23 ديسمبر، 2024 6:23 ص

ما قالته ثورة ايلول عام 1975 … تحقق

ما قالته ثورة ايلول عام 1975 … تحقق

تعد اتفاقية الحادي عشر من آذار عام 1970 انعطافة مهمة في تاريخ الشعب الكوردي ونضاله التحرري ، بما ادت من نتائج استراتيجية شكلت شروطاً تاريخية لسقوط النظام ، برغم ما اعتقده النظام البعثي واهياً وصرح به من الحركة التحررية الكوردية انتهت والى الابد.
الاتفاقية لم تكن حدثاً عرضياً ، كشأن الاتفاقيات السابقة مع الحكومات العراقية ، حيث تخيم على الاجواء حينا وترحل كغيمة عابرة ، برغم ما آلت اليه الامور على مسرح واقعها الآني من نكسة الحركة التحررية الكوردية بعد مرور اربع سنوات على توقيعها وتحديداً في آذار من عام 1975.
في عَرضِها التاريخي، عُقدت الاتفاقية بعد قيام النظام البعثي اثر عودته الثانية للحكم في تموز 1968 ، بالتصعيد العسكري ازاء حركة التحرر في محاولة لحسم المواجهة معها عسكرياً ، لكن النتائج الوخيمة التي ترتبت على عدوانه العسكري وسلسلة الهزائم ، التي مني بها دفعت حكومة البعث وقواها الى الانحناء امام عاصفة الثورة الكوردية ، والانصياع الى المنطق السلمي واجراء الحوار، الذي كانت ثمرته اتفاقية آذار 1974 الذي يعرف احياناً ببيان آذار.
الاتفاقية منحت الوقت ، لنظام البعث في استرداد انفاسه المنهارة والتوجه الى تعزيز موقعه في الخارطة المحلية والدولية بعد صفحاته السود المدانة عام 1963 التي ما تزال لعناتها تلاحقهم.
تقمص النظام البعثي في سنواته الأولى من حكمه البغيض ، خطاباً ثورياً اراد به تزيين صورته البشعة ، وكسب ودّ الآخرين في محاولة تثبيت اقدامه في السلطة. كانت الاتفاقية من جانب النظام البعثي طريقاً للانقلاب والالتفاف من جانبها ، هدفها اضعاف حركة التحرر الكوردية
عبر مختلف الوسائل والاساليب ، واستهداف قادتها من خلال محاولات اغتيالات متعددة قام بها كان مصيرها الفشل ، مثلما لاقت نهوجه الفشل برغم المكاسب الآنية التي تحققت له بعد اتفاقية الذل عام 1975 مع النظام الشاهنشاهي.
استهداف النظام البعثي البائد البارزاني الخالد في ايلول عام 1971 بمحاولة اغتيال ، حينما ارسل لزيارته فريقاً من رجال دين كان يبدو ان النظام هيأهم لحتفهم فكانت النتيجة نجاة البارزاني الخالد وهلاك مستهدفيه. وفي السنة ذاتها استهدف الشهيد ادريس بارزاني في محاولة اغتيال في بغداد اثناء تواجده فيها ، لحضور مباحثات مزمع عقدها مع كبار حكومة البعث.
استراتيجيا ، تعد الاتفاقية تحولاً مهماً في النضال الكوردي المعاصر، فقد ظن النظام ان بالقضاء على الحركة الكوردية المسلحة ، ستكون الفرصة مواتية لتصفية الشعب الكوردي عبر مشاريع الصهر والذبح والترحيل والنفي ، واثبتت الوقائع التاريخية صلابة الشعب الكوردي وبسالته وحكمة قادته ، الذين اعادوا المسار الكفاحي النضالي بعد مدة وجيزة لم تكن باكثر من شهور، التي رسمت سجل الكفاح بآليات جديدة تستجيب للمتغيرات والمتطلبات بمرونة ووعي انتزعت بها زمام المبادرة من اعتى نظام فاشي عرفته البلاد والمنطقة.
في اجتماع المفاوضات الاخيرة في بدايات شهر آذار عام 1974 قال رأس النظام البائد ، للشهيد ادريس البارزاني بالحرف الواحد :(ان العراق سيعطي شط العرب لايران مقابل القضاء على حركة التحرر الكوردية).
بهذه الذهنية البالية والنوايا السيئة المبطنة والسيناريوهات المتفسخة وطنيا واخلاقيا وانسانيا، كان النظام يراهن على النتائج ، ولم يدر بخلده ان قضية شط العرب ستكلفه الكثير، بعد ان خسر مصداقيته ازاء الشعارات الزائفة ، التي كان يرفعها ويصّدع الرؤوس بها ويخدع بها الكثيرين .
فاتفاقية السادس من آذار، التي اوقفت نيران الثورة لمدة شهور ليس الا ، قد اعطت نصف شط العرب (خط التالوك) لايران الشاه ، وهي اتفاقية مهينة اقدم النظام عام 1981 على الغائها من جانب واحد، وتذرع ايضا بأن تنازله عن نصف شط العرب كان اجباريا ، وهو الذي صرح بها مبكرا كما بيَّنا في موضع سابق ، وبالتداخل مع حسابات غير واقعية كعادة النظام في الاقدام على المغامرات الكارثية من دون حساب للعواقب ، افتعل الحرب وهي الاسوء في المنطقة وتعد الاطول بين الحروب في التاريخ الحديث ، بما فيها الحربان الكونيتان ، وقد دمرت الحرب البنى الاقتصادية الارتكازية ، واضاعت مقدرات اقتصادية بشرية هائلة ، كانت كفيلة بوضع البلاد في مصاف الدول المتقدمة اسيوياً ، فقد كان احتياطي العراق قبل الحرب اربعين مليار دينار، وهو مبلغ ضخم وقتها ، فهدرت كما أهدرت عشرات المليارات الاخرى الآتية بالقروض والمساعدات وغيرها.
ظن النظام ان المغامرة الجديدة ستكون قصيرة ومفاجئة ، لكن عنصر المفاجأة لم يكن متوقعا ، اذ طالت الحرب بما لا طاقة له بها ، ولولا المساعدات التي ضخت له من جهات عديدة ، لانهار النظام غير مأسوف عليه ، وبعد ثماني سنوات دموية وكارثية عاد القهقرى ليوقع الاتفاقية ذاتها، بعد حرب اهلكت الحرث والنسل ، صدعت البلاد بتداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ، ما يزال الى اليوم يدفع فواتيرها الباهظة.
بعد حرب الخليج الاولى ، اصبح الوضع الاقتصادي للبلاد بائساً مزريا ، وبدلا من اللجوء الى منطق العقل واعادة الحسابات ، اقدم النظام على مغامرة جديدة ، عله يحل فيها المشكلة وورطته ، وتفتقت عقليته العدوانية عن فكرة احتلال الكويت ، ضارباً بعرض الحائط شعاراته الوحدوية وميثاقه في منع استخدام القوة المسلحة في المنازعات بين الدول العربية من جهة ، وماكابده العراقيين وعانوه من جهة اخرى . ودشنت المنطقة فصلا مرعبا ، باحتلال دولة
الكويت الشقيقة التي عاشت فصولا مأساوية لم تألفها البلاد. الطبيعة العدوانية للنظام وعنتريات تصريحات قادته ، ازاء اية حالة او حدث اقليمي ، اشاع قلقاً واجواء عدم الثقة في المحيط الاقليمي ، الذي كشف متأخرا مدى عدوانية النظام واستهتاره وخطورته على مجمل اوضاع المنطقة ، فسلوكه السياسي وعدم تورعه في استخدام اشد الوسائل خساسة في الاثارة والفتن اقلق الجميع .
سقطت اقنعة النظام ، التي خدع بها كثيرين ، وافلسته على كل المستويات ، وبانت مخططاته وتوجهاته للجميع داخلياً وخارجياً ، لتشهد البلاد تحولات جديدة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 ، حيث انهك الحصار الخانق البلاد واضعف امكانياتها على متعدد الصعد لتعود القهقرى الى عهود الجهل والتخلف والفاقة بابشع صورة ، وتصاعدت خشية النظام الذي جعل من اجهزة حزبه الحاكم اوكارا امنية واستخباراتية ، مع بروز التسلط الاسروي لعائلة رأس النظام البائد الذي شهد هو الآخر صراعات داخلية وتصفيات دموية.
أدى سلوك النظام داخليا الى صراعات داخلية ، واشتدت وتائر التضييق على الناس بقوة الحديد والنار، اذكاه القمع المستبد ، الذي راحت ضحيته اعداد كبيرة من العراقيين وسط ذهول المنظمات الحقوقية والانسانية التي دانت ممارساته ، وطالبته بالكف عن دماء مواطنيه . كلفت سياساته الطائشة اموالا طائلة ضيعت على البلاد فرصا حقيقية وتاريخية للنهوض والتطور.
كانت جريمة النظام في قصف قرى كوردستان عام1988 بأسلحة الدمار الشامل ، التي ادت في الحال الى استشهاد أكثر من خمسة الآف شخص جلهم من الشيوخ والاطفال والنساء ، فضلا عن آلاف من المصابين لطخة عار سوداء في تاريخ ليس نظام البعث ، فحسب بل في جبين التوجهات الشوفينة أنى وجدت ، حيث لاتزال سمومها باقية في النفوس المريضة التي تنظر للكورد من خلال سموم ذلك الدخان ، الذي لا تستطيع أية ريح ان تبدده عن ابصارنا.
ومن المؤسف ان مؤتمر الدول الاسلامية ، الذي عقد في الكويت بعد عدة ايام من المجزرة ، لم يدن هذه الجريمة النكراء التي اقدم عليها نظام البعث ، التي تعد انتهاكا صريحا ، ليس للقيم والمبادئ الدولية والانسانية ، وانما لقيم الاسلام السمحة.
ومن عواهن الرصد الدولي ، انها لا تدين الجريمة وقت حدوثها ، بسبب التخادم السياسي ، لكنها تدينها فقط ، عندما تتكرر المأساة على نحو آخر في مكان اخر ، تعد في نظرها خطاً احمر. قصة اسلحة الدمار الشامل ، حفرت للنظام قبره ، حيث اضحت قضية اسلحة الدمار الشامل الشغل الشاغل للمجتمع العالمي ، لتجريد النظام البعثي منها لقناعته بأنه لايتورع عن استخدامه من دون اية عوائق قانونية او انسانية ، وهي ما اكدته بيانات ثورة ايلول المعلنة من اذاعة صوت كوردستان طوال اندلاع نيرانها خلال اعوام 1974- 1975 .
اثبت نظام البعث ، بأن توجهاته ترمي الى ابادة الشعب الكوردي ، مما أبان تداعيات نزعات التعصب الشوفيني وشرورها الماحقة ، فضلا عن ضرورات تاريخية اكدت نفسها بالحاح تقتضي بتوسيع دائرة المشاركة السياسية لان الفردية تعني الدكتاتورية التي لامفر منها ، وقد ثبت للجميع بالبرهان المبين انها وجه اخر لاشكال العدوان على الاخرين شعوبا ودول وهي بذلك مصدر تهديد امني محليا واقليميا .
وفي تأكيد آخر، أن بلدا مثل العراق لا يمكن أن يحكمه حزب واحد او جماعة واحدة ، وهي احدى الحقائق التي كان البناء السياسي للحركة التحررية الكوردية ، تؤكدها وتناضل من اجلها، فشعار (الديمقراطية للعراق) الذي رفعته الثورة شعارا مركزيا يختصر كل شيء . طبيعة اوضاع البلاد ونوعية تركيبته، تتطلب فضاء واسعا، يضمن استجابة واعية للحركة المطلبية المتجددة لابنائه، وهي تجد نفسها في البناء الديمقراطي السليم، وهذا هو فحوى الشعار.