ليس من الإنصاف أن نحاكم التاريخ بقيم العدالة الانتقالية والقضائية والحقوقية التي نتعامل بها اليوم، وهكذا فإنّ علينا توخي الحيطة والحذر عند الحديث عن موقف الشيوعية والتطبيقات الماركسية من قضايا الرفق بالبيئة وتقنين استهلاك المصادر وحقوق الانسان بمفهومها المعاصر وحقوق الجندر بحسب فهمنا المعاصر.
تختلف مقاربة الشيوعية لقضية الجندر وحقوق المثليين وفق السياقات التاريخية والثقافية، واليوم اتسم عصر العولمة والذكاء الاصطناعي، المقرون زمنياً بمطلع الألفية الثالثة، بتطور كبير جداً في قضية الجندر الشائكة. فثقافة الألفية الثالثة أتاحت للحريات الجندرية مساحة لا مثيل لها في التاريخ. ولكن السؤال الخطير هو: كيف تقارب الشيوعية خاصة، واليسار عامة اليوم قضية الجندروحقوق المثليين؟ الشيوعيون عموماً، وخاصة في العالم العربي والإسلامي وما حوله، يحاولون أن ينأون بنفسهم عن هذه المنطقة، مراعاة لتقاليد القبيلة والمسجد التي تتسع في هذه المنطقة اليوم ولا تتقلص، كما يحكم المنطق، للأسف. ولكن يمكن تحديد بعض المبادئ العامة التي توجه هذه المقاربة::
* الحركات الشيوعية المعاصرة تدعم بشكل صريح حقوق المثليين والمساواة الجندرية. على سبيل المثال، هناك تيارات مثل “الشيوعية الماركسية-الفيمنستية” أو “الشيوعية الكويرية” التي تركز على تقاطع النضال الطبقي مع النضال من أجل التحرر الجنسي والجندري.وتُعتبر هذه الحركات أن التحرر الحقيقي لا يمكن أن يتحقق دون القضاء على جميع أشكال الاضطهاد، بما في ذلك الاضطهاد الجنسي والجندري.
* تؤكد الشيوعية على مبدأ المساواة بين جميع الأفراد، بغض النظر عن الجندر أو التوجه الجنسي. تُعتبر القضايا المتعلقة بالجندر وحقوق المثليين جزءًا من النضال الأوسع ضد الاضطهاد والتمييز. وتُعارض الشيوعية علناً الأشكال المختلفة من التمييز، بما في ذلك التمييز القائم على النوع الاجتماعي أو التوجه الجنسي، وتدعو إلى إلغاء جميع أشكال الاضطهاد.
*ترى الشيوعية أن النظام الرأسمالي يستفيد من تقسيم المجتمع إلى فئات (مثل الجندر والأعراق) لتعزيز سيطرته. من هنا فهي تُعد قضايا الجندر وحقوق المثليين مرتبطة بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية التي تنتج وتستفيد من اللامساواة. ويُنظر إلى تحرير الجندر والتوجه الجنسي كجزء من تحرير الإنسان من القيود الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها النظام الرأسمالي.
* تدعو الشيوعية إلى توحيد النضال ضد جميع أشكال الاضطهاد، بما في ذلك الاضطهاد القائم على الجندر أو التوجه الجنسي، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من النضال العام من أجل العدالة الاجتماعية. وتشجع الشيوعية على بناء تحالفات بين الحركات العمالية وحركات التحرر الجنسي والجندري لتحقيق تغيير جذري في المجتمع.
* في الماضي القريب (تحديداً من خلال الجربة الشيوعية منذ قيام ثورة أكتوبر 1917 حتى سقوط جدار برلين وسقوط التجربة الشيوعية المدوي مطلع تسعينات القرن العشرين)، كانت بعض الأنظمة الشيوعية التقليدية متحفظة تجاه قضايا الجندر وحقوق المثليين، واعتبرتها “قضايا برجوازية” أو غير ذات أولوية. ومع ذلك، تطورت العديد التيارات الشيوعية المعاصرة لتعترف بأهمية هذه القضايا. وتواجه الشيوعية اليوم تحديًا في التوفيق بين مبادئها العالمية وبين الخصوصيات الثقافية والاجتماعية التي قد تتعارض مع حقوق المثليين أو المساواة الجندرية.
الحركة الشيوعية وحقوق المثليين
في وقت مبكر، سبق حتى قيام ثورة أكتوبر 1917 وتأسيس الاتحاد السوفياتي شارك المثليون في النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة كمحرضين ثوريين، ومنظمي نقابات، ومناصرين للحركات الاشتراكية والشيوعية والفوضوية منذ أيام كومونة باريس والأممية الأولى، عندما كانت هذه الفئات الثلاث قابلة للتبادل بالنسبة للعديد من الناس.
وقد أشار علماء تاريخ المثليين إلى النداءات التي وجهت إلى كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلز لإدخال اضطهاد المثليين في النضال الأوسع من أجل تحرير الطبقة العاملة. وهنا، وبصراحة، نجد من ماركس رفضًا لإثارة الموضوع، ومن إنجلز عداءً صريحًا للأفراد المشاركين.
وسرعان ما وجد المثليون المشاركون في تنظيم النقابات العمالية وغيرها من الأنشطة للحركة الاشتراكية في ألمانيا وغيرها من البلدان أنفسهم مستهدفين من قبل الشرطة ومهجورين من قبل نقاباتهم وأحزابهم. لا شك أن هذا ليس سجلاً يمكن أن يفخر به الشيوعيون على أي مستوى، ولكن يجب فهمه في سياقه. لقد وجدت الحركة الاشتراكية، التي كانت تناضل من أجل تحقيق الديمقراطية السياسية الأساسية في عالم لم يكن للطبقة العاملة فيه حتى الحق في التصويت خارج عدد قليل من البلدان، نفسها منقسمة بشأن العديد من القضايا، بما في ذلك كيفية الاستجابة للاستعمار، ومسألة حقوق المرأة، وحقوق الأقليات القومية المضطهدة.
وجاء أول دعم مهم تلقته حقوق المثليين المدنية في تاريخ العالم في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر من الحزب الاشتراكي الماركسي الرائد في الأممية الثانية، الحزب الاشتراكي/ الاجتماعي الديمقراطي الألماني (SPD).
حينها، زعم الاشتراكيون المحافظون، بما في ذلك أولئك الذين يهتدون بأفكار ماركس، كما فعلوا بشأن قضية حقوق المرأة وحتى مسألة الأقليات المضطهدة، أن هذه ليست “قضايا طبقية”، مؤكدين أنها من شأنها أن تنتقص من تنظيم الطبقة العاملة وتعيق الحركة من أجل الاشتراكية. بعد الثورة السوفييتية، انفصلت الحركة الشيوعية عن هذه المناهج الضيقة في التعامل مع قضايا العنصرية، والقوميات المضطهدة، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك.
ولكن، بخصوص كل تلك المسائل، كان هناك تاريخ طويل من مناهضة التمييز الجنسي، ومناهضة العنصرية، ومناهضة الاستعمار، والتي أمكن التأسيس عليها لأجل محاربة الانتهازيين اليمينيين واليساريين العقائديين في الحركة الاشتراكية. وكانت الحجج التي ساقها الاشتراكيون المحافظون وبعض اليساريين العقائديين ضد المشاركة النشطة في النضالات ضد العنصرية والتمييز الجنسي، تكتيكية دائماً. ولم يُنظَر إلى النساء والشعوب المستعمرة والأقليات القومية المضطهدة، كما كان الحال مع المثليين جنسياً، على أنهم “غير طبيعيين” وغير مقبولين، أو في أفضل الأحوال مشكلة طبية أو اجتماعية يجب التسامح معها طالما ظلوا مخفيين. والواقع أن وجود المثليين جنسياً ذاته كان محل إدانة من قِبَل الأديان المنظمة والقوانين التي تم تمريرها لتجريم الناس بسبب ميولهم الجنسية.
لا نبالغ إذا قلنا إن المثليين واجهوا، وما زالوا يواجهون في أجزاء من العالم، مستوى من القمع المجتمعي يشبه القمع الذي مارسته الفاشية الألمانية ضد الأشخاص من أصل يهودي. ولا يزال الادعاء قائماً بأن وجود المثليين يهدد المجتمع، وأنهم مرضى وحاملون للمرض، ولابد من عزلهم أو إبادتهم، كما فعل هتلر وزبانيته في “الحل النهائي” الذي طبقوه في معسكرات الاعتقال النازي سيئة الصيت.
وبما أن المثليين لا يمكن “العثور عليهم” من خلال المعلومات الموجودة على شهادات الميلاد أو من خلال الختان، وغير ذك من المظاهر، بالطريقة التي طارد بها الفاشيون الهتلريون الأشخاص الذين عرفوهم على أنهم يهود، فقد حظي المثليون بـ “الحماية” المتمثلة في ارتداء أقنعة اجتماعية أو تنكر، وعيش حياة مزدوجة، وكبت ميولهم الجنسية أو العيش في الخفاء أو في السر.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يضيف هتلر ونظامه النازي المثلث الوردي إلى النجمة الصفراء عندما وضعوا المثليين في معسكرات الاعتقال جنباً إلى جنب مع أعدائهم السياسيين و”العرقيين” وغير ذلك.
في حين رفض الماركسيون والشيوعيون دائماً “نظرية الرجل العظيم” للتاريخ من حيث المبدأ، هناك شخصان ساعد نشاطهما بشكل مباشر في تشكيل تطور حركة حقوق المثليين/تحرير المثليين على مستوى العالم في القرن العشرين. الأول، ماجنوس هيرشفيلد، في ألمانيا ما قبل هتلر، كان اشتراكياً. والثاني، هاري هاي، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، كان شيوعياً معلنا بغير تردد.
نحو شيوعية مثلية…عناصر نقد المثلية الجنسية
نُشر المفكر الإيطالي الرائد ماريو ميلي كتابه الموسوم (نحو شيوعية مثلية…عناصر نقد المثلية الجنسية) لأولمرة باللغة الإيطالية عام 1977، في وقت مبكر سبق اليقظة الجندرية التي عاصرت الألفية الثالثة ويعد هذا الكتاب معلماً نادراً في نظرية المثلية الجنسية الثورية.
من بين أهم الأعمال التي تناولت العلاقة بين المثلية الجنسية ورهاب المثلية الجنسية والرأسمالية، لا تزال أطروحة ميلي هذه تشكل تحديًا جذريًا لنظرية المثلية الجنسية والسياسات السائدة اليوم.
ببصيرة غير عادية، يتحدث ميلي عن الكفاءة التي تستغل بها الرأسمالية “الانحرافات” التي يتم “بيعها بالجملة والتجزئة”. في رأيه، يتطلب تحرير الرغبة المثلية الجنسية تحرير الجنس من الأدوار الجنسية الأبوية ورأس المال.ويفعل ميلي ذلك معتمداً بشكل كبير على ماركس والتحليل النفسي وصولاً إلى رؤية أصيلة مبهرة، وهكذا يمكن القول إن كتاب (نحو شيوعية مثلية…عناصر نقد المثلية الجنسية) هو عمل تأسيسي مهمل حتى الآن وستكون قراءته ضرورية لكل من يسعى إلى فهم المعنى الحقيقي للتحرر الجنسي في ظل الرأسمالية اليوم.
مقاربة الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية لقضايا الجندر الجديدة
يتباين تعامل الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية مع قضايا حرية المثليين والواقع الجندري الجديد، ويختلفبشكل كبير حسب السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية لكل بلد. يمكن تحديد بعض الاتجاهات العامة، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك تنوعًا كبيرًا في المواقف:
*في العديد من البلدان النامية، تُعتبر قضايا المثليين والهوية الجندرية من المحرمات أو تواجه رفضًا اجتماعيًا ودينيًا قويًا. قد تكون الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان حذرة في دعمها العلني لهذه القضايا خشية فقدان الدعم الشعبي أو مواجهة ردود فعل عنيفة. في بعض الحالات، قد تتبنى هذه الأحزاب خطابًا أكثر تحفظًا أو تختار التركيز على القضايا الاقتصادية والطبقية بدلًا من الخوض في قضايا تعتبر مثيرة للجدل اجتماعيًا.
** تركز الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية غالباً على قضايا النضال ضد الفقر والاستغلال الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية، معتبرة أنّ لها مركز الأولوية. وقد يتم النظر إلى قضايا الجندر وحقوق المثليين على أنها “ثانوية” أو “برجوازية” في سياق هذه الأولويات. ومع ذلك، هناك تيارات داخل بعض الأحزاب الشيوعية تحاول دمج النضال من أجل المساواة الجندرية وحقوق المثليين ضمن النضال العام من أجل العدالة الاجتماعية.
*تتأثر بعض الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية بالحركات اليسارية العالمية التي تدعم حقوق المثليين والمساواة الجندرية. قد تتبنى هذه الأحزاب مواقف أكثر تقدمية تحت تأثير هذه التحالفات الدولية. في المقابل، قد ترفض أحزاب أخرى هذه التأثيرات باعتبارها “استعمارًا ثقافيًا” أو محاولة لفرض قيم غربية على مجتمعات لها خصوصياتها الثقافية والدينية.
* تتبنى الأحزاب الشيوعية في بعض البلدان النامية مواقف تقدمية صريحة تجاه قضايا الجندر وحقوق المثليين. على سبيل المثال، في أمريكا اللاتينية، تدعم بعض الأحزاب الشيوعية والاشتراكية بشكل علني حقوق المثليين وتشارك في الحركات النسوية والجندرية. وترى هذه الأحزاب أن النضال لأجل المساواة الجندرية وحقوق المثليين هو جزء لا يتجزأ من النضال العام ضد الاضطهاد والاستغلال.
*داخل الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية، قد تنشأتناقضات بين الأعضاء الأكثر تحفظًا والأعضاء الأكثر تقدمية. قد يؤدي هذا إلى صراعات داخلية حول كيفية التعامل مع قضايا الجندر وحقوق المثليين. وفي بعض الحالات، قد تختار الأحزاب تجنب هذه القضايا تمامًا لتجنب الانقسامات الداخلية أو فقدان الدعم الشعبي.
*في بعض البلدان النامية، تتعاون الأحزاب الشيوعية مع الحركات النسوية وحركات المثليين لتعزيز حقوقهم. قد يتم هذا التعاون بشكل سري أو علني حسب السياق السياسي والاجتماعي. هذه التحالفات يمكن أن تكون قوية في تعزيز حقوق المثليين والمساواة الجندرية، خاصة عندما تكون مدعومة بخطاب يساري يعتبر هذه القضايا جزءًا من النضال العام من أجل العدالة الاجتماعية.
وشهد العراق بالذات، بعد زلزال التغيير الذي هزّه في 9 نيسان 2003، توجهاً منفتحاً في هذا السياق، تجسّد في ظهور “منظمة حرية المرأة” في العراق التي انشأتها ينار محمد، وفي عودة ظهور رابطة المرأة العراقية وتجدد نشاطها، كما ظهرت حركات داعمة للمثليين علناً تحت مظلة الحركات اليسارية عموماً، ومنها حركة (شفق) التي انطلقت في عام 2004 وأقامت لها مراكز في شارع السعدون، وفي المنصور، وفي منطقة الغدير وكلها في بغداد، كما ظهر بشكل خجول مركز (نور) في الناصرية، ومركز (دِل) في السليمانية بكردستان العراق، لكنها اختفت في أوج الحرب الطائفية عام 2006، ثم عادبعضها للظهور عام 2018 في أوج حركة (ثوار تشرين) لكنّ الأحزاب والتنظيمات الدينية سرعان ما قضت عليها، وقتلت ناشطيها ضمن من قتلت اثناء قمعها لحراك تشرين عامي 2018/ 2019.
ودعمت الناشطة الألمانية هيلا ميفيس من خلال مركزها المعروف باسم “بيت تركيب” في شارع “خربنده” في الكرادة الشرقية ببغداد، حركات الشباب والشابات الفنية وانشطتهم الثقافية، كما بات المركز ملاذا للمثليين من الجنسين، لكنه بقي ملاذاً غير معلن، لأن هدف المركز لم يكن تبني قضية المثليين، لكنه تسامح في استقبالهم بسبب نهج مديرته اليساري الدافئ. إلا أن اختطاف هيلا، ثم تحريرها عام 2020، قضى على المركز وعلى كل نشاطها، وهكذا اختفت الناشطة الألمانية هيلا ميفيسالتي كانت تتجول في شوارع الكرادة على دراجتها وردية اللون متحدية كل حدود الأحزاب الدينية، وانطفأ بغيابها (بيت تركيب).