ثالث فهما متساويان فيما بينهما فهي شروط إمكان المعرفة. الاستنباط هو استعمال الحدوسات للمرور إلى النتائج عبر سلسلة منطقية كاملة حتى تصل إلى اليقين. بين إذن أن المنهج هو الاستعمال الجيد للحدس والاستنباط يجمع بين النظام الذي تتبعه أحكامنا الثابتة والنظام الواقعي للأشياء. إن المساعدة التي يقدمها المنهج إلى الاستنباط ضرورية من أجل الوصول إلى الحقائق المركبة حل مسائل العلم ومتابعة الادراكات والربط بينها في إطاري الزمان والمكان.
يتكون المنهج من القواعد التالية:
– البداهة: وهي التأكيد على رفض الأقاويل المغشوشة والملتبسة والاكتفاء بقبول الأفكار الواضحة والمتميزة
– التحليل أو التبسيط: وهو تقسيم المسائل العويصة إلى بسائط يمكن حدسها مباشرة.
– التركيب: يتمثل في تنظيم هذه البسائط ونبدأ بالأسهل ونصعد بالدرجة نحو الدرجات الأكثر تعقيدا.
– المراجعة: وهي إحصاء النتائج بجمع المعارف التي ترتبط بالمسألة التي نريد حلها.
يرمي المنهج إذن إلى حسن توجيه العقل لكي يصل إلى اكتشاف الموضوعات والى التقدم في طريق العلم ويقتضي تحديد أفعال التفكير أولا وتبين المساعدات التي تقيه من الزلل بتهيئته لحل مسائل العلم وغزو الطبيعة. لكن إذا كان تجديد ديكارت قد ارتبط بالمنهج والثورة العلمية والقطع مع المنطق الأرسطي فهل يعني ذلك أنه تجاوز الميتافيزيقا القديمة؟
3- ميتافيزيقا الذاتية :
“ليس المهم أن نمتلك عقلا حسنا بل الأهم هو أن نحسن استخدامه”
قطع ديكارت الطريق أمام الميتافيزيقا الكلاسيكية الموروثة عن الفلسفة اليونانية والميراث المسيحي وأسس ميتافيزيقا الذاتية التي تنطلق من التفكير إلى الوجود وتكتشف الإنسان من جهة أسباب العقل وعن طريق التأمل الميتافيزيقي وتثبت وجود الأنا من حيث هو جوهر مفكر ويكون بذلك الكوجيتو هو شرط أول للمعرفة واليقين الأول الذي يسمح بظهور يقينيات أخرى.
يعرف ديكارت الميتافيزيقا على أنها أساس كل البحوث والمعارف لاسيما وأنها “العلم الذي يبحث في أسس المعرفة والأشياء بهدف الوصول إلى المبادئ الأولى والعلل القصوى”. أما البحث الذي يحرك مكتشف الكوجيتو فهو بحث ميتافيزيقي يشبه فيه الفلسفة بالشجرة تكون جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي مختلف العلوم الأخرى وهي الطب والميكانيكا والأخلاق.” وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب مبادئ الفلسفة الذي ألفه سنة 1644 ميلادي.
تبحث التأملات الميتافيزيقية في كيفية الوصول إلى فكرة الكوجيتو عن طريق الشك وتحاول إثبات وجود الله وتعتمد نظرية الحقائق الأبدية وتفصل الخطاب في علاقة النفس بالجسم. فماهي مبررات خوض تجربة الشك؟ وكيف مثل الكوجيتو نقطة أرخميدس؟
إن الذي قاد ديكارت نحو الخروج من التقليد والابتعاد عن الانقياد الأعمى لعلوم ومعارف القدماء هو الأزمة الروحية التي عاشها والتي كانت بفعل أزمة الحضارة التي كانت تعيشها أوروبا في عصره والتي قادته إلى اكتشاف أن كل الحقائق المعروضة أمامه ليست سوى رمالا متحركة وطبقات متكلسة من الآراء. في هذا الإطار نراه يعلن الثورة ويطلب العلم اليقيني بقوله:”لابد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئا وطيدا مستقرا.”( التأمل الأول)
إن دراسة ديكارت في المدرسة اليسوعية لافليش على يد أفضل الأساتذة لم تمنعه من الإعراض عن الجو الكهنوتي والانتفاض باحثا عن المعرفة الراسخة وكل ماهو نافع في الحياة.
السبب الثاني الذي دفع ديكارت إلى خوض تجربة الشك هو مزامنته لثورة علمية كان قد فجرها كل من كوبرنيك وغاليلي وكبلر في مجال علم الفلك والفيزياء وكانت قد غيرت مكانة الأرض في الكون وبدلت نظرة الإنسان إلى نفسه وعلاقته بالعالم المحيط به.
يبلغ الشك أوجه عندما يضع ديكارت بين قوسين الحقائق الرياضية والمنطقية وتترك الساحة للشيطان الماكر يصول ويجول كما يشاء ويضلل ويخدع مثلما يريد، لكن في هذه النقطة يستيقظ التفكير وينتبه إلى حقيقة مفاده أنه يتضاعف بقدر تقوي درجة الشك وطالما أن المعدوم لا شك ولا يفكر يستخلص أن الشك هو نمط من التفكير وأن فعل التفكير تجربة يقوم بها كائن موجود وتكون النتيجة: أنا أشك أنا أفكر أذن أنا موجود. هنا يقع إثبات الكوجيتو ويبرز الأنا أفكر بمثابة الأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان دون أن تميد به ودون أن يكون نفسا ناطقا أو حيوانا عاقلا وإنما جوهرا مفكرا في موقع متصل ومتعال على الجسم بما هو جوهر ممتد. في هذا السياق يصرح ديكارت:” وأنا واجد هنا أن الفكر هو الصفة التي تخصني وأنه وحده لا ينفصل عني. أنا كائن وأنا موجود: هذا أمر يقيني ولكن إلى متى؟ أنا موجود مادمت أفكر فقد حصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا.”( التأملات). لقد عرض ديكارت مراحل الشك التي أفضت إلى الاكتشاف الميتافيزيقي للكوجيتو على النحو التالي:
– خوض في تجربة الشك والصعود عبر درجات مختلفة نحو تعليق كل شيء.
– اكتشاف الكوجيتو
– البرهنة على وجود الله
– التأكد من وجود حقائق واضحة ومتميزة.
– إدراك طبيعة الجسم بماهو امتداد.
– استعادة الثقة بوجود العالم الخارجي.
ثمة ربط جوهري بين وجود الأنا والتفكير من حيث الصفة المميزة لها عن بقية الكائنات ، ولكن لا يقصد بالأنا الذات المجردة التي تعبر عن جميع الذوات وإنما الأنا الشخصي و:ان الحداثة تريد أن تؤكد على أهمية البحث الشخصي عن الحقيقة والتثبت الفردي من وجود اليقين عن طريق التفكير الذاتي لاسيما وأن التفكير بالإنابة غير ممكن وكما يقول هيجل في دروس حول فلسفة التاريخ:”كل إنسان ينبغي أن يفكر لذاته ولا أحد قادر على أن يفكر للآخر”.
كما توجد قيمة مزدوجة من هذا الاكتشاف: أولا إثبات ليقين أول يخرج الإنسان من دوامة الشك، الثاني هو أثبات الذات كشرط أول للمعرفة، وبالتالي يكون المشروع الديكارتي مشروعا انسانويا يقوم على التعالي الأنطولوجي للذات العارفة وعلى المماهاة بين الفكر والوعي والفصل الجذري بين طبيعة الفكر وطبيعة الامتداد. لكن ماهي علاقة النفس بالجسم عند ديكارت؟ وبأي معنى تصور تجربة إثبات الإنية؟
أكد ديكارت آن النتيجة التي أعقبت اكتشاف الكوجيتو هي التمييز الجذري بين النفس بوصفها الجوهر المفكر والجسم بوصفه الجوهر الممتد ووضح أن الجسم لا يمكن إدراكه حقيقة عن طريق الحواس وأي عضو آخر منه وإنما بواسطة فعل الفكر نفسه الذي يتوصل إلى معرفة الامتداد بوصفه جوهر الطبيعة. كما يقسم الأحاسيس والادراكات إلى نوعين: الكيفيات الحسية التي تأتي من الجسم ورؤية الذهن للطبيعة العقلية التي تشكل ماهية وأساس وجود الشيء الخارجي.
يترتب عن هذا القول تأكيد الثنائية في مستوى طبيعة الذات:
– النفس وتدرك بطريقة حدسية “في لمحة من لمحات الذهن وليس قياسا أو استدلالا” وتحضر في أي فعل من أفعال التفكير والإرادة والحرية والشعور بالكرامة. في القسم الرابع من مقال عن المنهج يقول ديكارت:” إنني في شكي هذا مدرك وجودي ووجودي متضمن في فكري وفكري حاضر بنفسه حضورا مباشرا ولو فرضنا أن شيطانا ماكرا يضللني في كل شيء فهو لا يستطيع أن يمنعني من التوقف عن التصديق ولا أن يمنعني من أن ذاتي موجودة حين أفكر.”
ان النفس هي من الأشياء الواضحة والمتميزة وبالتاي هي موجدة ومتعالية على الجسم وهي جوهر فكري خالص ويقول بشأنها ديكارت:”فأنا أعلم نفسي الآن موجودا مفكرا ولا أعلم بعد إذ كنت شيئا آخر غير هذا الوجود المفكر”. ومعرفة النفس أيسر من معرفة الجسم لأن وجود الفكر اشد ثباتا من وجود الجسم:”إني أعرف الفكر بالفكر نفسه أما الأجسام فليس بمقدورنا إدراكها إلا في الفكر وبالفكر، فمعرفتي بالنفس معرفة مباشرة ويقينية وليس يعرف الجسم إلا بالظن والتخمين”. ( مبادئ الفلسفة الباب الأول).
– الجسم هو كتلة من الأعضاء تحكم قوانين دقيقة وهو آلة وجوهر ممتد ويستدل ديكارت على أن فكرة الامتداد هي جوهر الأجسام بمثال الشمع الذي تختفي ملامحه عند الاحتراق ما عدى بقعة من الامتداد الأبيض هي جوهره.
لكن إذا كان ديكارت يميز النفس عن الجسم في الميتافيزيقا فانه في المستوى النفسي والفزيولوجي يقر باتحادهما وخاصة في كتاب المبادئ في الجزء السادس حيث يقدم جملة من الأسباب المعقولة وهي: أن الحواس هي التي تدفع الإنسان إلى أدراك مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا وبما أن الله هو الذي أظهر لنا مباشرة فكرة هذه المادة فإننا نتصورها كشيء مغاير له وللعقل. لكن كيف ندرك أن النفس والجسم هما متحدان؟
هذا الاتحاد يتم ملاحظته عندما ندرك حدوث الألم أو الإحساس باللذة وغيره من الإحساسات ونحكم أنها لا تصدر عن النفس لوحدها بل عند مخالطتها لشيء ممتد ومتحرك هو الجسم. أن الانفعال هو أمارة على الاشتراك بين النفس والجسم لأنه ينتج الحزن والخوف والكره ويصدر عن الموضوعات الخارجية.
كما يمكن أن النفس والجسم مرتبطان عن طريق الدورة الدموية حيث يلعب القلب دور مركز الحرارة التي تدفع بالدم في العروق وهناك يختلف مع هارفي الذي يفسر حركة دقات القلب بالدوران الدموي. يطبق ديكارت هنا نظريته الآلية mecanisme على ماهية الإنسان ويشبهه بالآلة التي تشتغل وتتحرك حسب قوانين الطبيعة ويكون القلب هو السبب الرئيسي في حركتها.
من هذا المنطلق إن الإنية موجودة حتى لو فرضنا أن الجسم غير موجود لن النفس هي ما به يكون الأنا أنا وهي تستمر في الوجود طالما امتلكت وعيا وخاضت تجربة التفكير وعادت إلى ذاتها.
إن الصعوبات التي تظهر على النسق الديكارتي ناتجة عن التأويل المعطى للأنا أفكر لاسيما وأنه لا ينحصر في ديكارت ولا يتعلق فقط بالفرد المتعين في التاريخ ولا إنسان القرن السابع عشر وإنما يشمل كل كائن مفكر في أي عصر وفي أي ثقافة ومهما كان عرقه أو دينه أو لغته. فكيف احتاج ديكارت الى مسألة الضمان الإلهي من أجل ترسيخ ديمومة الإنية عبر الزمان؟
– 4البرهنة على وجود الله:
“يكفي للبرهنة على وجود الله أن تكون ضرورة وجوده متضمنة في المعنى الذي لدينا عنه”
إن التحليلات التي قام بها ديكارت تتفق على نقطة أساسية وهي أن اليقين غير ممكن إذا لم يرتكز على وجود الله لأن وجود الذات الإلهية هو الضامن للمعرفة والوجود معا وهو بديهية تساعد على البرهنة ولا تحتاج إلى برهان لأنها واضحة وحاضرة بشكل فطري في الذهن. ينهض ديكارت للبرهنة على وجود الله انطلاقا من الأفكار القطرية الواضحة والمتميزة التي تيقن من وجودها بعد اكتشاف الكوجيتو. والحق أننا نجد من بين هذه الأفكار فكرة الكمال وهي فكرة من المستحيل أن تكون من إنتاج الذهن البشري لأنه محدود ومتناه. من هذا المنطلق ينبغي أن يكون هناك كائنا مطلقا هو الذي وضع هذه الفكرة في ذهن الإنسان ونستخلص من ذلك أن الله موجود وهو مصدر الكمال. الدليل الثاني هو الذي ذكره في مقال عن المنهج ويسمى الدليل الأنطولوجي أين يؤكد فيه أن الله إذا كان كائنا كاملا فينبغي أن يؤكد صفات الكمال ولما كان الوجود هو أحد أوجه الكمال فوجب أن يكون الله موجودا حينئذ، وفي موضع آخر يرى ديكارت أن صفات الله الأخرى مثل الطيبة والخلود تضمن صدق الحقائق البديهية ووجود العالم المادي الخارجي وصرامة الاستدلال الرياضي. الدليل الثالث هو السببية ويتمثل البحث عن سبب فكرة الكائن الكامل اللامتناهي وذلك بالبحث عن سبب وجوده هو الذي يفكر في الكائن الكامل اللامتناهي.
هنا يرى أن الإنسان يفكر ويعرف ما في نفسه من كمال ونقص ويشك ويخطىء ويريد أن يتجنب ذلك معا ولكنه متيقن من شيء واحد وهو أن الكائن المفكر ليس سبب وجوده بل ينبغي أن يكون هناك كائن كامل يستمد منه صفة الوجود في لحظة وعن طريق القدرة اللامتناهية، في هذا السياق:”أنا موجود الآن وأعرف أني لست سبب وجودي ولست بالأولى سبب بقائي في الوجود وانتقالي منى اللحظة الحاضرة الى لحظة تالية وعلى ذلك فلست سبب انتقالي من اللحظة الماضية إلى اللحظة الحاضرة. ولابد من سبب وأن يكون هذا السبب سبب وجوده ذاته وبقائه في الوجود معا أي أن يكون سبب ذاته. هذا هو الكائن الكامل ذاته الذي أفكر فيه بحيث لا يكون مفتقرا في وجوده إلى سبب ولا عاجزا عن البقاء بذاته في الوجود فهو إذن قادر على ايجادي وحفظي. هو الخالق الحافظ.” وفي السياق نفسه يصرح:” نحن نعلم أننا لسنا حاصلين على قوة تكفل لنا الاستمرار في الوجود أو تحفظنا فيه لحظة واحدة وأن القادر على إبقائنا خارج ذاته وعلى حفظنا لهو يحفظ ذاته بالضرورة أو لهو بالأحرى لا يفتقر لمن يحفظه وانه هو الله.”
هذا الدليل يستنبطه ديكارت من الرياضيات إذ يرى أن المعرفة الواضحة والمتميزة للأجسام يجب أن تكون المعرفة الرياضية وانطلاقا منها يمكن البحث عن حقيقة أسمى من العلم الرياضي تكون أصل اليقين وأساسه. في هذا الإطار يرى ديكارت في التأمل الخامس أنه يمكن التفكير في الله وفي موضوع وجوده على نحو مماثل التفكير الرياضي والوصول بمقتضى ذلك إلى التفكير في يقين مماثل لليقين الرياضي. فكيف انعكس إثبات وجود الله على يقين وجود حقائق أبدية؟
 -5 نظرية الحقائق الأبدية:
“القدرة على حسن الحكم والتمييز بين الخطأ والصواب هي أعدل الأشياء قسمة بين الناس”
يعرض ديكارت في مقدمة كتاب المبادئ نظرية ميتافيزيقية في الحقائق الأبدية والتي تختلف عن المبادئ الأولية لاسيما وأنها مبادئ موضوعية توجد خارج الفكر وفي الواقع وليست ذاتية. يميز ديكارت بين ثلاثة أنواع من الحقائق الأبدية الأولى في المنطق وهي البديهيات axiomes ، والحقيقة البديهية هي قضية انطلاقا منها يمكن أن نستخلص منها قضايا بديهية أخرى ولكنها قضايا منطقية وأفكار عقيمة.
النوع الثاني من الحقائق مستمد من الرياضيات ويسمى المعاني المشتركة notions communes وهي نافعة طالما أن المنهج الرياضي يقيني ومادامت الحقائق التي يصل إليها واضحة ومتميزة. إن العقل يدرك هذه البديهيات والمعاني المشتركة إدراكا مباشرا بواسطة الحدس ويعبر عنها وفق أشكال رمزية.
النوع الثالث هو من النوع الذي يصعب على الفكر الوصول إليه مباشرة نتيجة الأحكام المسبقة المتأتية من الحواس والعادة والخيال ولذلك ينبغي عليه أن يعيش تجربة التأمل الميتافيزيقي ويقوم الذهن بانقلاب جذري ضد الثقافة السائدة من أجل إدراكها لكونها مبادئ أولى. يقول كتاب مقال عن المنهج:” انه صحيح أن نقوم بحروب عوض جهود في هذه الصعوبات التي تمنعنا من الوصول إلى الحقيقة.”
لكن ديكارت يرى أن هذه الحقائق الأبدية ضرورية أي أنها ليست مستقلة عن الله في قيمتها وحقيقتها بل هي مخلوقة بحرية من طرف الله. لكن لماذا تتعلق هذه الحقائق الأبدية بالإله الحر؟
يؤكد ديكارت في إحدى رسائله:” أن الله عمل عجائب ثلاث: الخلق والحرية والسيد المسيح” وفي رسائل سنة 1630 يقرر أن العقل الإلهي لا يخضع لتلك الحقائق مثلما تخضع لها العقول البشرية ومع ذلك فان هذه الحقائق ليست جزءا من ذاته وليست موضوعات خارجة عنه ومفروضة عليه ، إنها لا تصدر عنه ولا تنبعث منه لأن الذي صدر إنما صادر بالضرورة فهو مرتبط ضرورة بالذي صدر عنه وهو ما يمتنع تصوره في الله الذي لأي خضع لشيء ولا يرتبط بشيء وان يخضع لمشيئته كل شيء.
من البين إذن أن ديكارت يتحدث عن الحقائق كماهيات وطبائع ثابتة يتقبلها العقل ويرى أنها غير مستقلة عن الله ولا يخضع لها بل يريدها ويخلقها، حول هذا الموضوع يصرح ديكارت:”إن الله لا يعرفها لأنها حقائق ثابتة بل إنها حقائق ثابتة لأن الله يعرفها”. لكن كيف تخضع الحقائق الأبدية لمشيئة الله؟
انه مماثل لخضوع المخلوقات للخالق، فالله خلق هذه الحقائق بكونه أرادها وفهمها منذ الأزل وهو يريد ويفهم ويعلم في نفس الوقت وبنفس المعنى في وحدة مطلقة وبما أن هذه الحقائق مفهومة لدى الإنسان وفي مستوى إدراكه وفي متناول معرفته فإنها مخلوقة مثله وخاضعة لقدرة الله ومشيئته، كما تمثل الحقائق والقوانين العلمية وسيطا بين الإرادة الخالقة والإنسان فهي خاضعة لله من جهة ومفهومة من قبل الإنسان يستطيع اكتشافها واستغلالها من جهة أخرى. إن الإنسان لا يقدر على تغيير هذه الحقائق لأنها أبدية ولأن الله وحده الذي أرادها وإرادته لا حدود لها وهي ما يمكن فهمه على الإطلاق لأن العقل في الله لا يسبق الإرادة ولاسبق زمني أو منطقي في الله. إن الله غير مفهوم لنا نحن المخلوقات لأنه القادر المريد ولأن قدرته لا يحدها شيء كما أن حريته لا يفسرها أو يعنيها شيئا فهو قادر مثلا على عدم خلق العالم أو على إنهاء الحياة في الكون في أي لحظة شاء ويمكن أن يجعل زوايا المثلث لا تساوي لزاويتين قائمتين وان يجعل أقطار الدائرة غير متساوية. وينتهي ديكارت إلى هذه النتيجة الباعثة على الحيرة: لقد أراد الله هذه القوانين في العالم الطبيعي مثلما يريد ملك من الملوك القوانين في مملكته.
علاوة على ذلك يقسم ديكارت الأفكار التي توجد في النفس إلى ثلاثة أنواع:
– أفكار خارجية صادرة عن الحواس وتمثل جملة من الانطباعات والكيفيات وتدل على موضوعات خارجية مثل أفكار اللون والصوت والطعم وتتركب من الأجسام والأحداث.
– أفكار مصطنعة يركبها الخيال من الأفكار الخارجية وهي لا تحيل إلى الواقع ولا تفيد معنى.
– أفكار فطرية نتعرف عليها بمجرد النظر في طبيعتها وهي راسخة في النفس مثل الشيء والوجود والذات والحقيقة والامتداد والله.
إن فلسفة ديكارت تتضمن مواقف ميتافيزيقية خطيرة وان معرفة الإنسان لذاته تمر حتما عبر معرفته لله وإذا كان الوجود المعقول بوجه عام مخلوقا يستطيع الإنسان ألا يرتبط به وألا يخضع له فإن الله قادر على أن يوجد مخلوقات لا تظهر على حقيقتها ويبدل سنن الكون متى شاء والتدخل في الطبيعة.
غاية المراد أن ديكارت يشير إلى أن الله يخلق الحقائق الأبدية ويضعها في الطبيعة بإرادته ويترك للإنسان الحرية للتصرف في الطبيعة كما يشاء ولحكم العالم وهكذا تكون الميتافيزيقا هي أساس الفيزياء والتيولوجيا هي جذور الفلسفة الطبيعية الجديدة التي يصنعها على هدي النور الفطري للعقل. فكيف ستظهر هذه الإرادة الإنسانية الغازية للطبيعة على الصعيد العملي؟

– 6الأخلاق والسياسة والحرية:
” أفضل الدعة وان أفكاري في الطبيعة هي آراء نسبية لا أريد أن أثور بها على سلطات لها مقام في السيطرة على أفعالي”
في مقال عن المنهج عاب ديكارت على الفلسفة كونها ليست “سوى مدرسة للشك قبل أن تكون مدرسة علم ويقين” وحمل على الرياضيات لأنها لا تطبق في جميع أوجه الحياة وانتقد أساتذته الذين يعتمدون على الجدل السخيف والنقاش العقيم ويجهلون المنهج الذي يعصم من الوقوع في الخطأ ويرى أن الكائن ميال بطبعه إلى التمييز بين الصدق والباطل ويرى بوضوح ويسير بثبات وينشد سعادته.
إن الفلسفة عند ديكارت هي قواعد يقترحها الذهن إلى الإرادة لكي تهتدي بها ولهذا اهتم في آخر محاولاته ورسائله الفلسفية بالأخلاق وينظر إليها على أنها تدرس اتجاه الإنسان نحو الفضيلة والسعادة وما تشترطه من إلمام شامل بكل المعارف بما في ذلك الميتافيزيقا والطب لاسيما وأن الإنسان نفس متحدة بجسم والسعادة تقوم على صحة الجسم. النسق الفلسفي عند ديكارت يقوم على ثلاثة محاور هي النفس والعالم والله وترتبط الميكانيكا بالطبيعة ويدرس الطب الجسم الانساني وتهتم الميتافيزيقا بالله.
لما كان ديكارت يخوض تجربة الشك ويبحث عن الحقيقة كان لزاما عليه أن يفترض مجموعة من القواعد يهتدي بها في سيره وقد سماها الأخلاق المؤقتة وقد ذكر ذلك في الجزء الثالث من مقال عن المنهج سنة 1619ميلادي وقد صاغها على النحو التالي:
1- أن ينصاع الفيلسوف لقوانين وتقاليد بلاده وأن يحافظ على دينه ويتبع في العمل أعدل الآراء وأبعدها عن الغلو.
2- عدم الاشتراط يقين كامل في الآراء التي يتخذها في الميدان العملي مع الالتزام بالسير حسب الرأي الذي اختير دون تردد.
3- أن يعني الإنسان بما كان صادرا عن نفسه فحسب ولايتهم بما يأتيه من الأحداث الخارجية سواء كانت حسنة أو سيئة.
لم يكن هدف ديكارت من هذه القواعد إيجاد علم أخلاقي أو مذهب جديد وإنما توجيه حياته نحو الأنفع وتسديد أعماله نحو الأصلح وقد صاغه بعد بحث مطول في الطبيعة البشرية وبالإنصات إلى صوت العقل والاستفادة من ثقافته اليسوعية والتراث الرواقي عند أبيكتيت وسيناك.
ينبغي أن يستمر المرء في إتباع برنامج الحياة الذي سطره لنفسه وأن يبحث في مختلف الميادين ويتقيد بأحكام العقل ومثلما بإمكانه أن يصبح سيدا على الطبيعة بواسطة المنهج العلمي فإنه قادر على أن يسيطر على الانفعالات ويصل إلى السعادة ويصبح مستقلا. ويظهر التأثير الرواقي هنا عندما يصرح ما يلي:”ليس بإشباع الرغبات يكون الإنسان حرا بل بتحطيم الرغبات” ويضيف:” أن نغير رغباتنا ولا نظام الكون” ويقصد أن هناك أشياء أمرها بيدنا ويمكن تغييرها وهناك أشياء ليست بيدنا وينبغي أن نقبلها، و”لا شيء يكون تحت قدرتنا أكثر من أفكارنا” وكذلك الرغبات والانفعالات والأحاسيس أما الأشياء الخارجية مثل الحظ والقضاء والقدر فهي خارج سيطرة الإنسان ولا تتعلق بإرادته ولذلك ينصح بألا نرغب في أن تأتي الأشياء مثلما نرغب وإنما نرغب في أن تأتي مثلما تأتي ونكون سعداء”.
ينادي ديكارت هنا بتحقيق المصالحة مع الواقع وإتباع القدر وذلك بالجمع بين الحذر والصرامة الذهنية وضرورة الحياة لأن الكانسان مثلما بإمكانه أن يصبح قديسا يمكنه أيضا أن يخطئ ويتدحرج عن مكانته. هكذا يقوم الإنسان بما يقدر أن يقوم به والنتيجة التي تعقب الفعل ليست متعلقة به وليس له قدرة عليها وإنما يتحكم فيها نظام الكون وحركة التاريخ. في رسالة إلى اليزبات يقر ديكارت آن الإنسان قادر أن يكون حليما “عندما يحس في نفسه تصميما ثابتا وصارما في حسن الاستعمال بمعنى ألا ننقص أي شيء في إرادتنا من أجل مباشرة وتنفيذ كل الأشياء التي حكمنا أنها حسنة: انه الذي يهتدي بالفضيلة اهتداء تاما.” أما في انفعالات النفس فانه يقر باتحاد النفس والجسم ويقر بفعل الجسم في النفس عند الإحساس والانفعال وفعل النفس في الجسم عند الفعل الحر بل “إن الانفعالات تصبح ذات جدوى عندما تقوي وتثبت الأفكار”. إن فضائل اللطف والغبطة يتوقفان على الاستعمال الحسن والسيطرة على الانفعالات.
إذا كان الإعجاب هو نوع من الانتباه الفطري فإن الإرادة تشعر بالفرح عندما تنجز فعلا فاضلا يقرره لها الذهن وتشعر بالحزن عندما ترتكب فعلا مذموما. إن النفس لا تقدر على تغيير كمية الحركة في العالم ولا تستطيع تغيير قوة الانفعال ولكن يمكنها أن تغير اتجاهه بالحد منه أو بالزيادة فيه لأنها نفسا حرة. والقيمة الحقيقة ترجع إلى قدرة الإرادة على التصميم وتنفيذ قرارات الذهن. حري بالإنسان إذن أن يقدر نفسه ويحترمها حتى يتمكن من ممارسة حريته ويسيطر على إرادته وتجعله شبيها بالآلهة.
إن الممارسة التامة للفضيلة تقتضي أن يتحلى المرء بالشهامة والمروءة وان يقدر نفسه ويحترمها ويتصرف بحرية ويحب غيره وربه ويريد الفعل الحسن. وإذا كانوا لا يحتقرون غيرهم فان هذه الفضيلة تمنع عدم احتقار الغير لهم لأنهم أكرم الناس والأكثر تواضعا يعترفون بهشاشة طبيعتهم ويعتبرون أخطائهم لا تقل فداحة عن أخطاء غيرهم. أما الكرم فيصلح لعلاج اضطراب الانفعالات لكونه يدفع الناس إلى إتيان جليل الأفعال ونكران الذات وخدمة الغير ويشعرون بالثقة في النفس ويطهرون من الغيرة والحسد والكراهية ويعتصمون بالفضيلة.
بقيت قضية الحرية التي يطرحها ديكارت في كتاب المبادئ ويرى أنها أعظم صفات الكمال التي تمنح إلى الإنسان لكونها هي التي تجعله موضح الذم أم القدح. ولما كانت الإرادة لامتناهية بطبيعتها فإن المرء حر في العويل عليها حتى يصبح سيد أفعاله وجدير بالمدح عندما يحسن قيادتها. وحرية الإرادة لا نعرفها بالدليل فقط بل بالتجربة الوجدانية إذ من البين والبديهي أن للإنسان إرادة حرة قادرة على القبول أو الرفض. أن الإنسان يدرك في نسه من الحرية ما يمكنه من الامتناع عن تصديق كل ما لا يعرفه معرفة تامة، أي أن الإنسان حر في ممارسة الشك وفي وضع معارفه السابقة بين قوسين. لكن ألا تتناقض حرية الإنسان مع أرادة الله المطلقة؟
تكمن الخطورة حسب ديكارت في محاولة التوفيق بين حرية الإرادة الإنسانية وأوامر الله لأن قدرته مطلقة بحيث لا يمكن أن نفعل شيئا إلا وقد قدره الله من قبل. علاوة على أن الإنسان يحوز من العقل ما يكفي لكي يعرف بوضوح وتميز أن قدرة الله كاملة ولامتناهية ويعرف أن هذه القدرة تسمح بأن تكون أفعاله حرة.
إن هذه الحرية الثابتة هي أمر ضروري من أجل أن يؤسس الإنسان الأخلاق لاسيما وأن المبادئ والقواعد والفضائل لا قيمة لها إذا لم يمتلك الإنسان وعيا ويكون غير حر وخاضع لجبرية معينة.
هذا ما يحسب لديكارت من مناهج ومعارف وأفكار ونظريات تبدو في الظاهر ثورية ولكن ماذا يعاب عند التقصي والاستنطاق على الديكارتية؟
خاتمة نقدية:
“النفوس الكبيرة قادرة على فعل أعظم الفضائل وارتكاب أبشع الرذائل”
صفوة القول أن فلسفة ديكارت هي خلاصة تجربة فكرية حديثة وقع التحضير لها لمدة طويلة وثمرة الجهد الذي بذله في مجال تجديد العلوم وتجويد الأساليب وتنمية المعارف ولذلك كان للديكارتية تأثيرا كبيرا على الفكر والحضارة الغربية وألقت بظلالها في العلوم وخاصة علم النفس الفزيولوجي وعلم الاجتماع الوضعي وتبوأت مكانة بارزة في عصر التنوير بحيث صار اللقب ديكارتي يكفي لكي ينعت حامله بأن عقلاني ومتنور. مع ديكارت تخرج الميتافيزيقا من العصر القديم لتصبح ميتافيزيقا الذاتية بحيث يكون الموجود بمقتضاها وجودا يعطي لذات وتصبح الذاتية أساس الوجود وفي ذلك ذكر هيدجر في دروب متشعبة ما يلي:” إن ماهية الإنسان نفسها ستتحول وسيصبح الإنسان مركزا ومرجعا للموجود بماهو كذلك ولكن هذا لم يكن ممكنا إلا شريطة تحول معنى الموجود رأسا على عقب…”
بيد أن ثقة ديكارت المبالغ فيها في العقل وتخليه النسبي عن دور التجربة ورده الوجود إلى الفكر وجعل الموضوع مجال لتمثل الذات وإيمانه بالآلية في تصوره للطبيعة والجسم وإرجاعه كل شيء في العالم إلى الامتداد أدى إلى تبني آراء محافظة وموروثة عن الماضي الفلسفي والعلمي. هناك العديد من المسلمات الميتافيزيقية التي أقام عليها ديكارت نسقه الفسلفي والعلمي دون أن يراجعها وثمة نوع من التمركز على الذات بلغت حد الأنانة والتنظير لغزو العالم ضمن رؤية ارادوية أفضت إلى انتشار الحملات الاستعمارية.
إن ديكارت ظل داخل التربة الأرسطية التي حاول جاهدا الفرار منها وبقي يتكلم لغة الجوهر والعرض والذات والكيفيات ويمارس الحدس والاستنباط تماما مثلما يفعل أي مفكر قروسطي. كما أن تجربة الشك كانت مصطنعة وتتضمن خلفية دينية واضحة للعيان ولم تكن شاملة بل استثنت المجالات العملية واحتاجت إلى نوع من الأخلاق المؤقتة من أجل تحقيق المصالحة مع الدين والسياسة. إن الكوجيتو الديكارتي بوصفه اليقين الأول ليس سوى نتيجة منطقية لمحاولة تطبيق المنهج العام الذي استمده من العلم في مجال الميتافيزيقا.ولكن بين الموقف الميتافيزيقي والموقف العلمي لا نجد تجانسا واتصالا منطقيا بل توجد فجوة هائلة وشرخا لا يمكن ردمه.
من بين الأفكار المحافظة التي تبناها ديكارت نجد مسألة الإنسان مدني بالطبع يرفض العزلة ويميل إلى التعاون مع الآخر ويقترح إتباع النور الفطري للعقل من أجل حل النزعات الطارئة على الناس تحت تأثير الانفعالات. زد على ذلك كان ديكارت مجرد أرستقراطي يؤمن بالمجتمع الفاضل الذي يحكمه الفلاسفة يرفض المعرفة المشتركة وينظر إلى الحقيقة على أنها فردية المنبت.
في مجال العلوم ارتكب ديكارت العديد من الأخطاء وكان متخلفا عن علوم عصره وخاصة رفضه فكرة الخلاء وسخريته من المنهج التجريبي الذي اعتبره فرانسيس بايكن الأورغانون الجديد وعدم اعتماده على كشوفات هارفي حول الدورة الدموية الكبري في نظرته الفزيولوجية إلى الجسم وحتى في مجال البصريات فهو لم يكن أكثر حداثة من ابن الهيثم وبقي داخل الفلك الأرسطي إذا استثنينا قوله بالانعكاس. السؤال الذي يطرح هنا ماذا لو تخلى ديكارت عن مبدأ الضمان الإلهي؟ هل كان قادرا بالفعل على الخروج من أناوحدية الكوجيتو واستعادة الثقة في الجسم والمادة والعالم والآخر؟ هل كانت اليقينيات ستتناسل من بعضها البعض وكانت كميات الحركات ستحفظ؟ أليس الكوجيتو نفسه في حاجة إلى إعادة تأسيس من منظور مختلف؟ كيف نعتبر الكوجيتو اكتشافا ديكارتيا أصيلا وهو نفسه يعتقد بوجود حقائق أبدية؟ ألا يوجد تناقض بين ديكارت الفيلسوف وديكارت رجل العلم وبين ميتافيزيقا الذاتية وفيزياء الاصطدام؟ وأليست برهنته الأنطولوجية على وجود الله هي الأخرى في حاجة إلى برهنة؟ لكن ماذا بقي من ديكارت في دنيا العقلانية اليوم؟ ألم يتحول هو نفسه إلى ميراث ينبغي التخلص منه وتراث يجب تحطيمه لكي نتوجه رأسا نحو الفكر؟
المراجع:

Œuvres et lettres de Descartes, publiées par Birdoux. Paris La Pléiade 1937.

كاتب فلسفي