كانت البيوت بسيطة ومتواضعة وقليلة المساحة ولا تحتوي إلاّ على غرف معدودة دون أية مقومات للرفاهية. لم تكن أنظمة التبريد والتكييف والتدفئة متطورة كما في يومنا هذا وكانت الأهالي تتبع وسائل بدائية لتهيئة البيت للمعيشة. الحمامات والمرافق الصحية خصوصاً كانت في حالات يرثى لها في الكثير من الأحيان. شتاءً كانت العوائل تعاني الكثير في توفير الماء الحار للاستحمام. منهم من كان يغلي الماء على الحطب ومنهم من كان أكثر تطوراً يستخدم (البريمز) لذلك.
لصعوبة الأمر في توفير الماء الحار للاستحمام كان الرجال والنساء كثيراً ما يرتادون إلى الحمامات العامة التي كانت منتشرة. هناك يجدون ضالتهم من الدفء والماء الحار والأجواء المناسبة وخصوصاً في أيام البرد الشديد.
جاء رجل إلى أحد الحمامات. خلع ملابسه ووضعها في الصندوق المخصص لهذا الغرض واقفل عليها ودخل الحمام بعد أن لف جسده بمنشفة خاصة بالحمام. أكمل هذا الرجل الاستحمام وخرج ليرتدي ملابسه. اقترب من الصندوق الذي وضع فيه ملابسه وفتحه وإذا بملابسه غير موجودة. أحتار الرجل في الأمر وبدأ يبحث هنا وهناك عسى أن يجد الملابس. لكن لا جدوى من البحث فإن الملابس غير موجودة. اضطر إلى بيان الأمر إلى صاحب الحمام:
– سيدي العزيز لقد سرقت كل ملابسي!
صاحب الحمام المستغرب من الأمر رد على الفور:
– إن لنا سمعة مشرفة في مجال الحمامات منذ ثلاثين عاماً وقد توارثنا هذه المهنة عن آبائنا وأجدادنا ونحن الأبناء سائرون على خطى أولئك. أرجو أن تنتبه جيداً وأن تعلم بأن شعارنا هو الأمانة والثقة ولا نقبل أن تشك في أن ملابسك قد سرقت في حمامنا.
المشكلة الآن أن ملابس الرجل غير موجودة وهو الآن عارٍ لا يعي ما يفعل. فليس من الممكن أن يكون قد جاء إلى الحمام متجرّد من الملابس ولا بد أن هناك حادثة وقعت فأدت إلى فقدانه لملابسه.
الرجل العاري هذا في حيرة من أمره بين اختفاء ملابسه كاملة وبين دفاع صاحب الحمام عن حمامه واسترساله بذكر تأريخ حمامه ومحل عمله الذي توارثه عن آبائه.
أمرنا يشبه أمر الرجل الذي فقد كل ملابسه. فلم يكن بلدنا بهذه الحالة من الفلتان الذي نعيشه. التسيب والحرمان من حقوق المواطنة والعطالة وتشرد الشباب الباحثين عن عمل بكرامة لم نكن متعودين عليه من قبل. لم تكن الكهرباء مفقودة ولم تكن المشتقات النفطية عزيزة إلى هذا الحد. لم يكن الصيف قاسياً هكذا ولم يكن برد الشتاء ينال منا. كان المعلم يقضي عطلته الصيفية في ربوع أوربا ولم تكن الدول تمنع عنا تأشيرات الدخول. كان الفرد يلبس القاط والرباط ولم يكن مهملاً لنفسه حد الثمالة.
نحن مشتتون بين ماضٍ جميلٍ وبين حاضر تقشعر له الأبدان. فرق كبير بين أصالة الثقافة وبين أشباه المثقفين الذين يخيمون على أجواء الفن والثقافة بالأصوات العالية. لم يكن المثقف مهمشاً ولم يكن العالم مركوناً إلى الجنب. لم نأتِ من العدم فلنا تأريخ مشرف وكل ما توارثناه عن آبائنا هو مدعى افتخارنا واعتزازنا اليوم. لم نأتي إلى هذا الحاضر من العدم متعرين من كل ما هو جميل. موروثنا الشعبي من العادات والتقاليد والأعراف السامية شاهد عيان على الكم الكبير من الموروث الذي في جعبتنا اليوم. لم نأتِ متعرين عن الأخلاق وقلوبنا تحترق من أجل الآخر ولم نكن نأكل لحم أخينا ميتاً.
كما كان الرجل العاري في الحمام في حيرة من أمره بين اختفاء ملابسه كاملة وبين دفاع صاحب الحمام عن حمامه وخوضه في سرد تأريخ حمامه المجيد، نحن اليوم في حيرة من أمرنا بين ماضٍ تليد زاخر بالأدب والفنون وبين حاضرٍ يحرق الأفئدة. ما كان أبونا امرأ سوءٍ وما كانت أمنا بغياً كي نحاط بغيوم سوداء ملبدة بالهم والغم دون كهرباء في عهد ارتقاء التكنولوجيا.